قبل ثلاثة عقود ،أقل أو أكثر قليلاً،، في محطة القامرة، الوجه البشع الذي يستقبل غرباء العاصمة، سيترجل شاب من حافلة تحمل روائح المغرب العميق، تاركاً حياته الصغيرة المعلقة فوق جبل قاسٍ،كما تعلق المنازل في لوحات الطبيعة الميتة،حاملاً ذكريات حية :عن طفولة أدركتها الرجولة على حين غرة،عن أسرة عادية تعاند الزمن بالإكثار من النسل،عن بضع إخوان حوّلتهم لمسة سحر سبعيني غامض إلى رفاقٍ ،يجمعهم الدم و الذكريات ،مضافا إليهما الكثير من الأفكار المشتعلة وأحلام المرحلة،وأناشيد الشبيبة. الحياة الصغيرة التي تركها وراءه-و عود إليها هنا و الآن في "أناشيد الذاكرة"-مليئة بالكتب و الأقلام،برائحة الأم والتراب،بالفشل اللذيذ في الحب الأول و قصائد البدايات، بالأوهام البيضاء في السياسة و الحياة .حياة صغيرة كان لابد لها -ربما-من عبور تجربة اعتقال متعسف ،لتمهر انتمائها لما تسميه البلاد اليوم ببرودة أعصاب مثيرة: سنوات للرصاص. في الرباط سيبدو صاحبنا مسكوناً،بقرءات جيل ثمانيني فتح أعينه على كتابات و أدبيات اليسار العربي،لحظة عبوره الفائرللقرن الماضي،و على أعمال أدبية للكبار الذي طبعوا عصرنا،في الرواية ،الشعر،والمقالة. الشاب العشريني اليافع،سيلج بلا مقدمات ،بسلاسة وبلا ترتيب مسبق ،عالم الصحافة المكتوبة،مشتغلاً في ملحق ثقافي لجريدة يومية.مزاوجاً بين العمل و الدراسات العليا في الإعلام والصحافة.سيغادر صفوف البروليتاريا الرثة التي انضم إليها مزهواً بأوهام الأيديولوجيا في "وجدة"،ليصبح برجوازياً صغيراً رباطياً او بتعبير أدق طارئاًعلى الرباط،يقرأ ويكتب في النهار،ويعالج أعطاب الروح في المساءات الدافئة رفقة الأصدقاء و الزملاء :طلبة ،صحافيون ،كتاب،و شعراء.. في الملحق الثقافي للميثاق،سيجد نفسه مباشرة بلا وسيط غير آلة تسجيل عتيقة،أمام أولئك الذين طالما شكلوا جزءا من مخياله و استيهاماته،ومن عوالمه البعيدة: في ثانوية هوامش الريف ،داخل الزنزانة المنسية،في مدرجات كلية الآداب،نعم إنه هُوَ،و ليس شخصاً آخر، من يحاور على صفحات الجريدة:جبرا إبراهيم جبرا،حنا مينا ، أدمون عمران لمليح علي أومليل ،.إدريس الخوري ،محمد الأشعري ... في نفس السجل ،لكن في مغامرة أخرى،سيكون صاحبنا بالتأكيد ،أحد عناوين مجدٍ مستحقٍ للقناة الثانية لحظة بداياتها الأولى ،عندما قررت الدولة ،في أعلى مستوياتها،أن تقدم للمغاربة تلفزة تحترم ذكائهم،تلفزة تتحدث لغتهم .لقد كان هناك ،لحظة تماهت النخب المغربية مع ماينتج من خطاب و مفردات و قاموس و صور، داخل تلفزة ؛كانت تريد أن تصالح المغاربة مع ذواتهم ،مع تاريخهم،مع مثقفيهم ،مع سياسييهم. نعم لقد كان أحد صناع حالة المفاجئة السعيدة ،والمغاربة يشاهدون روبرتاجات عن الفقيد عبد الرحيم بوعبيد،و ن بلحسن الوزاني وعبد الخالق الطريس إلخ..،وهم يشاهدون رموز اليسار و المعارضة و الثقافة التقدمية،يحلون تباعاً على بلاتوهاتها. بآياد بيضاء ،بقلب أنصع بياضاً،بذاكرة طفل لا تحتفظ بمكان للأحقاد،يجيد صاحبنا ،لعبة الأخ الأكبر -حتى عندما يتعلق الأمر بمن هم أكبر سناًً-الأخ الذي يفتح الأبواب والنوافد و المسالك أمام المسارات الملتبسة للمبتدئين و الصحافيين الشباب ،و قبل أن يفتح قلبه للآخرين ،بلا منة و لا انتظار اعتراف،يفتح أولاً بيته ؛ألم تكن شقة أبي عنان المريني،(زَاوِْيَة)،يبدو فيها المحتفى به -من فرط التواضع وكرم الطبع-كمجرد ضيف خفيف ،أو كظل عابرٍ في زحمة الأسماء و الأصحاب. اليوم عندما تعود الذاكرة عقدين إلى الوراء،إلى ذلك الصالون الممتد ،حيث تتزاحم الكتب و الجرائد و الأدوية والوجوه والأفكار ،وعندما نعيد تركيب لوحة تلك الذاكرة،سنعثر على عدد مهم من كبار الصحافيين و مدراء التحرير والوزراء و المدراء الكتاب و كبار المراسلين ،كلهم مروا من هناك! كم من الأسماء التي تؤثث اليوم ،فضائنا السمعي و البصري،دشنت دهشة بداياتها،في ضيافته ،وهو المنقب الدؤوب،الذي لا يعيد نسخ ريبيرتوارات زملائه ،باحثاً عن الجديد ،فاتحاً المجال للشباب الجامعي ،للباحثين الذي يتلمسون بالكاد موطأ قدم داخل الساحة العمومية ولأنه كائن لا يحيا خارج ماء الصداقة،تعود على أخد نصيبه من أوكسيجين المودة كلقاح ضروري و مضادٍ حيويٍ ،لهواءِ الرباط الفاسد، ورغم ما لحقه بالتأكيد من لوثة الخيانات و حرقة اللاعتراف،فان طابعه البدوي جعله دوماً مصراً على أن لاَ يُدبر صداقاته بمنطق العلاقات العامة للصحافي المتذاكي ً،الذي يحتاج لمجرد محفظة مليئة ببطاقات الزيارة وأرقام الهواتف،وليس لأصدقاء يقتسم معهم شرطه الإنساني و غرفه الداخلية الحميمة. إن الصحافة عند صاحبنا، ليست مجرد مهنة ،بل هي طريقة في الحياة و شكل للالتزام.لذلك لم يختزل هويته الوظيفية/الثقافية في مجرد عمل بأجر و رؤساء،و لذلك ظل مدافعاً عن فكرة الإعلام العمومي ضد كل واجبات التحفظ الكاذب،الذي قد تفرضه المواقع و المسؤوليات،منافحا عن الديمقراطية و العدالة و التقدم والتغيير. لا أريد لكلمة الاحتفاء هذه،أن تلبس وزرة مقدم نصائح ،و لا أن تتحول إلى وصفة عسيرة لصيدلي،لكن لابأس من رسالة صغيرةٍ في باب الشّطَطِ في الصداقة: ...لكَ الآن يا صاحبي،أن توازن قليلاً بين كليمترات المشي الصباحي في حزام "هلتون"،و بين ساعات السهر .أن توازن قليلاً بين الإقبال على الحياة و بين الحرص على نسبة الملح في الطعام.أن توازن قليلاً بين قلق وتوتر العمل و تتالي الخيبات ،و بين التحايل على ظغط الدم المرتفع. لمْ تعُد وحدك يا صاحبي! لم تعد وحدك يا صاحبي،ف"حُسَامْ"، شبيهك الصغير في الغضب والأناقة ،يُحبك جاهزاً وفي كامل لياقتك، ليمارس وإياك رياضته المفضلة:لعبة الأدوار. أما "هَدِيلْ" فتحتاجك في الصباح الباكر طازجاً بلا ألم ولا أوجاع من أثار عدوان الليلة السابقة! ... صاحبي،دُمتَ للصداقة والأصدقاء،في انتظار نَصِكَ المُشْتَهى! *نص الكلمة التي ألقاها الباحث والكاتب حسن طارق في حفل تقديم وتوقيع كتاب أناشيد الذاكرة للصحافي والكاتب عبد الصمد بن شريف بالمحمدية يوم الجمعة 21 يونيو2013