كثيرة هي تلك العلامات من فصيلتَيْ الاستفهام والتعجب التي تعانق تفكير غير قليل من "المثقفين" كلما ربطنا صور الجاهلية القاتمة بتقدم البشرية وتحضرها وتمدنها؛ وكم تبدو الصورة كاريكاتورية حين تختلط الأفهام فيصبح الإنتاج الحضاري في كافة أبعاده مناقضا لوجود هكذا "جاهلية" في عصرنا الحالي. والحقيقة أننا لما نتحدث -مصطلحيا- عن "الجاهلية" كمصدر صناعي للجذر "جَهَل"؛ فإننا لا نجعلها في مقابل العلم الذي على أساسه تقوم الحضارة الإنسية عموما، وفي شقها المادي بالخصوص. وإنما الجاهلية التي نعني هي تلك التي تنتصب في معاداة الوعي ولو مع حصول شرط العلم الذي لا يعني بالضرورة ملازمته لذاك "الوعي" الذي أضحى مستهدفا أكثر من أي وقت مضى، وأحيانا من طرف العلم ذاته. "" فرُبّ أمِّيٍّ واعٍ أفضل من عالِم جاهل! ذلك أن الإنسان الواعي مدرك لواقعه ومستشعر لمتطلبات هذا الواقع في سياقاته المستقبلية؛ وبناء عليه، فهو يستجيب للمتغيرات المتسارعة من حوله بتطوير ذاته وأساليب الإدراك لديه ولو لم يُؤْت من العِلم شيئا. على عكس العالِم الذي قد يستغرق في تخصصه الأكاديمي أو يتفنن في فلسفة تطوير أدائه في حدود ما بيده من علم دون تطلع للرقي إلى مستوى الوعي والخروج من بوتقة الجهل التي قد يكون علمه أحد المتورطين في حشره ضمن دائرة إشعاعها. وما دام القصد ب"الجاهلية" مبنيا على هذا الأساس في تصورنا؛ فأي قوالب لغياب الوعي يمكن أن تأخذها تصرفات البشرية رغم تقدمها وتمدنها؟ وكيف يبرز "المنتوج الجاهلي" بين ظهراني الحداثة والتحضر اليوم؟ وكيف تُجدد "موضة الجاهلية" ذاتها لتبقى صالحة للتداول في أسواق الفكر والممارسة البشرية عبر الأزمان؟ هذا ما سنحاول الإحاطة به عبر مظاهر بارزة للجاهلية المتجددة في عصر الحداثة وما بعد الحداثة. أولا: حَميّة الجاهلية: يعكس مصطلح الحمية مفهوم "الأنفة" و"الإباء" في التعامل البشري بشكل عام وبين الجماعات والتكتلات البشرية بشكل خاص؛ وهي (أي الحَميّة) تشكل تلك القوة التي تحرك نوازع الأنا -السفلى والعليا على حد سواء- وتسخن الطرح المعنوي في حماية الذات بكافة الوسائل ولو بشكل يخالف العقل والمنطق. وقد ورد ذكر "الحميّة" في القرآن الكريم في سياق المقارنة بين ما كان عليه المسلمون والكفار قُبيْل صلح الحديبية (السنة 6ه)؛ حيث اتخذت قريش قرارها السيادي الجائر بمنع الحجاج والمعتمرين من دخول الحرم المكي من دون أي حجة بالغة ماعدا كونهم "مسلمين" رغم أن غالبيتهم كانوا يحملون الجنسية المكية بمفهوم العصر. قال الله تعالى: "إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا"(1). وتتجدد اليوم مظاهر "الحميّة الجاهلية" في أشكال متعددة من قبيل إقصاء الرأي والاعتقاد المخالف، والتعصب للانتماء الإيديولوجي، أو على الأقل في شكل فرز قيمي بناء على المبادئ التي يتبناها الإنسان، وأحيانا في شكل عنصري مقيت على أساس اللون أو العرق... فالدول ذات الأنفة والإباء في ساحة السطو السياسي والاقتصادي والعسكري الدولي تحمي ذاتها من خلال قوانين تحد من دخول الضعفاء والمستضعفين إلى حدود سيادتها، وتشرع لذلك أبشع القوانين في التاريخ البشري لدرجة يصبح معها الإنسان أقل شأنا من حشرات تعبر القارات والمحيطات، وأحطَّ قيمةً من خيط يلف مقدرات دولنا المتخلفة التي يتمتع بها رعايا تلك الدول التي تحسب نفسها متقدمة. ومن داخل الدول تجد الصراعات على أشدها بين التكتلات الإيديولوجية والثقافية، الحزبية منها والنقابية، بين اشتراكيين ورأسماليين اقتصاديا، ومحافظين ومتسيبين أخلاقيا، ويمينيين ويساريين سياسيا، ومتشددين ومعتدلين فكريا، فتتعزز الجاهلية بين نقيضَيْ الإفراط والتفريط على جميع المستويات؛ حيث ترى كل جهة تهديدا لوجودها العضوي في الجهة الأخرى ويسعى