العقاب جزاء المسيء والثواب جزاء المحسن. والعقاب والثواب كلاهما وسيلتان للتربية، فالأسرة والمربون بصفة عامة يلجؤون إلى العقاب لتقويم سلوك غير سوي عند من يربون، وكان الغالب أن يكون العقاب ماديا أي جسديا يمس المخطئ مباشرة، بمعنى أن يضرب المربي المخطئ باليد أو العصا أو غير ذلك، وهذا الضرب تتفاوت شدته حسب نوع الخطأ من ضرب خفيف على الوجه أو الرأس إلى ضرب بالعصا على أماكن متفرقة من الجسم، إلى ضرب أخطر يؤدي إلى جروح وانتفاخ ... وإلى جانب هذا الصنف من العقاب هناك نوع آخر ألا وهو العقاب النفسي أو المعنوي، وهو أن يعمد المربي إلى لوم وتوبيخ المخطئ كسبه وشتمه وتعييره والاستهزاء منه، أو حرمانه مما يعجبه، كحبس النقود عليه أو عدم تمتعيه بما يحلو له من مأكل وملبس، وكذلك حرمانه من العطف والحنان أي إهماله وعدم الاهتمام به. وواضح أن الأصل في الهدف من العقاب هو التربية وتحسين سلوك المتعلم، أي أن العقاب وسيلة رادعة تترك أثرا عميقا في جسد أو نفسية المخطئ، يزجره عن تكرار السلوك الخاطئ أو الوقوع في سلوك يشبهه، ونحن إذ نتحدث عن العقاب بهذا الهدف نقر بأهميته في التربية وتقويم اعوجاجات الناشئ. وهو أي العقاب وسيلة فعالة في ردع طيش الإنسان بصفة عامة، فالشرع والقانون سنا عقوبات على الجاني والمعتدي. فمن الناس من لولا خوفه من الغرامة المالية لما احترم قوانين السير، ولما احترم حقوق الناس بصفة عامة، لولا العقاب لشتم هذا وأخذ مال هذا وسفك دم هذا. وعلى هذا لا تستقيم الحياة ولا تهدأ ولا يطمئن أهلها إلا بوجود عقاب زاجر. لو سألنا مدرسا لماذا تعاقب المتعلم؟ سيقول إنني أعاقبه حرصا على مصلحته، إذ مصلحته في أن ينشأ نشأة سوية، ألا يكذب، أن لا يتفوه الكلام البذيء، ألا يسرق، أن يحترم الوقت، أن يحترم أصدقاءه بإلا يزعجهم أثناء الدرس، أن ينجز واجباته المنزلية، أن ينتبه... ولو تذكرنا وسائل العقاب في الماضي القريب لقلنا إن المدرس يعاقب غالبا المتعلم عقابا ماديا، أي بالضرب على اليد عصا مثنى وثلاث ورباع وخماس وسداس وقد يكون الضرب على باطن الرجلين وهذا نادر، كما يكون صفعا صفعة واحدة أو صفعتين. وهناك أنواع من العقاب الحضاري مستعمل عند المعلمين، منها أن يقف التلميذ في آخر الحجرة موليا وجهه شطر الجدار، على رجل واحدة رافعا الأخرى، على ألا يتناوب على رجليه في الوقوف، وهناك عقوبة الكتابة وهي أن يكتب التلميذ كلمة أو جملة أو نصا عشرات المرات. هذا ما كان سائدا، حينما كان يعتبر العقاب من وسائل التربية والتعليم. أما اليوم، فالعقاب ممنوع منعا باتا، وهو جريمة في حق المتعلم يحاسب عليها الجاني حسابا عسيرا. العقاب ممنوع بشكليه المادي والمعنوي، إذ لا يسمح بضرب المتعلم أو تعنيفه معنويا مهما كان الخطأ الصادر عنه. وهذا المنع هونتيجة أبحاث بينت أن للعقاب المادي والمعنوي أضرارا خطيرة على المتعلم، وهو أعني المنع ثمرة من ثمرات انتشار ثقافة حقوق الطفل والحرية والديمقراطية التي صدرها العالم الغربي إلى الشرق، وقد بدأت هذه المفاهيم تتبلور عندنا في السنوات الأخيرة.فما البديل إذا كان العقاب ممنوعا؟ هل يملك المدرس وسائل أخرى أحسن من العقاب في التربية والتعليم؟ " مذكرة رقم:143 إلى: السيدات والسادة: - مفتشات ومفتشي التعليم. - رئيسات ورؤساء المؤسسات التعليمية - الأستاذات والأساتذة. الموضوع: ظاهرة العقاب البدني في حق التلاميذ. المرجع : المذكرة الوزارية رقم 99/ 807. بتاريخ 23شتنبر 1999. سلام تام بوجود مولانا الإمام المؤيد بالله. وبعد؛ فقد توافذ على مصلحة الشؤون التربوية عدد كبير من الآباء والأمهات يشتكون من العقاب البدني الذي تعرض له أبناؤهم داخل المؤسسات التعليمية، سواء من طرف الأساتذة أو من طرف بعض أطر الإدارة التربوية. ومعلوم أن العقاب البدني لا يمكن أن يكون وسيلة تربوية ناجعة لتعديل السلوك بسبب الآثار السلبية التي يتركها في نفسية التلميذ، سواء على المدى القريب أو البعيد، والحقد الذي يمكن أن يتولد لديه تجاه المدرسة والمدرسين، مما يخلق أحيانا ردود أفعال مختلفة ضدهم من طرف الأطفال وأوليائهم. وعليه فإنني أذكر بمحتوى المذكرة الوزارية المشار إليها في المرجع أعلاه، وأطلب من السادة المدرسين ورجال الإدارة التربوية اجتناب أي شكل من أشكال العنف الجسدي أو النفسي ضد التلاميذ واللجوء إلى الأساليب التربوية الحديثة لتقويم سلوكهم. والسلام." لو سألنا المدرس هذا السؤال: متى تلجأ إلى العقاب؟ هل هو الحل الأول الأخير لتأديب المتعلم ؟ لقال: لا، العكس هو الصحيح، العقاب هو الحل الأخير وليس الحل الأول. بمعنى أن المدرس لا يلجأ إلى العقاب إلا حينما لا ينفع التوجيه والتنبيه الشفوي، فالمدرس حينما يزعجه تلميذ ويعرقل درسه بالكلام الثنائي مثلا، ينبهه أول الأمر، وإذا لم يتنبه، يحذره في المرة الموالية، وإذا لم يتعض يأتي دور العقاب المادي أو المعنوي أو هما معا، من هنا نرى أن المدرس يستعمل العقاب وهو مكره، لأن النفس البشرية السوية تكره العنف والتعذيب والعقاب، إننا نرى أن العقاب في تلك الحالة وبهذا الهدف التربوي الذي هو تأديب المتعلم وتوجيهه إذا لم يتعض بالوسائل الأخرى لا بد منه، لكن ما نوع هذا العقاب الذي يؤدي وظيفته من غير ضرر؟ لا نستطيع أن نحدد عقابا بعينه يؤدي الوظيفة التربوية المقصودة، أ نعاقب المتعلم عقابا معنويا؟ وأي عقاب معنوي؟ لوم، توبيخ، استهزاء، حرمان من المشاركة؟ إننا نحذر من كل ما يهين المتعلم إهانة واضحة خالصة، لما لذلك من تدمير لنفسيته، كسبه وشتمه وتعييره، ونرى أن اللوم أو العتاب الذي يقنع المتعلم بقبح وضرر تصرفه وفعله أنفع من التوبيخ الجارح، هذا اللوم لا بد أن يكون ممزوجا بالنصح. أما العقاب المادي فلا بد من أن يكون متزنا لا عنف فيه. المدرس هوالذي يقدر على تحديد نوع العقاب النافع لأن كل تلميذ له ما يردعه، فقد يكون اللوم أنفع من الضرب، والعكس صحيح. هكذا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ننكر أهمية العقاب التربوي في المدرسة، إنه شر لا بد منه. لكن هل كل عقاب هدفه التربية ودفع المتعلم إلى الاجتهاد؟ ألا يمكن القول إن هناك عقابا مدمرا للمتعلم لا يهدف إلى توجيه ولا تأديب؟ لا نتصور أن هناك مدرسا سويا يتمتع بكامل قواه العقلية والنفسية، يعاقب المتعلم بلا سبب، إنه يستحيل أن يوجد مدرس يضرب ويشتم المتعلم دون أن يخل بالنظام الداخلي للقسم، أو دون أن يهمل دروسه إهمالا مثلا. غير أن هناك حالات يصبح فيها العقاب انتقاما وعنفا وإرهابا، فأن تعاقب المتعلم لأتف الأسباب كأن يتأخر مرة واحدة، أو كأن يطلب من زميله قلما انتقام لا عقاب، وأن تلزم المتعلم بأن يغلق فمه كل الإغلاق طوال الساعة إرهاب لا عقاب وأن تضرب المتعلم ضربا عنيفا عنف لا عقاب. مع الأسف وجد في مدارسنا العنف والإرهاب والانتقام، فقد كان بعض المعلمين سامحهم الله يحولون حجرة الدرس إلى زنزانة التعذيب، كان هواية بعضهم افتراس المتعلمين، لم تمر حصة أبدا دون عقاب شديد. لا نحتاج إلى دراسة ميدانية لنثبت أن ذلك العنف والانتقام والإرهاب يدمر المتعلم، ويزرع فيه الخوف والقلق، وينزع منه الثقة بالنفس. فلربما أغلبنا عاش هذه الحالة وأحس بذلك الخوف والقلق وارتجف وارتعد وهو يدخل حجرة العقاب، وما يعقد أمر ذلك العنف والإرهاب أنه غالبا ما يمارس على المتعلمين الأطفال، بئس العقاب هذا. إذن كان لا بد من منع العقاب واعتبار المعاقب مجرما جانيا، يستحق العقوبة، ولما كان من الصعب تقنين العقاب وتحديد ضوابطه وحدوده فقد منع منعا كليا لا استثناء فيه، وهنا تكمن إشكالية العقاب، فما قد تراه أنت عقابا قد يراه الآخر عنفا وإرهابا وانتقاما. الحقيقة أن هذا القانون كان بردا وسلاما على المدرسين، لأنه أراحهم من البحث على العصي، والحرص على تأمينها من السرقة، وأراحهم كذلك من التعب والتوتر الذي يعقب العقاب المادي والمعنوي وأعفاهم من مشاكل أخرى عديدة. فقد صار المدرسون مسالمين ديمقراطيين، بعدما كانوا "محاربين ديكتاتوريين". نعم، احتلت الحرية والديمقراطية، مكان العقاب والانتقام والعنف والإرهاب. صاروا دعاة للتعليم بالتي هي أحسن، قم بواجبك ولا ترغم أحدا على التعلم، فالعصر عصر حرية وديمقراطية، أصبح التعليم في ظل الحرية والديمقراطية وحقوق الطفل يلزمنا نحن المدرسين على ألا نتدخل فيما لا يعنينا، فحينما نشرح الدرس ونلقيه، ونحث المتعلمين على الانتباه، ونحدد لهم أنشطة العمل المنزلي، تنتهي مهمتنا. بمعنى أن المدرس لا يستطيع أن يتجاوز مهمته هذه، فيعاقب من لا ينتبه أو لا ينجز العمل المنزلي، أو لا يكتب دروسه...لأن الوسائل الممكنة استنفذها ولم تبق سوى وسيلة العقاب والعقاب ممنوع. وحينما نعاقب المتعلم على هذه الأمور الشخصية التي تهمه أولا وأخيرا، فنحن نضايق حريته، ونتصرف معه بدكتاتورية لأننا نفرض عليه أفكارنا ونسلط عليه وصايانا بالقوة، وهذا ضد الديمقراطية. مهمتنا اليوم يمكن حصرها في ما يلي: ادع إلى التعلم، فمن شاء فليتعلم ومن لم يشأ فله ذلك. هكذا كل تلميذ اليوم حر في أن يتعلم أو لا يتعلم، أي أن ينتبه أو لا ينتبه، أن يراجع دروسه أو لا يراجع، أن ينجز التحاضير أو لا ينجز، أن يكتب الدرس أو لا يكتب، أن يحضر الكتاب أو لا يحضر...