مرت الاحتفالات باليوم العالمي لحرية الصحافة هذه السنة بشكل خافت. فشخصية السنة هذه الأيام بدون منازع هي الخنزير الذي احتلت صوره كل شاشات القنوات وصفحات الجرائد. وبينما علماء المعاهد الطبية العالمية منشغلون في البحث عن دواء مضاد لفيروس «أنفلونزا الخنازير»، لم يجد أحد كتاب الكلمات في مصر من حل لمواجهة هذا الداء سوى كتابة قصيدة للمغني الشعبي شعبان عبد الرحيم المشهور بلقب شعبولا يثمن فيها قرار الحكومة القاضي بإعدام جميع خنازير مصر. وحسب الشاعر إسلام خليل، فقصيدته لها هدف قومي هو توعية الناس بخطر «أنفلونزا الخنازير»، ولذلك يقول في البيت الثاني منها: «ماهو يا الخنازير تعيش ونضحي بناس كثير، يا تعيش الناس سليمة وطز في الخنازير». وهذا ذكرني بما قاله ضابط في البوليس لأحد الصحافيين من أن المغرب يستطيع أن يعيش بلا صحافة لكنه لا يستطيع أن يعيش بلا أمن. وترجمة هذه المقولة باللهجة المصرية تصبح كالتالي: «ماهو يا الصحافيين يعيشو ونضحي بناس كثير، يا تعيش الناس سليمة وطز في الصحافيين». لذلك مر الثالث من ماي هذه السنة باردا لم تسخنه سوى تقارير منظمة «فريدوم هاوس» و«مراسلون بلا حدود» اللتين صنفتا المغرب في مؤخرة ترتيب الدول التي ليست فيها حرية للصحافة. وهكذا وجدنا أن تونسوالجزائر حصلتا، مثلا، على ترتيب أفضل من المغرب، مع أنه ليس هناك صحافي واحد في تونس أو الجزائر يستطيع أن يؤلف نصف كتاب حول الرئيسين الأبديين زين العابدين بنعلي وبوتفليقة مثلما يصنع الصحافيون المغاربة والأجانب مع ملك المغرب. وخلال الأسابيع التي مضت، صدر كتابان لصحافيين أحدهما مغربي والثاني إسباني يتحدثان عن الملك ومحيطه وتفاصيل من الحياة الشخصية، وفيها نعثر على صفحات تتحدث عن الملك وطفولته وشبابه بلغة تفتقر أحيانا إلى اللياقة، ومع ذلك لم يصدر أي قرار بمتابعة الصحافيين، ولم يتم إزعاج الصحف والمجلات التي نشرت فصولا منتقاة من الكتابين على صفحاتها. وهذا طبعا لا يعني أن المغرب جنة الحريات الصحافية، لكن أن يتم وضع تونسوالجزائر في مرتبة أحسن من المغرب فهذا هو العبث بعينه. مشكلتنا الحقيقية في المغرب ليست مع حرية التعبير، فالصحافة المغربية تكتب في كل المواضيع ويقتحم بعض صحافييها حتى غرف البلاط لكي يكتبوا عن الطبق المفضل للأميرة واللعبة المفضلة للأمير. وقد وصلت حرية التعبير بالبعض إلى طرح سؤال: هل القرآن لازال صالحا لهذا الزمان أم لا. فهل هناك حرية أكبر من هذه. مشكلتنا الأساسية والكبرى في المغرب ليست مع حرية التعبير ولكن مع القضاء غير المستقل وغير العادل الذي يتم توظيفه لتصفية الحسابات مع الصحافة المستقلة والجادة. وحتى لو كان لدينا قانون صحافة يشبه قانون النرويج فإن تطبيقه سيفشل، لأننا سنحتاج قضاء النرويج لإخراجه إلى أرض الواقع. ففي ظل قضاء مرتش وفاسد كالذي نعيش تحت أحكامه، سيكون مصير كل قوانين الصحافة الفشل. لذلك، فأنا شخصيا لا أحتفل باليوم العالمي للصحافة، كما أنني لا أشارك في جائزة الصحافة التي تنظمها وزارة الاتصال. فقد فقدت شهية المشاركة في الجوائز منذ اليوم الذي شاركت فيه في مسابقة الشعراء الشباب التي ينظمها اتحاد كتاب المغرب تحت رعاية أحد البنوك بداية التسعينيات، وعوض أن أحصل على خمسة آلاف درهم التي كانت قيمة الجائزة آنذاك، والتي خططت لطرق صرفها طيلة ستة أشهر، حصلت على شهادة تافهة وقعها رئيس اتحاد كتاب المغرب تنوه بقصائدي وبموهبتي الشعرية الواعدة. يحلو للصحافيين أن يسموا مهنتهم مهنة المتاعب، أنا أفضل أن أسميها مهنة المصائب، خصوصا في بلاد كالمغرب كل شيء فيها مقلوب رأسا على عقب. خلال خمس عشرة سنة من ممارسة هذه المهنة كمتعاون في البدء ثم كمراسل ثم كصحافي متدرب فصحافي مهني فمدير نشر، شاهدت ما لا حصر له من الصحافيين وأنصاف الصحافيين وأشباه الصحافيين. وكم مرة فكرت في التخلي عن هذه المهنة وتغييرها بمهنة أخرى لا تستعمل فيها الأقلام كخناجر تطعن من الظهر ولا تباع فيها المقالات مثلما تباع صفحة الإعلان، ولا يغير فيها الإنسان جلده بمجرد ما يغير منبرا بآخر. وانتهيت إلى احتراف مهن حرة لا علاقة لها بالصحافة، من البناء إلى