يصرح عنوان هذا المقال بوجود منطق في إدارة الحكم بالمغرب، وهو الافتراض الذي نؤسس عليه رؤيتنا لهذا التساؤل من خلال الإقرار الأول بوجود منطقين مختلفين في إدارة الدولة بين عهدين: عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وعهد الملك الحالي محمد السادس. وأما الافتراض الذي يعلن في مقارباته بأن العهد الجديد هو استمرار للقديم، وأن ملكية اليوم هي ملكية الأمس، وأن منطق ممارسة السلطة لم يتغير، وأن المؤسسات لا تعمل إلا على تكريس أسلوب الهيمنة الدولتية بوصفها أدوات للنظام... فإنه افتراض لا نتقاسم منطقه، وأسلوب حجاجه، وأدوات تبريره، كما لا نتقاسم معجم استدلاله. وبالتالي، فإن المسافة فاصلة بين ما نبتغي التأسيس له من أفق في التحليل وفي الرؤية، وما بين رؤية الثبات التي تقطن في ذاك المنطق الذي يعتبر بالجديد في المغرب، وبأن كل الهوامش لا تعدو أن تكون انفتاحات لحظية، إما تحت إكراه الظروف الدولية أو ضغوط المجتمع.. "" من عنف الدولة إلى إرادتية الانتقال:
إن الإقرار بأن الدولة المغربية عرفت عهدن متباينين في أنماط الحكم، بين فلسفة الملك الراحل في السلطة وفلسفة الملك الجديد، إن لم تسعفه قرائن السياسة نفسها وأساليب الحكم، فعلى الأقل، فإن الاعتماد على قرينة الإرادة المعلنة في تدبير نمط السلطة قد يسعفنا لإقامة الفصل المنهجي بن المنطقين المذكورين. فالنظام السابق، بوصفه نظاما تسلطيا، لم يكن يخفي إرادته "في تصفية الثلثين" للإبقاء على الثلث الصالح من الرعايا. وهو بذلك يؤشر على أسلوب ممارسة السلطة تلفظيا، ناهيك عما ترجَمه الأسلوب المذكور من تحكمية شاملة خلفت آثارها العميق في منظومة الحياة العامة، بأكملها (في العلاقات الاجتماعية، في تراتبية الإدارة، في علاقة السلطة بالأفراد، في الأسرة، في المدرسة...)، ودون الدخول في تفاصيل هذا الأسلوب، في مستلزماته، ومسبباته، ومراميه، فإننا نفترض أيضا بأن العنف الشامل للنظام كان يندرج في سيرورة التوترات السياسية الخفية والمعلنة، للمرحلة السابقة. بل وفي سياقات ردود الأفعال المتشنجة التي فرضتها مركزية الدولة على حساب حقوق الإنسان، وكرامة المواطن، وسلم الأولويات الاجتماعية. ونتفق في هذا الصدد مع المنطق الذي يقول بأن تعرض النظام الملكي لمحاولتين انقلابيتين متتاليتين كان له الأثر البليغ فيما سيتم اعتماده لاحقا من خيارات سياسية، سواء على المستوى الداخلي، أو الخارجي... وكيفما كان الحال، فإن إجماع السياسيين والمحللين على إقرار عنف الدولة في المرحلة السابقة أمر لا خلاف حوله، كما تستوجب الإشارة إلى أن آليات العنف المعتمدة، في السياق السياسي، كانت تستلزم بالضرورة، أو بالمحصلة، عنفا مماثلا على المستوى الاقتصادي لتكريس الاستيلاب والاستغلال، وعنفا مماثلا على المستوى التقافي والرمزي والإعلامي لتكريس الإدلال، والتدجين، والهيمنة الإيديولوجية.
لقد مورس عنف الدولة في المجال السياسي المغربي منذ الاستقلال اعتماد آلية القمع المباشر مع ما كان يعينه من استعمال منهجي لأداوت الترهيب وتنحية رموز المعارضة السياسية، وكذا باعتماد عنف غير مباشر بتزوير المؤسسات، وتشويه الحياة السياسية. إلى جانب هذا المعطى، كان منطق الدولة يقوم على الاستقواء الداخلي والخارجي. فمن جهة، كان الحكم يراهن دوما على تحقيق إجماعات وطنية في مختلف القضايا السياسية سواء تعلق الأمر بقضايا التراب الوطني، أو بالاستفتاءات الدستورية التي كانت تروم تحقيق شرعية سياسية نظامية على حساب حركية المعارضة ومطالبها، وامتداداتها الاجتماعية. وعلى المستوى الخارجي، فإن علاقات النظام، باحتلاله لمواقع متقدمة في العلاقات الخارجية، وتفرده بمبادرات إفريقية، وعربية، ودولية مكنه من الاستقواء الدبلوماسي الجهوي، والقاري، والدولي، بنسج خيوط علاقات متينة مع كبريات العواصم العالمية.
