إسبانيا بلد لا يدعم الدقيق والمواد الأساسية، لأنه لا يملك مثلنا صندوق مقاصة، لكنه يدعم مادة واحدة أساسية هي الجهل، اكتشفت مع الوقت أن الجهل مدعوم، قد يبدو هذا الكلام مفاجئا للكثيرين، لكنه الحقيقة عندما يتعلق الأمر بقضية الصحراء، فالإسبانيون الذين يدعمون انفصال الصحراء عن المغرب لا يعرفون في غالبيتهم أي شيء عن القضية، يجهلون كل التواريخ والمحطات، بل إن بعضهم لا يعرف حتى تاريخ خروج إسبانيا من الساقية الحمراء ووادي الذهب، أو السنة التي مات فيها الجنرال فرانكو، ومع ذلك يرفعون علم البوليساريو ويخرجون إلى التظاهر في شوارع مدريد وبرشلونة وإشبيلية...كلما علموا أنني مغربي إلا وفتحوا الملف أمامي وتبدت لي تلك الابتسامة التي يرسمها شخص يوقن أنه حاصر فأرا بين أربعة جدران، لكنني كنت أقلب المعادلة بجر النقاش إلى التاريخ لا السياسة، يبدأ العرق في التصبب من على جبين الإسباني الواقف أمامي ويريد أن ينهي الموضوع بسرعة وينسحب من النقاش، لأنه يجهل القضية التي يناصرها، ولأن مجتمعا بكل ترسانته السياسية والإعلامية يدعم جهله، وينحصر ضبط الموضوع على فئة قليلة من الباحثين. يوم اندلعت قضية أمناتو حيدر خريف عام 2009، كنت أشعر أنني محاصر بوسائل الإعلام والشارع، أفتح المذياع في الصباح على إذاعة "كادينا كوبي" وأستمع إلى وابل من الشتائم التي تخرج من الميكرفون الذي يجلس خلفه "فيدريكو خيمينيث لوسانتوس"، وحتى عندما أغير الموجة إلى إذاعة "كادينا سير" المقربة من اليسار لا يحدث أي تغيير، تتبدل الكلمات و اللهجة، لكن الرؤية السياسية هي نفسها، يقولون لك بكلمة: إن بلدك أيها الفتى، هو أصل الشرور...ودينك وهويتك وتاريخك هم الشيطان، بل حتى عندما دعاني أصدقاء إيطاليون لجولة ليلية، وجدت شعارات مكتوبة على الحائط كلها شتم لبلد أحمل جيناته وجواز سفره، و عندما دعتني المغنية الشهيرة، الصديقة " روسا ليون" إلى مرافقة وفد ثقافي مغربي-إسباني إلى جزر الخالدات، وجدت قضية الصحراء أمامي بمجرد ما وطئت قدماي مطار جزيرة "لاس بالماس". كانت جميع صحف الجزيرة تضع منشطات عن إضراب أمناتو حيدر عن الطعام، وظهر التغلغل الكبير للوبيات البوليساريو في كل مرافق الجزيرة، بل حتى عمدة لاس بالماس، الذي شغل منصب وزير للثقافة في عهد الاشتراكي فليبي غونزاليث لم يسلم من طرح سؤال عليه حول هذا الموضوع ونحن جلوس في ندوة عن التقارب الثقافي بين المغرب وإسبانيا، وبما أن الرجل ثعلب سياسي مجرب، فقد تهرب من الجواب ببراعة سياسية كبيرة محيلا على تصريحات وزير خارجية إسبانيا ميغيل أنخيل موراتينوس الذي أصابته قضية أمناتو بالجنون تلك الأيام. ستكون المفاجأة عندما سيرفض شاب يدعى توماس مرافقتنا في الزيارة، فقط لأننا مغاربة، ولأنه من أنصار البوليساريو، كانت علامات الغضب بادية على محياه وينظر إلينا بازدراء واضح، وفي النهاية وافق على اصطحاب قبيلة "الأعداء" خلال ذلك اليوم، ظللت أراقبه، وأستمع إلى تعليقاته عن بعد، وعلى طاولة الغذاء كانت الفرصة مواتية لفتح الموضوع، ألقيت في وجهه بأسئلتي المعتادة حتى أتبين درايته بالقضية، واكتشفت أنه لا يختلف عن العشرات الذين التقيتهم في شبه الجزيرة الإيبيرية، وهناك حاصرته برأيي الذي لا يسقط في وطنية عمياء، وأحرجته بسؤالي: كيف لكم أيها الإسبانيون الذين تحاربون الانفصال وكنتم حاسمين في الوحدة في كل شيء بعد وفاة فرانكو أن تناضلوا من أجل الانفصال في بلد هو جار لكم؟ بقي ينظر إلي مشدوها لأنه لا يملك جوابا ولا ثقافة تمكنه من الجواب، وفي تلك اللحظة انقضضت عليه، وبقي صامتا بينما بدت صديقة له مؤيدة لي في كلامي،لأنه منطقي يمزج بين الاقتصاد والاستقرار الجيو-استراتيجي لإسبانيا التي تبعد ب14 كيلومترا عن المغرب، وأمن جزر الخالدات التي لها حدود بحرية مع الصحراء ويهمها استقرارها. عدت الى مدريد بعدها بأيام، ووجدت ان الأجواء مازالت محتقنة، رن هاتفي ذات مساء، وكان المتصل مدير صحيفة" "si, se puede التي توزع بمترو مدريد، أزوده بمقالاتي لعمود رأي، كلما أسعفني الوقت والعبارة، وقبل أن ينهي مكالمته سألني: كيف تقضي هذه الأيام في مدريد؟، فقلت له دون تردد: أشعر أنني فلسطيني يعيش في قلب تل أبيب.