كثرت اليوم الخرجات السياسية والإعلامية، خاصة لقادة حزب العدالة والتنمية الذي يقود العمل الحكومي الحالي، وهي خرجات لم تستثن أي أحد وأية مؤسسة، وكأن هذا الحزب أصبح على أتم استعداد لإعلان الحرب على الجميع، وكأن الوقت قد حان ليباشر "فتوحاته الدينية" الموعود بها منذ تأسيسه إلى الآن. فقبل الوصول إلى اضطهاد شعب بكامله، ها هو التاريخ المغربي يشهد عمليات اضطهاد الحزب الأغلبي للمؤسسات ومختلف الفاعلين، والعمل على إقصائهم وتهميشهم، واستبعاد الخيارات السياسية والتوجهات الديمقراطية، والعودة بصيغة أخرى إلى الدفع في اتجاه تقوية شروط وعوامل التطرف بكل أشكاله وأنواعه؛ الديني والسياسي والاقتصادي والثقافي والسياسي ... إلخ. تقوقع حزب العدالة والتنمية وانغلاقه، وعدم انفتاحه على الأحزاب الأخرى ولو داخل أغلبيته الحكومية، وأسلوب إقصائه وتهميشه لباقي الأحزاب الموجودة في موقع المعارضة، ودخوله في نفق تأزيم العلاقة مع الجميع، وعدم اكتراثه لما يمكن أن ينتج عن ذلك من مطبات، وعدم السعي إلى البحث عن حلول للمشاكل السياسية المتراكمة لحد الآن، كل ذلك لا يمكنه إلا أن يدفع بالمغرب إلى وضع الاحتقان السياسي والاجتماعي. وتبرير حزب العدالة والتنمية لتقوقعه بالتخوف من استفادة المفسدين من الانفتاح الديمقراطي، هو تبرير يتخذ لنفسه طابعا افتراضيا، والتقدير السياسي لا يبنى على مثل هذا النوع من الافتراضات غير المدعومة ولا المسنودة واقعيا أو سياسيا، مثله في ذلك مثل التقدير الفقهي. لأن السؤال الذي ينتصب في وجه رئيس الحكومة الحالي هو: ما الذي خطط له كي يحول دون الوقوع في مطب هذه النتيجة؟ ألم يكن بإمكان رئيس الحكومة بعد مرور كل هذه الفترة من قيادة العمل الحكومي أن يحدد للشعب المغربي بالضبط من هم هؤلاء المفسدين؟ ألم يكن بإمكانه الإعلان عن مقومات وخصائص الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الملوح به؟ أم أن الأمر يتعلق بالمثل الذائع الصيت "فاقد الشيء لا يعطيه". إن ما أصبح يخيفنا بقوة اليوم هو أن يصبح التقدم التنموي والديمقراطي والانفتاح السياسي والحضاري مدخلا للتمييع من طرف القوى المحافظة كالتي تقود العمل الحكومي الحالي، وأن يصبح مطية للتملص من الحزم والصرامة المطلوبين في إطار التعاطي مع كل الظواهر الاجتماعية والسياسية المرضية، التي تهدف إلى النيل من الديمقراطية ذاتها. يبدو أن ارتفاعا جديدا في أسعار بعض المنتوجات بدأ يلوح في الأفق، وهو ما ينذر بضربة أخرى موجعة للقدرة الشرائية لأغلب الفئات والشرائح الاجتماعية المغربية، وهو ما يتناقض كلية مع شعار "إرساء العدالة الاجتماعية" الذي ما فتئت الحكومة الحالية تتغنى به على مستوى الخطاب، وتعمل على ضربه على مستوى الممارسة. ويبدو أن ارتفاعا جديدا في حدة المواجهة والصراع بين حزب العدالة والتنمية الذي يقود العمل الحكومي وباقي الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين والجمعويين والمهنيين... بدأ يصل إلى درجاته القصوى، وهو ما ينذر بزرع بذور القلق بخصوص الاستقرار السياسي كما لوح بذلك والي بنك المغرب. وهو ما يتناقض كلية مع شعار "الإيمان بالديمقراطية" الذي ما فتئ حزب العدالة والتنمية يتغنى به على مستوى الأدبيات الحزبية، ويعمل على ضربه على مستوى الممارسات السياسية. فحتى رئيس مجلس النواب لم يسلم من تسلط رئيس الحكومة وأمين عام حزب العدالة والتنمية، حيث عمد إلى مقاطعته وعدم احترامه والحيلولة دون التعبير عن رأيه، فقط لأنه لم يكن راضيا ولا مستسيغا لما سمعه منه، دون أدنى مراعاة