إن الديكتاتورية صفة موجودة في كل الناس بمختلف طبقاتهم، الغنى والفقير، القوى والضعيف، المتعلم والجاهل، الكبير والصغير، ولكل فئة من الفئات المذكورة وقت محدد تُظهر فيه مواهبها الديكتاتورية على كل من حولها إذا كانوا ضعفاء.. والضعف هنا قد يكون ضعفا علميا أو ثقافيا أو فكريا أو بدنيا أو ماديا، وكما أن للضعف أنواعا فإن للديكتاتورية أنواعا منتشرة بين طبقات المجتمع، ويظهر ذلك جليا في تعاملنا مع من يخالفنا الرأي. إذ يغضبنا كثيرا هذا الاختلاف، وفي أي موضوع كان، وتصر الغالبية العظمى منا على تكذيب الآخر واتهامه بالجهل أو الجنون أو الكفر في بعض الأحيان. والطامة الكبرى هو عندما يتمسك كل طرف منا برأيه على أنه هو الصواب وأن من يخالفه جاهل ومخطئ وعلى الباطل، حتى لو كان الكلام في أتفه الموضوعات مثل الحديث عن مباراة في كرة القدم. فكل شخص متعصب لرأيه لدرجة الديكتاتورية المجنونة. سلوكات تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها مع مرور الزمن حولت الإنسان المغربي إلى ديكتاتور ساكن سلبي مستسلم لكل شيء، راض بكل شيء، مغلوب على أمره ممن هم أقوى منه، ينتظر الفرصة السانحة ليتحول بدوره من السبات إلى الهيجان المتوحش الذي يمكن أن يلتهم أي شيء وكل شيء، ويبدأ في إظهار مواهبه المدفونة في عدم احترام الغير والتعدي على حريات الآخرين وإهمال حقهم في الحياة والكلام وكل شيء، لأنه يعيش بمنطق "للصبر حدود " والذي ينطبق على مجالسنا الجماعية التي بدأ العد العكسي لعمرها الافتراضي عملياً منذ مدة بالرغم من عدم انتهاء صلاحيتها قانونيا، هذا العد العكسي الذي خيم عليه مناخ الاسترخاء والتنفس من زحمة العمل السياسي عند من لا يأمل معاودة الكرة من المستشارين. و صاحبه التجييش و التكالب والركض و الاقتتال عند المتشبتين بالكراسي والمكاسب. فما الشد والجذب الذي شهده ويشهده فريقان من المجلس الجماعي الحضري لفاس، خاصة عمدته وحوارييه من جهة، وأحد أعضاء المجلس من المنتمين لحزب العدالة والتنمية المعارضة من جهة أخرى؛ إلا نوع من أنواع تلك الديكتاتورية المتجذرة فينا والتي فرضتها ملابسات الفترة الحرجة المتبقية من عمر المجلس، والتي من المفروض و الواجب أن تكون فرصة للذين تحملوا مسؤولية تسيير هذه المدينة، لإعادة تقييم الأوضاع وتأمل النتائج وملامسة التداعيات التي تركتها تجربة الشهور والسنوات الماضية، بدل الانخراط المضني والتنقيب المميت عن تبريرات لكل الخروقات المبنية على مبدأ مكيافيلي يبرر الوسيلة، و التي استمرت شهورا، بل سنوات تراكمت فيها المشاكل وتعقدت فيها الكثير من القضايا، و تحول معها الهامشي إلى أساسي والعكس، بسبب غرور و ادعاء التفرد أو الانفراد بالقدرة على التسيير والقيادة والسباق المحموم، والاقتتال الضاري بين كل الأطراف لكسب مواقع جديدة، أو الفوز بسلط، أو نصيب من الكعكة، أو السقوط في مطب الإقصاء. فيما المدينة تشكو تهميش التاريخ، والاستراتيجية التي سارت وتسير عليها المجالس الجماعية طوال العقود الماضية، حتى صار الأمر يستدعي الوقوف والتأمل فيما نحن سائرون فيه، فالتلاعب بأمن فاس وسلامتها الاقتصادية وتشويه تاريخ انفتاحها الحضاري، فاق المدى من خلال التشنيعات السياسية المتبادلة بين مستشارين غائبين أو مغيبين، غير واعين بخطورة الوضع، والذين يفتقدون الخبرة وتنقصهم المعرفة بأدوات التسيير الجماعي، مستشارون شاءت الأقدار أن يبرزوا في "غفلة" من