كل طرف إلى إقصاء الطرف "المناوئ" متى ما سنحت الفرصة بذلك، ولو بشكل غير عقلاني ولامنطقي، وأحيانا بالخرق السافر للقوانين المعمول بها في الحيز الجغرافي المعني. ومن داخل تلك التكتلات، يتجدد عنصر الجاهلية مع التعصب للرأي وإقصاء المخالفين لمبادئ اختاروها منارة في حياتهم، وأحيانا يدخل الإقصاء كورقة رابحة في صراع مقيت على المراكز المتقدمة تنظيميا، ليصبح العمل الجماعي عامل تخلف بدل أن يلعب دوره المحوري في التأسيس للارتقاء الفكري والوعي المتجدد. وكما يبرز الجهل في "المجتمع الدولي" من خلال الإقصاء المتعمد لفئات واسعة من الأسرة الدولية لا بل ونفي صفة الإنسانية عن شرائح واسعة من بني آدم لكون مبادئهم في الحياة لا تستجيب لتطلعات أصحاب القرار الذين يغلفون حميّتهم بمسميات قيمية حداثية انكشف عوار عصبيتها المقيت.. كما يبرز هذا الإقصاء والتعصب في هذا البعد، تتجدد الجاهلية في كافة المجتمعات بأبعاد مختلفة ليس أقلها الحرمان الذي تعانيه فئات مجتمعية عريضة أضحت تدفع ثمن إباء وأنفة أصحاب المال والجاه المتنفذين في دواليب الحكم وصياغة مستقبل الدول القاتم. ومع تجدد هذه الجاهلية، سيبقى المنطق الأناني الإقصائي للجاهلين يتجدد عبر العصور، ولسان حالهم يكرر معايير قوم نوح من كون الشخصية -الذاتية أو المعنوية- تبنيها الثروة والقوة، ومن لا تتوفر فيهم تلك المعاير فما هم إلا أراذل بادي الرأي (غير ناضجين) وجب إبعادهم من ساحة الفعل والتأثير. وقد أسقط نوح عليه السلام تلك الحجج الواهية حين رفض طلب عِليّة القوم ورسّخ وصف الجاهلية فيمن يعتقدون بذلك؛ قال عز وجل: "وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ"(2). وذات المبدأ تؤكد عليه قصة يوسف مع إخوته الذي غيّبوه قسرا من كون فعل "الإقصاء" -مهما كانت دوافعه وأشكاله- لا يتبناه إلا جاهل؛ فأورد سبحانه: "قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ"(3). ثانيا: تبرّج الجاهلية: في سياق الحث على الفضائل ونهي أمهات المؤمنين عن الرذائل، وتوجيه المجتمع نحو التطهر والابتعاد عن كافة مصادر الرجس، وردَ قوله تعالى: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"(4). و"التبرج" -بمنطوق الآية- سلوك بدائي رجعي منحط ومتخلف لا يعبر بأي حال من الأحوال عن التقدم المادي أو يعكس مستوى من مستويات الرقي الفكري الواعي، بل يشكل أحد صور الجاهلية "الأولى" التي تنذر بتكرر هذه الجاهلية مرة ثانية وثالثة ورابعة... الخ. وهو الذي يتجدد فعلا بهتك الحرمات و"الستر العام"، وذيوع الفاحشة النظرية والتطبيقية، وشيوع كافة أشكال الشذوذ الفكري قبل أن ينعكس على الحياة الخاصة والعامة في مجالات متعددة، المالية منها والجنسية والسياسية، فأصبحنا نسمع عن الشذوذ الفكري، والشذوذ الجنسي، والشذوذ السياسي.. وهي كلها ممارسات تجد لها مكانا في الجاهلية المعاصرة كموضة تستأثر باهتمام وسائل الإعلام وتلقى عليها الأضواء بشكل واع أو غير واع، وتأخذ حيزا يفوق حجمها أحيانا. و"التبرج" بما يعنيه من إظهار ما يجب ستره في المرأة، يحيل على معطيين أساسيين في السلوك الواعي: الأول حفظ كرامة المرأة/الإنسان حتى لا تصبح مجرد متعة لكل من هب ودب، والثاني لجم غريزة الجنس في الإنسان (رجلا وامرأة) حتى لا ينزل بإنسانيته إلى مهاوي البهيمية فتطغى على فكره الهواجس الحيوانية. والناظر من حوله في سلوكيات الجاهلية الحالية، يجد من امتهان كرامة الإنسان عموما والمرأة خصوصا الشيء الكثير، لدرجة تكرس معها المثل المغربي: "عِشْ نْهَار تَسْمع خْبَار" عن هدر حقوق الآدميين وتشييئهم واستغلال أجسادهم في العمل والإشهار والشارع... الخ، حتى أصبحت المواصفات البدنية -الظاهرة وأحيانا الخفية- جزءا من معايير الاختيار لأداء مهمة معينة؛ لا بل وصلت الصفاقة بالحضارة المعاصرة إلى أن احتقرت الإنسان أيما احتقار حين تم اختزاله في مجرد آلة مدرة للعائدات تساهم في الرواج العام سواء بشكل اختياري أو إجباري؛ ولم يعد للتحضر من هاجس سوى الربح ولو على حساب كرامة الإنسان. فماذا بقي من الكرامة لما تصبح مهنة الدعارة قائمة بذاتها، وتصبح معها المرأة أداة متعة تُستغَل بشكل بشع وقذر حسب الطلب؟ وماذا بقي من الحداثة حين تحث الهيئات الأممية على ضرورة فرض الضريبة على مهنة البغاء للنهوض بالاقتصاديات الإقليمية؟ وأي جاهلية تلك التي تتكرر اليوم بشكل أبشع فتقام أسواق النخاسة لبيع بنات في مقتبل العمر بدولارات زهيدة للرأس الواحد (كالأغنام) ويتم استغلالهن جنسيا في سجون حقيقية بالملاهي والحانات؟ وأي مساواة تلك التي يتبجح بها البعض حين تقصى نساء من العمل فقط لرغبتهن في عدم إبداء المفاتن؟ أم أي تحضر ذاك الذي يقيد جسد المرأة بالمنتوج حتى لا يدري الإنسان أيهما يُروّج للآخر؟! الحضارة اليوم تكرس الجاهلية في أبهى حلتها حين تروج للسفور والتبرج والفجور والفاحشة وتدعو لها بكل الوسائل وتفرضها بشكل عملي في ممارسات الناس وتدجنهم عليها حتى تصبح واقعا معيشا لا يجوز تجاوزه أو حتى استهجانه، وما يزيد تأكيد جاهلية هذه الحضارة أنها تشرع للشذوذ الجنسي بشكل لم تسبق إليه أي حضارة إنسانية؛ وليْتَ نوحا -عليه السلام- كان بين ظهراني قومنا ليكرر عليهم ما قاله للجاهلين من الشواذ في قومه: "أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ"(5)، وليْتَ البشرية تجدد اقتداءها بيوسف -عليه السلام- حين تبنى خيار الممانعة وتصدى للفاحشة آملا أن لا ينحشر مع الجاهلين رغم علمه بأنه سيحاصَر بسبب مبدئه، فتُردِّدَ دعاءَه: "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ"(6). ونحن -في الدول المتخلفة عمرانيا- لما نتبع خطى الغرب شبرا بشر وذراع بذراع و"نهتدي" بمناراته ونتبنى قيمه، إنما نكرس واقع الجاهلية ونعكف على استنساخ تجارب لا تفيدنا إلا في مزيد من التخلف والتزلف، والتي تمعن في مهانتنا أكثر فأكثر، تماما كما كان الأمر مع بني إسرائيل حين اختاروا أن يربطوا وجودهم بالآخر وأن يكونوا مجرد مقلدين لغيرهم: "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ"(7). من حيث نريد أن نتقدم نرتد في مهاوي الجاهلية والتخلف دركات عديدة، ونفوت على أنفسنا فرصة الرقي بما لدينا من قيم ومقدرات بشرية ومادية. ثالثا: حُكْم الجاهلية: يقول الله سبحانه: "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ"(8). تميز الآية بين نظامين للحكم أحدهما منسوب للجاهلية وآخر يجد ضالته فيما أنزل الله؛ وبين الحكمين علامة فارقة تتمثل في تحقيق "العدل" بين الناس؛ يقول الله سبحانه: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا"(9). وبذلك تكون إحدى صفات الحكم الجاهلي شيوع الظلم بين الناس كما كان في الجاهلية، الأمر الذي استدعى -حينها- تأسيس حلف الفضول الذي دعا له الزبير بن عبدالمطلب؛ حيث تعاهد بعض أشراف قريش على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها، وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس، إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته؛ وقد قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت. تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها، وألا يعز ظالم مظلوما"(10). وبالعودة إلى واقع الجاهلية في عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان والعهود الدولية، نجد الكثير من الاختلالات في العلاقات الدولية المبنية على الأهواء والمصالح، والتي تتحدى أحيانا القوانين الدولية بفرض العقوبات والحصار، واحتلال الدول، والجور عليها بالأسلحة المحرمة دوليا، وتكريس واقع الغلبة على المستضعفين والمظلومين؛ أو تمرير قرارات تحمي الظالمين، والوقوف صدا في وجه البيانات المنددة، والتصدي للهيئات الدولية في تحقيق العدالة؛ فتُنَصّب دول بعينها نفسها للحديث باسم المجتمع الدولي والتحكم بالقرارات وخلق أجواء دولية تفي بغرض الفراعنة الجدد لاستضعاف الشعوب والتحجير على طاقاتها البشرية واستغلال مقدراتها وخيراتها. ولما تقوم الدول الضعيفة بإنشاء أحلاف وتكتلات أشبه ما تكون بحلف الفضول، تُجابَه بالابتزاز والنبذ والتهديد والوعيد؛ وحتى الذين يكتفون بالدعوة لإصلاح الوضع الدولي الحالي من دون المطالبة بتغيير جذري، يجدون أنفسهم في موقع المغضوب عليهم أو على الأقل يوجه لهم التنبيه بأنهم من الضالين المضلين، ليبقى شعار المعربدين هو الحَكَم والفيْصل، ولسان حاله يردد: "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ"(11).. والأحداث تغني المتتبعين عن كل توصيف. لقد تقهقرت الحضارة البشرية بشكل فعلي إلى حضيض أَرْكَسَ من ظلمات الجاهلية الأولى التي استحضرت الجوانب الإنسانية في العديد من علاقاتها بين الأفراد والقبائل، ولا ندري إن كانت ستتاح للبشرية محطات تقييم تبرز حجم الجاهلية في زماننا الحالي. على مستوى الدول، فقَلَّما يتحقق شعار: "العدل أساس الملك"؛ ذلك أن معظم الشعوب -وخاصة المتخلفة منها- تعاني من أوجه عديدة للظلم الذي يجسد التدبير والحكامة الجاهليتين وعلى جميع المستويات، وبالكاد في جميع القطاعات من صحة وتعليم ومعيشة وقضاء... الخ. والإشكال الأكبر أن هذا البعد الجاهلي أضحى دوامة تزداد سرعتها يوما بعد يوم لتوسع نطاق تأثيرها وتبتلع معها ضحايا جددا ينضافون كل سنة إلى قوائم الإحصاء في خانة الداعمين لأساسات تتوسع فوقها قاعدة الفقر وسقف الحرمان وجدران الجريمة ونوافذ تراجع التطبيب وأبواب الهدر المدرسي ومرائب الغرقى من الحالمين بالنعيم في الضفة الأخرى؛ وعادة ما تضيف التقارير في التمهيد والخاتمة طلاء زاهيا يضفي لمعانا على الجهود المبذولة ليكتمل به البناء؛ لكنه لا يغير -في حقيقة الأمر- من واقع الجاهلية في الحكامة والتدبير شيئا. بل على العكس -تماما- من ذلك، فهذا السلوك ما يزيد إلا تضخيما لتلك الجاهلية التي تنافي الوعي، فلو كان الحكام يعلنون للملأ الحقائق كاملة لخف الوصف قليلا ولَحَصل شيء من الطمأنينة، لكن مادامت الحقيقة مغيبة ويضمرون في أنفسهم ما لا يبدون للناس خوفا من ردود أفعال يظنونها ستحصل، فهنا تتأكد الجاهلية بامتياز؛ قال تعالى: "ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ"(12). وكم تزيد رائحة الجاهلية نكهة حين يخرج على الرعية مسؤول مُتعنِّت ليكذّب كل التقارير التي لا تزمر مع الجوقة الحكومية ولا تطبل بشكر صنيعها وحمد نعيمها؛ حاله في ذلك كحال من وصفهم الله تعالى في قوله: "وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قِبَلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ"(13). فاللهم سلمنا من الجهل والجاهلية حتى لا يأتي يوم نجد فيه أنفسنا أمام من يطبق علينا قولَك (وقولُك الحق): ".. وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا"(14)، أو قولك سبحانك: "وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ"(15). آمين يا رب العالمين. ----------------------------------- * للتواصل مع الكاتب: [email protected] (1) الفتح: 26. (2) هود: 29. (3) يوسف: 89. (4) الأحزاب: 33. (5) النمل: 55. (6) يوسف: 33. (7) الأعراف: 138. (8) المائدة: 49-50. (9) النساء: 58. (10) انظر الروض الأنف، ج1، حلف الفضول. (11) غافر: 29. (12) : آل عمران: 154. (13) الأنعام: 111. (14) الفرقان: 63. (15) القصص: 55.