لأدبيات حسن الإنصات والتحاور، وهو ما يتناقض كلية مع شعار "القبول بالاختلاف واحترام الآخر"، الذي ما فتئ هذا الحزب يتشدق به، دون أن يجد له تصريفا على مستوى الممارسة. ولم يكن هذه الأيام الاتحاد العام لمقاولات المغرب في منأى عن الهجوم العنيف، الذي شنه أحد قياديي حزب العدالة والتنمية، حيث تم تجريده من "وطنيته" ووسمه بالسعي وراء خدمة المصالح الفرنسية، علما بأن هذا الاتهام لم يصدر سوى عمن كان طالبا للحماية الفرنسية في إحدى الوقائع السياسية المغربية المعاصرة، التي لم تنس بعد من طرف الرأي العام الوطني. وكل هذا لم يكن كافيا بالنسبة للحزب الأغلبي، بل خرج رئيس فريقه النيابي بالمطالبة برفع سقف الصراع السياسي، والدخول في مرحلة اتخاذ إجراءات وتدابير تصعيدية، في وجه كل من ينتقد أو يعبر عن رأي مخالف أو يتموقف بشكل "غير لائق"، ولم يبق لنا سوى انتظار رفع الحزب الذي يقود العمل الحكومي اليوم لافتة مكتوبة يطالب فيها برحيل كل الفاعلين عن الساحة السياسية، ليخلو له الجو لإنفاذ سياسته ذات المرجعية الدينية على الشاكلة الأفغانية. علما بأن هذا الحزب لا زال لحد اليوم يعتبر أن الأمور كلها على أحسن ما يرام، فاقتصادنا والحمد لله معافى ولا ينقصه إلا شيء من الصبر، والحكومة بإذن الله تشتغل في أجواء عادية ولا يعكر أجواء انسجامها سوى شيء من الحسد الذي يعمي قلوب بعض الفاعلين، وتنزيل الدستور سيعرف طريقه إلى الإنجاز وفق مشيئة الله ولا يلزمه إلا قليلا من التخطيط التشريعي وكثيرا الانتظار، والإصلاح سيقف على رجليه بحول الله مع قوته رغم كيد الكائدين ولا يلزمه سوى قليل من طول النفس وما ذلك على المغاربة بعزيز. والأزمة لا وجود لها سوى في ذهن وتحليل وانتقاد الحاقدين، وبعض الوقائع والأحداث المعزولة هنا أو هناك ما هي إلا من افتعال بعض المشوشين المغرضين. أما إن وقع وسقطنا في محظور المزيد من إفقار الشعب المغربي لا قدر الله، أو هوينا في اتجاه سحق الطبقة المتوسطة لا سمح الله، أو انحرف مسار محاربة الفساد وزاغ في اتجاه محاربة المنافسين والخصوم السياسيين وهو ما ليس من صميم العزم والنية ولا من ثوابت التدين والدين، أو انساق بعض وزرائنا وقياداتنا الحزبية وراء سوء تقدير الوضع السياسي الملتبس فالله شاهد على حسن النوايا، ولا يسعنا سوى القول: "لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا". يتبين أن الأمين العام لحزب العدالة والتنمية غير مشغول نهائيا، سواء بالخلاف القائم بين الأحزاب، أو بين مكونات الأغلبية الحكومية، أو بين المؤسسة الحكومية والمؤسسة التشريعية، ولا حتى بين الحكومة ومختلف الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين والثقافيين، بل غير عابئ ولو وصل الخلاف بين المؤسسات كلها وبين الشعب نفسه. يكفي أن يكون اليوم متزعما وقائدا للعمل الحكومي، ويكفيه أن يعمل على المزيد من تثبيت أقدام حزبه داخل مؤسسات الدولة، إذ ليس المهم أن نكون في خضم أزمة حكومية أو نكون بصدد الانتقال إلى العيش في ظل أزمة سياسية حقيقية وخانقة، بل الأهم بالنسبة إليه هو الاستمرار في قيادة العمل الحكومي، بمنطق "أنا ومن بعدي الطوفان". فها هو رئيس فريق حزب العدالة والتنمية يعبر بالواضح متوجها إلى رئيس مجلس النواب بالقول: "امْشِي بْحَالك... دُونَ الرجوع إلى الدستور، حْطْ السْوارات وارْحَل...". فأين هي اللياقة في التعامل يا ترى؟ وأين تلك المنظومة الأخلاقية الدينية المفترى عليها يا ترى؟ ألا يحمل هذا الخطاب قدرا كبيرا من التعبير عن مشاعر الحقد والكراهية؟