عجن «البيتزا»، ومن غسل الصحون إلى جمع الكؤوس في البارات والملاهي الليلية الصاخبة. لكن فيروس الصحافة ظل يعيش في شراييني، ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى نجح في إعادتي إلى مهنة المصائب. وطيلة كل هذه السنوات، فهمت أن قبيلة الصحافيين واحدة من أخطر القبائل، فهي مقسمة إلى أرخبيلات وجزر معزولة، وبين فينة وأخرى تنشب حروب طاحنة بين أفراد هذه القبيلة، وتتفرق دماؤهم بين صفحات الجرائد. أحيانا يحب القراء التفرج على هذه المعارك الدامية، وأحيانا أخرى يشيحون بوجوههم، أقصد بجيوبهم، عنها. شخصيا، خضت معارك صحافية على أكثر من جبهة، بعضها أفتخر به وبعضها الآخر أخجل عن مجرد ذكره. ليس فقط بسبب سخافة الموقف ولكن أيضا بسبب صغر الخصوم وضآلتهم. والحروب الكلامية بين الصحافيين جنس صحافي قائم بذاته عرفتها كل جرائد العالم. وهو ضروري أحيانا للقراء لكي يكتشفوا الوجه الآخر الأكثر قسوة لصحافييهم المفضلين. في المغرب ليس سهلا أن تكون صحافيا مستقلا وحرا وغير تابع لمؤسسة حزبية أو مالية. لكي تفرض اسمك وتحفر مكانك تحت الشمس يجب أحيانا أن تلجأ إلى الضربات تحت الحزام لتدافع عن نفسك، خصوصا في بلاد كالمغرب يعتبر فيها النجاح خطأ قاتلا. تعرفت على صحافيين أنقياء وشجعان لا يغيرون مبادئهم بأي ثمن. أستحضر هنا المراكشي الرائع عبد الفتاح الفاكهاني الذي قدم استقالته من جريدة العلم بسببي. وقد كنت حينها مجرد متعاون مع الجريدة أتقاضى أجرتي بعد أن يقيسوا طول مقالاتي بالسنتمتر. ولكي أصل إلى ألف درهم في الشهر كنت مجبرا على الكتابة بكثرة حتى يجد صاحب المتر سنتمترات محترمة يقيسها، ولسوء حظ عبد الفتاح أنه نشر لي مقالتين متتابعتين في الصفحة الأخيرة التي كان يشرف عليها، فلم يرق ذلك لعبد الكريم غلاب، الذي كان مع الطبقة البورجوازية ويكتب عمودا يسميه «مع الشعب». فوصل الأمر إلى عبد الفتاح فما كان منه سوى أن كتب استقالته ووضعها فوق مكتب رئيس التحرير وذهب إلى بيته. بعد فترة قصيرة، اشتغل مع وكالة الأنباء الفرنسية وأصبح وضعه أحسن من السابق. في الأول، شعرت بالذنب لأنني تسببت في استقالته، لكنني عندما علمت بأنه اشتغل في الوكالة ابتهجت من أجله وقلت في نفسي رب ضارة نافعة. ومثلما عرفت صحافيين مهنيين وأنقياء، عرفت صحافيين انتهازيين ووصوليين بلا مبادئ وبلا كرامة. أعرف صحافيا آخر لا يوقد النار في بيته ولا يشتري الأكل لأنه كان يبرمج يومه على الأنشطة التي تعرفها العاصمة. في الصباح تجده في فندق يشارك في إفطار مناقشة، وعند الظهيرة تجده في فندق آخر مشاركا في ندوة يعقبها غذاء، وفي المساء يذهب لكي يحضر افتتاح معرض تشكيلي لكي يشرب العصير ويأكل الحلويات. أما السهرة فغالبا ما يقضيها باحثا عن «نشاط» في مركز ثقافي من تلك المراكز الأجنبية أو سفارة تحتفل بعيد بلادها الوطني، حيث المشروبات الروحية تضمن له العودة إلى منزله محمولا على الأكتاف، حتى إن بسببه ألغت السفارة الفرنسية بالدار البيضاء الكحول من لائحة الطعام التي تقدمها إلى الصحافيين المغاربة الذين تستدعيهم لأنشطتها. أعرف صحافيا تكتب له زوجته، وآخر يكتب افتتاحية مديره. أعرف صحافيا يبيع مقالاته بألف درهم للمقال لفناني البارات من الدرجة الرابعة، ويقدمهم في الصفحة الأولى لجريدته كفنانين محترمين. أعرف صحافيا ممنوعا من الكتابة في المغرب لعشر سنوات، بسبب رسم تافه، اسمه علي المرابط. أعرف صحافيين يشتغلون صحافيين في النهار وفي الليل يتحولون إلى مخبرين. أعرف صحافيين يبيعون أثاث بيوتهم لإكمال الشهر ولا يبيعون أقلامهم لمن يدفع أكثر. أعرف أشكالا لا تعد ولا تحصى من الصحافيين. فيهم الجيد والرديء، ابن الناس وابن الحرام، المهني والمتطفل، النزيه والمرتشي، الذي قضى عشرين سنة في المهنة دون أن ينجح في اقتناء بيت يجمع فيه أسرته، والذي اشترى البيت والسيارة منذ العام الأول. أعرفهم جميعا، فنحن كما ترون نشتغل في مهنة كل واحد فيها يعرف عن جاره كل شيء. لذلك لا أحب الاحتفال باليوم العالمي للصحافة، ولا أحب المشاركة في مسابقات وزارة الاتصال. أنتظر أن يكون لدينا قضاء مستقل وعادل حتى نفرح ونحتفل.