وقد حملت المرحلة الانتقالية التي سيجتازها المغرب، قبل وفاة الحسن الثاني، ببضع سنوات عند إعلان "صدمة" السكتة القلبية "الشهيرة"، وما سيتلوها من توافق دستوري مرن بين قوى المعارضة والحكم، الكثيرَ من عناصر الهندسة اللاحقة التي ستوضب التمرير السلس للحكم إلى الملك محمد السادس، إيدانا بانتقال سياسي سيحمل معه أسلوبا جديدا في الحكامة السياسية، ستكون أولى تباشيرها المعلنة المفهوم الجديد للسلطة الذي كثف آليتين في نظام ممارسة الحكم: سياسة المصالحة الوطنية من جهة، وسياسة القرب من جهة أخرى. وهاته الأخيرة هي التي أطلقت دينامية المؤسسة الملكية، واحتلت بموجبها موقع المبادرة في الحقل السياسي المغربي. والديناميةُ المذكورة هي حصيلة إرادية للحكم في تحقيق الانتقال السياسي اعتمادا على منطلق العدالة الانتقالية على المستوى الحقوقي، والتناوب التوافقي على المستوى السياسي، والتنمية البشرية على المستوى الاجتماعي، وهي عناوين بارزة لاستراتيجية الانتقال الديمقراطي.
من مجتمع الرعايا إلى المجتمع الحداثي:
لعل أولى الانقلابات "المفاهيمية" التي تسترعي الانتباه في خطاب الدولة هو تحول الخطاب السياسي الرسمي في علاقته بالشعب، لا على مستوى شكلياته التلفظية فقط بل أيضا على مستوى مضامينه السياسية، وذلك باعتماد مفاهيم خاصة جديدة تتماشى وقيم المواطنة وثقافتها، على أنقاض المفاهيم التي اعتُمدت في الخطاب السياسي الرسمي للمرحلة السابقة والذي كان ينهل في مجمله من ثقافة الرعية والرعايا، ومن تمثلات الطاعة والخنوع والاستعباد. وقد تساوق الخطاب الجديد مع مجموع المتغيرات السياسية الوطنية بإقرار التناوب السياسي، والمصالحة الوطنية، ومراجعة قانون الحريات العامة بالإضافة إلى إحداث ومراجعة العديد من القوانين والتشريعات، مع فتح هوامش انفراج سياسي شامل سيمكن من إطلاق ديناميات ملحوظة في الحقل الإعلامي الرسمي، ومن تهيئة الأجواء لإطلاق دينامية اجتماعية ملحوظة تتمثل في بروز المجتمع المدني كمتغير اجتماعي يضطلع بوظائف حمائية، ودفاعية، ومطلبية، وتنظيمية موازية للتعبيرات التنظيمية التقليدية (نقابات، أحزاب، منظمات مهنية، تعاونيات...).
وهكذا، ستتوسع التعبيرات الجديدة للمجتمع المدني لتشمل حقولا اجتماعية خاصة، ونوعية، بالنظر لطبيعة الملفات التي تشتغل عليها. وكذلك بالنظر للإسهام المباشر في النقاش العمومي بخصوص العديد من القضايا الحيوية. ولابأس هنا أن نشير إلى التحول الملحوظ في علاقة الدولة بالنسيج الجمعوي، والتي أأشرت على تحول في منطق ممارسة السلطة من لدن الإدارة. إذ، في السابق كانت العلاقة مطبوعة بالتوتر، وبالحذر الشديد، وبالملاحقات، وبالتضييق المباشر باعتبار الإزعاج الذي كانت تحدثه الحركة الجمعوية للدولة، وللتشويش الذي كانت تتسبب فيه ضدا على توجهاتها الرسمية السائدة. واليوم، يبدو أن التعاون المشترك في القضاء العمومي بين المدني والدولتي أحد أهم السمات المميزة لطبيعة العلاقة بين الدولة والنسيج الجمعوي، حيث امتد تدخل المدني إلى الشأن السياسي سواء في مراقبة الانتخابات وتتبع مسارها مثلا، أو في الشأن العمومي كمحاربة الرشوة والغلاء، واستقلال النفوذ، أو حماية المال العام، أو المطالبة بتخليق المرفق العمومي...إلخ.
من نظام المركزية إلى مطلب الحكامة:
لقد أدت مركزية السلطة، ومركزة القرار والنفوذ إلى تكريس بيروقراطية إدارية عطلت بشكل مقصود قواعد الشفافية، والمشاركة، واللاتمركز. وأدت إلى إعمال مساطر لا ديمقراطية، تحتكم إلى المحسوبية، والعلاقات السلطوية في تعيين "خدام الدولة الأوفياء" بعيدا عن معايير الكفاءة، والجودة، والنزاهة. ولقد كان لهذا المنطق ما يبرره في فلسفة الحكم باعتبار أن تسييد ثقافة الأعيان، ونخب المخزن كانت جزءا من النسق السياسي والإداري العام لنظام الحكم. وهو ما استدعى إعمال الرقابة والوصاية على مختلف القرارات العمومية في مختلف المؤسسات "المنتخبة". كما كانت العلاقة بين السكان والإدارة تنبني على الخضوع والامتثال والتخويف. كما أن رسم الأولويات الاجتماعية لم يكن في جدول الأعمال لأن هاجس التنمية كان مغيبا أصلا في السياسات العمومية، وهو ما أدى إلى هدر الأموال، وإقامة الامتيازات، وتوسيع الريع، وتشجيع التهرب الضريبي، وإطلاق العديد من المشاريع المزيفة والوهمية، أو ذات النفع المحدود... وكان لهذا المنحى الأثر البليغ في إغراق المغرب في المديونية الخارجية، وتعطيل التنمية البشرية، وتوسيع دوائر الفقر، والحاجة، والهشاشة الاجتماعية، واعتماد الرشوة كنظام عام في مختلف المؤسسات والمرافق الإدارية،...إلخ.
إلى أن تم استشعار ثقل الأوضاع الاجتماعية، والضغوطات الاقتصادية في سياق دولي، وجهوي، ووطني، لا يقبل المزيد من الانزلاقات والمخاطر. فالتحولات الديمغرافية المتسارعة، والضغط السكاني على المدن، واللاتكافؤ الجهوي في مغرب غير متوازن فرض الاستجابة لمطلب التصحيح الهيكلي في علاقة الدولة بالمواطنين من زاوية الحكامة المطلوبة. إذ على الرغم من توسع عدد أقاليم المملكة، من 14 إقليم سنة 1959 إلى 72 إقليم سنة 2005، ظل نظام اللاتمركز وتداخل الاختصاصات وتدبير التراب الوطني مطبوعا بالبطء، وعدم النجاعة. وهو ما فرض الاهتمام بمطلب الحكامة التي تفرض تحديث الخدمات العمومية وآليات تحسين تدبير السلطة العمومية، ومراجعة الاختصاصات الجهوية والجماعية (تنظيم الجهة سنة 1997-ميثاق جماعي جديد 02).
ومع ذلك فإن آليات المحاسبة، والشفافية واتخاذ القرارات مازالت تعطل الإطلاق الحقيقي لهذا الشعار، كما أن التعطيل الممنهج للقانون مازال يسهل تفشي العديد من الظواهر المرضية، لدرجة أن الجريدة الرسمية للمملكة " شُبهت بمقبرة القوانين المعطلة". وهو ما يفيد أن مطلب الحكامة مازال يعرف ترددا على الرغم من التحسن الطفيف للخدمات العمومية، وتغيير ملحوظ في عقلية السلطات، واعتماد تعيين الأطر الإدارية بمقاييس جديدة تراعي الكفاءة في إسناد المنصب، على الرغم من هذا، فإن أنظمة اتخاذ القرار العمومي مازلت غير شفافة، ويطبعها الارتجال، ولا تخضع للرؤية الاستراتيجية العميقة. وهو ما يفسر فشل العديد من مشاريع الإصلاح (التعليم، الفلاحة، القضاء..) أو تعطيل مشاريع عمومية، أو إطلاق أخرى فاشلة.
يضاف إلى هذا المستوى تعطل النجاعة الحكومية بالنظر لتداخل الاختصاصات، ولضعف الأداء الحكومي، ولهشاشة العلاقة بين الجهاز التشريعي والتنفيذي.