؛ كل ذلك داخل في شؤونه الداخلية، ولا حاجة للمدرس في التدخل فيها، هي الحرية أنعمت عليه. هناك حالة وحيدة يمكن للأستاذ أن يتدخل، وهي حالة شغب، أي أن يعرقل المتعلم الدرس أو أن يعتدي على أحد أصدقائه أو مدرسه اعتداء معنويا أو ماديا داخل القسم، حتى في هذه الحالة لا يسمح بالعقاب المعروف، بل على المدرس أن يكتب تقريرا حول الحالة ثم يكل أمرها إلى الإدارة لتتصرف قانونيا. تنبيه، ثم التزام، ثم انعقاد المجلس لاتخاذ العقوبة القانونية المناسبة( عطلة قصيرة لمدة ثلاثة أيام، أو طويلة من عشرين يوما، أو انتقال إلى مؤسسة أخرى). الحقيقة أن الحرية نعمة، لكن هذه النعمة تعقبها نقمة، لأن النفس ميالة إلى الهوى والسوء، والهوى والسوء بلا شك نقمة، فباسم الحرية يعتدى على حرية الآخرين، حقا، حرية الشخص تنتهي عندما تبدأ حرية الآخر، هذا ما اعتدنا سماعه، لكن هل يعرف الأحرار متى تبدأ حرية الآخرين؟ أنا حر أفعل ما أريد، هذا جواب من يدعي أنه حر حينما تبدي سخطك أو استياءك من سلوك تراه أنت طالحا. لا شك أن الحرية إذا لم تقيد بقيود تصبح تحررا، أ فنسمي تخلي الأبناء عن آبائهم حرية؟ أنسمي انفصال الابن عن أسرته ، وهو ما زال في بداية طريق الحياة، حرية؟ وقس على ذلك الحرية في الأخلاق. إن الحرية بهذا المفهوم الغربي لا تصلح لمجتمعاتنا. إن الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا بقيد الأخلاق والقانون، فلولا الخوف من العقاب لما احترمت حقوق الناس، ولولا الخوف من العقاب لما احترم المتعلم زملاءه وأساتذته. الحرية نبتة هشة ظريفة طرية لا تنمو سوى في تربة لينة رطبة، وأحسب أن التربة عندنا لا تصلح لهذا النوع من النباتات الظريفة، أعني أن التربة عندنا مازلت متحجرة شائكة، أي فيها أحجار صلبة وأشواك حادة، لذلك أحسب أن نبتة الحرية لن تنبت عندنا إذا لم نستصلح أرضنا، حتى إن ولدناها ستموت حالا بين أيدينا. إذا قارنا أنفسنا مع الغرب في هذا الجانب سنجد بونا شاسعا بيننا وبينهم، فهم من ناحية الانضباط واحترام المواعيد وإتقان العمل واحترام القانون أحسن، لقد شاهدت غربيا في وطننا واقفا ينتظر اشتعال الضوء الأخضر الخاص بالراجلين، مع أن الطريق الذي سيقطع كان خاليا من السيارات، كان ينظر إلى القانون ولا يلتفت يمينا ويسارا كما نفعل نحن، فإذا كان هذا سلوكه في الشارع فما بالك داخل مؤسسة تعليمية. لم يعد الفرق بيننا وبينهم هو الجهل بالأشياء، الفرق هو عدم تطبيق ما نعرف، وفي هذا تعدي على حرية الآخرين، لا أدري هل من الناس من يتفق معي على أن استصلاح أرض الحرية عندنا يحتاج سنوات وسنوات، ترى أنستصلح هذه الأرض منتظرين سنوات وسنوات لنزرع هذه النبتة الهشة أو نغرسها في أرض غير صالحة؟ وما يدريك أن أرضنا لا تصلح أصلا لهذه النبتة؟ وفي انتظار ذلك هل أتاكم حديث الحرية في الغرب؟ لقد ندموا على أمرين: منع العقاب في المدرسة وشيء آخر لا يحب الناس أن يذكر. لقد رجعوا إلى الأصل والأصل هو أن العقاب وسيلة فعالة في التربية والتعليم. ترى أنقتدي بهم فنعود إلى الأصل أو ننتظر نتيجة الاستصلاح؟ كلنا يعرف أننا نعمل في وزارة التربية الوطنية، وأغلبنا يعرف أن التربية قدمت على التعليم لأهميتها في التعلم، إذ لا علم بدون تربية، ولا نعرف إن كنا اليوم نربي ونعلم أو نعلم ولا نربي؟ [email protected]