الحكمة والإدارة فكانوا في "نشوة" الصدفة أعضاء في مجلس مدينة عظيمة أريد لها ألا تجتاز المحن المفروضة عليها قسرا. ولو لم تساعد الكثير منهم الظروف والمناسبات، لما وجدوا شغلا حتى في دكان " مول السفنج". الندوات الصحفية والبيانات والبيانات المضادة التي إشتغلت عليها جل كتل المستشارين الإسلاميين منهم أو الليبيرالين أو الاشتراكيين خلال السنوات الأخيرة، اثارت الشفقة على هذه التجربة الديمقراطية والتي لم نكن نتصور ونتوقع أن يكون قاموس " التعياب " والشتم هو ابرز ملامح العمل الجماعي الذي اغرق فيه المستشارون أنفسهم، و أغرقونا معهم في عراكهم البائس الذي أوقع الناس في حيرة من أمرهم، ونشر بينهم الارتباك والحيرة، علاوة على تشتيت قابلية الفهم لدى الرأي العام الشعبي المفترض أنه هدف وجوهر ومحرك لكل أعمال المجالس الجماعية في الدنيا.. فالتراشق السياسي بين المنتخبين الجماعيين معروف ومفهوم في كل التجارب الجماعية قديمها وحديثها، بل هو جزء لا يتجزأ من اللعبة الانتخابية للمجالس الجماعية بوجه خاص، ولعله " ملح " اللعبة كما يفهمها محترفو الانتهازية السياسة وجهابذة السمسرة الانتخابية في كل التجارب وفي كل مكان. لكن الفرق شاسع والبون واسع بين التنافس السياسي وبين ما يعيشه مجلسنا، هو صناعة رديئة جداً صدمنا بها مستشارونا من جميع الكتل. فعند أول بادرة اختلاف تبدأ مناوشاتهم التي تذكرنا ب "حمام لعيالات " و"مشاوشة " الأحياء الشعبية أيام زمان، والتي يغفر لهم فيها مستواهم الثقافي المتواضع، وكونها تصادمات محدودة تصدر من أفراد من عامة الناس لا من مستشارين مسؤولين، يفترض فيهم أن يكونوا القدوة والمثل بحكم المنصب والموقع الذي هو وسيلة للبناء والتقدم والاندفاع إلى الإمام، و ليس أداة للكسل والشغب والجمود والتخريب أو التنفيس عن عواطف مكبوتة ضد الغير. بصراحة ما عادت ساكنة فاس تحتمل هذه السلوكات منكم أو من غيركم، وبصراحة أكثر تحتاجون إلى ترشيد تصرفاتكم، وضبط لغتكم، واختيار مفرداتكم، لإدارة خلافاتكم بأسلوب راقٍ وحضاري وبلغة سياسية بعيدة عن لغة "الحلايقية" وخاصة منها حوارات الفنان المرحوم "حربا" في حلاقي باب المكينة أيام زمان قبل أن تهملوها لتستولي عليها جمعية محظوظة. كنا نعتقد أن واحدا أو اثنين أو ثلاثة على الأكثر، هم من تورط في مثل هذه السلوكات بحكم القاعدة المعروفة عند فقهاء علم النفس القائلة بأن " من شب على شيء شاب عليه"، وإذا بمعظمكم ومن مجمل الكتل يجنحون إلى هذه التصرفات التي جعلتنا لاشك أضحوكة أمام أصحاب التجارب الجماعية والديمقراطية الأخرى الذين يستخدمون كلاماً ولغة سياسية ملغومة تصيب في العظم، لكنها لا تمس الكرامة ولا تمرغ في الوحل كما تفعلون. ثم إن افتعال المعارك، وتصيد البطولات، وتصفية الحسابات و أخد الثارات الشخصية بين هذا المستشار وذاك قد تكون مفهومة إلى حدٍ كبير، إنما الاستغراق فيها والذي بلغ منتهاه في الشهور الأخيرة، هو ما جعلها ممارسات خطيرة ميعت الفعل السياسي بالجماعات المحلية في بعدها النبيل. ممارسات أفرزتها اللحظة السياسية المتراجعة شعبياً والمتمثلة في خيبة أمل الجمهور في أدائكم جميعاً ومن دون استثناء. وهي خيبة تحتاج منكم إلى إعادة تقييم نقدي صريح، ومكاشفة مع النفس صادقة لعلها تعيد لكم شيئاً من البريق الذي ربما كان لبعضكم، والذي لن يعيده اعتمادكم الخصومات المفتعلة أسلوباً بقصد لفت الأنظار وخلق إثارة شعبية في مشاهدكم المتراجعة أسهمها لدى الجماهير. فاستعادة البريق لا تكون باختلاق وافتعال الصدامات واستخدام الأحاديث النبوية و إلباس القضايا اللبوسات الدينية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة- ما يذكرنا بأشد اللحظات قساوة في تاريخ صرعات المسلمين السياسية المغلفة بإديولوجيات دينية، كصراع السنة و الشيعة- والتي وصل الأمر فيها إلى توظيف مرويات لامنطقية عن النبي صلى الله عليه و سلم كما هو حال الحديث الذي لم يسمع به أحد لا في الأحاديث الصحيحة و لا الضعيفة والذي يؤكد شباط على أنه استنبطه من كتاب "دراس بن إسماعيل الفاسي" أحد الفقهاء الفاسيين.. حيث يقول وجدت في كتاب دراس بن إسماعيل الفاسي وهو من فقهاء فاس ، كتب أبو ميمونة بخط يديه رحمه الله تعالى حدثني ابن مصر بالإسكندرية قال : حدثني محمد بن إبراهيم المواز عن عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس عن محمد بن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال": ستكون بالمغرب مدينة تسمى فاس أهلها أقوم أهل المغرب قبلة و أكثرهم صلاة ، أهلها على السنة و الجماعة و منهاج الحق لا يزالون متمسكين به لا يضرهم من خالفهم يدفع الله عنهم ما يكرهون إلى يوم القيامة".. المسألة الآن اختلفت يا سادة ولن تنفع معها" مصارعة الديكة". ما قرأناه وما تتبعناه وسمعناه وما تناقلته ألسنة الناس في مجالسهم عن جولاتكم "الفرزجريرية" أصبح من النكت الموجعة، حتى وإن جاء للتدليل على الخيبة فيكم، عندما خسرتم معارك سياسية مهمة ما كان غيركم سيخسرها.. لقد تحولت المواجهات البشعة بينكم إلى نوع من الهوس الاجتماعي الذي لم يكتف بالمس بمستقبل المدينة و ساكنتها. بل دخلت اللعبة دائرة الخطر الكبير الذي يسيء إلى الأحاديث النبوية الشريفة أكثر مما أضرت به الصور الكاريكاتورية الدانيماركية.. فبربكم كفوا عن لعبة " عاق " بها الجميع!!. واعيدوا تقييم أدائكم وحاسبوا أنفسكم حسابا ذاتيا صريحا لعلكم تقفون على الخلل فيكم فتنقذوا ما يمكن إنقاذه بانخراطكم الحقيقي و الصادق في تفعيل الإشارات القوية التي مافتئ جلالة الملك محمد السادس يعبر عنها في مختلف خطبه منذ اعتلائه العرش. فالأمور ليست بسيطة لتعلقها بمصير مدينة بكاملها، إذ تجاوزت تأثيراتها الثنائيات المتصارعة لتلحق الضرر بمعتقدات المجتمع وقناعاته. فأبعادها لا متناهية الخطورة ولا محدودة الأضرار على المواطن المغبون الواقع وسط مطحنة مصادمات هته الفصائل وتلك التيارات، وعلى المدينة التي أشاختها خلافات الأحزاب وتناحراتها على الريادة والقيادة. فكلما تأججت الصراعات بين المنتخبين، عانى الناخبون والمدينة أقصى درجات التعاسة. ولخطورة القضية فقد تفجرت العديد من الأسئلة التي لم يلق عليها بعد الضوء الكافي أو لم يلق عليها ضوء على الإطلاق، وربما لن تجد إجابة، وتبقى مدينة فاس و ساكنتها هي الضحية. فلا خلاص لكم إلا إذا حكّمتم الأخلاق في كل تصرفاتكم وسلوكياتكم، فمن دون الأخلاق تنهار الأمم وتزول؛ وسبب تخبط الأمة أو ضياعها هذه الأيام هو انهيار القيم وضياع الأخلاق، والبعد عن العمل الوطني التطوعي، مما يؤدي بالتالي إلى زوال الحضارة الإنسانية ووصولها إلى الطريق المسدود. وقد سبق أن برع شوقي في تصوير هذه المحصلة في بيته الشعري المعبر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت / فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ""