طالعنا مجموعة من أعضاء المجلس العلمي الأعلى برسالة موجهة إلى أمينه العام وإلى وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، يشتكون فيها من زميل لهم يتهمونه بأمور تضمنتها الرسالة، ويرون أن واجبهم يقضي عليهم بذلك. وقد وقع هؤلاء رسالتهم بالعبارة التالية "جماعة من العلماء الغيورين على الوطن والدين"، كما ورد في الخبر المنشور بهذا الموقع. وربما اعتقد الموقعون على الرسالة أن هذه الأخيرة رسالة عادية كباقي الرسائل التي توضع في البريد لتصل إلى عناوينها، ولم يدركوا بأنهم كتبوا رسالة لتصل عبر بريد التاريخ إلى الأجيال القادمة بوصفها واحدة من التقارير التي تذكر بتلك التقارير الشهيرة التي كان يكتبها النصارى المتشددون في غرناطة عن المسلمين هناك إبان انتشار محاكم التفتيش، وكيف أنهم يغتسلون كل صباح ولا ينحنون للصليب وعندما يغضبون يخاطبون بعضهم بعضا باللغة العربية. أقول هذا لأن مضمون الرسالة مستفز وخطير، ولا أعتقد أن من واجب الفضلاء الموجودين داخل المجلس العلمي الأعلى السكوت عنها، على الأقل من باب التصحيح لا من باب التتريب، إذ ربما لم يكن هناك تتريب على من عانى عسفا من قبل المشتكى به، ولكن الشكوى تجاوزت الحد وأصبحت الإدانة التي أرادها الموقعون للمعني بالأمر إدانة لهم هم، لأنهم أرادوا تقويم سلوك بسلوك أكثر اعوجاجا. وما يجعل الرسالة ذات وقع خطر أنها صادرة عن أشخاص هم أعضاء في أعلى مؤسسة علمية بالبلاد، من المفترض أنهم يحرصون على "سمعتهم العلمية" ويتقيدون بالضوابط الشرعية في النصح والتقويم، وليسوا من السوقة الذين يستبيحون أي شيء في الخصومات، علاوة على أنهم وصفوا أنفسهم بأنهم "جماعة من العلماء الغيورين على الوطن والدين"، مما يعني أنهم تصرفوا بهذا الدافع، رغم ذلك الخطأ في الترتيب الذي وضع الوطن قبل الدين. وكون الموقعين ينتمون إلى أعلى مؤسسة علمية بالبلاد يجعل الرسالة ذات أهمية كبيرة بحيث تستحق الوقوف عندها قليلا. إن من يقرأ الرسالة يجد أن لا علاقة لها بموضوع الخلاف بين الموقعين وبين زميلهم، فموضوع الخلاف مبسوط في فقرة واحدة، يخص تدخله في"الصغيرة والكبيرة داخل المجلس"، وأنه "يستغل رؤساء المجالس العلمية ويكلفهم بقضاء مآربه، ويستعمل سياراتهم لمآربه الخاصة"، وهذه التجاوزات يمكن حلها داخل المؤسسة بعيدا عن التشهير، وهناك عدة وسائل ممكنة في حال تعذر تبليغ الشكوى إلى المسؤول الأول في المجلس عبر القنوات الطبيعية. أما بقية الرسالة فهي نبش في الأمور الشخصية للرجل بما لا يبيحه أي دين، بَله الدين الإسلامي الذي يمنع التشهير والفضيحة على الملأ، خاصة عندما يتعلق الأمر بأشخاص يعرف العامة أنهم من العلماء، وينسبون أنفسهم إلى أهل العلم، ممن توجب عليهم أخلاقهم أن يكونوا في الأمور التي تتعلق بالنوايا والبواطن كمن يسير على البيض ويخاف أن ينكسر، وأن يكونوا أكثر حرصا على أن يعطوا القدوة للآخرين. لقد سمح هؤلاء لأنفسهم بأن ينتصبوا قضاة يحاكمون عقيدة الشخص المعني بالأمر، وهي سابقة خطيرة لم يسبق أن حصلت داخل المجلس العلمي الأعلى، وأصدروا حكما قطعيا بتكفير الشخص المذكور حين قرروا في الرسالة أنه"لا يؤمن بالله" وأنه ذو "عقيدة فاسدة". وعلينا أن نصدق اليوم بأن المجلس الذي هو مؤسسة دستورية يضم بين حيطانه عضوا كافرا ليست له ديانة، والحال هذه، على المجلس أن يسارع إلى البث في الأمر الذي لم يعد يقتصر على معاقبة الشخص المذكور بسبب الخروقات المنسوبة إليه، بل إجراء مناظرة داخلية معه للتأكد من سلامة عقيدته ثم الحسم في مصيره، طالما أن جماعة الموقعين على الرسالة أكدت خروجه من الإيمان، وبهذا المقتضى لم يعد هناك مجال للحديث عن خروقات، لأن المشكلة في الأصل هي وجود هذا الشخص في المجلس إلى جانب مسلمين، وتلك أم الخروقات. ويقول أصحاب الرسالة إن هذا الحكم الذي أصدروه جاء نتيجة معاينة طويلة:"فقد راقبناه خلال شهر رمضان حيث يحل بالفندق الذي ينزل به ضيوف الدروس الحسنية، ويتناول الفطور هناك(يقصدون الإفطار وهذا خطأ منهم)، بالرغم من كونه يقيم بالرباط، ولا يصلي المغرب مع الجماعة(والصحيح: في جماعة)، ويظل يتنقل بين الغرف إلى وقت متأخر من الليل دون صلاة العشاء والتراويح مع المسلمين". وفي مكان آخر من الرسالة يقولون"راقبنا هذا العضو في سفريات ومناسبات مختلفة، يظل خلالها اليوم كله دون أن يتوجه إلى القبلة إلا إذا أحرج مع جماعة"، ويضيفون بأنه"لا يتصدق ولا يعبد الله بأي شكل من أشكال العبادة والتقرب"، وأنه "يسب الدين علنا وأمام الناس في مناسبات مختلفة، ويسب العلماء ويحتقرهم، ويقلل من شأن الصالحين". لو كانت هذه رسالة من مجموعة تلاميذ في القسم الابتدائي يشتكون فيها من زميل لهم لكان الوضع طبيعيا، بالرغم من أنه سيكون مظهرا لقلة الأدب، لكن أن يكون هذا في رسالة من "علماء" ينتسبون إلى أعلى مجلس علمي في البلاد، فتلك قضية مختلفة. فنحن أمام أشخاص يترصدون زميلا لهم مدة طويلة ويتعقبون خطواته ويتجسسون عليه "اليوم كله"، وهم ليسوا أشخاصا عاديين، بل علماء، من واجب الجميع أن يتأسى بهم، ولكن المعضلة أن مثل هذا السلوك يتعفف منه حتى العامة، فهل أصبح العلماء تحت مستوى العامة؟. لقد اتهم هؤلاء زميلهم ب"فساد العقيدة"، فهل التجسس عليه من سلامتها؟ وهل خولوا لأنفسهم أن يكونوا وسطاء بينه وبين الله لكي يمنحوه تزكية عن إيمانه وعمله؟ وهل سب العلماء من فساد العقيدة؟ وأي علماء بالتحديد؟ هل هم من فئة الموقعين على الرسالة؟ ومتى كان التقليل من شأن الصالحين لو كان المقصود بهم شيوخ التصوف فسادا في العقيدة؟ هل هناك عقيدة أخرى لا يعرفها المغاربة تنص على هذه الأمور مجتمعة؟، ثم هل قام هؤلاء بواجب النصح قبل الفضيحة، وهم يعرفون أن"الدين النصيحة"؟ أم أن الأمر لا يستحق لأن القضية قضية صراع داخل المجلس؟. أخشى ما أخشاه هو أن يكون أصحاب الرسالة قد تأثروا كثيرا بأجواء النقاشات الموجودة في الساحة السياسية والإعلامية هذه الأيام حول التكفير والتخوين والمساس بالنوايا، وأن يكونوا قد امتصوا بعض المياه المتطايرة في هذه المراشقات، بحيث باتوا يسمحون لأنفسهم بأن يخوضوا مع الخائضين لكن في حروب تجري داخل المجلس العلمي، وإذا كان المجلس قد خضع لهذا التأثير فسيكون قد خرج عن إطاره وفقد هويته كسلطة مرجعية واجبها ترميم الخلل في الثقافة الدينية وفق خط الوسطية والاعتدال، إذ الواجب نظريا أن يكون منتجا لمجموعة قيم في الحوار الديني يتشربها المجتمع، لا أن يكون هو من يتشرب الثقافة الحوارية السائدة في المجتمع. لا يمكن المجازفة بالقول أن هدف الرسالة دنيوي تم تلبيسه بالدين، وتوظيف الطعن في عقيدة المشتكى به للنيل منه، وليس وراءها هدف نصرة الدين، فهذا من النوايا، ولكن مهما كانت النوايا سليمة فإن الوسائل يجب أن تظل في حدود المقبول، وهذا مجرد تذكير لعلماء يستحقون الاحترام الواجب، على شرط أن لا يصادروا حق الآخرين في الرأي، رغم أن ما ورد في الرسالة يثير المخاوف حول المستقبل، ويدفعني إلى التساؤل: هل قمنا في المغرب بإجراء إصلاح للشأن الديني؟ وكيف أنفق المغرب أموالا طائلة لتصحيح أفكار خاطئة نفاجأ اليوم بأنها تخرج من داخل المؤسسة التي كان عليها أن تقوم بهذا الدور؟ وهل على المجلس العلمي الأعلى أن ينقذ المجتمع من أفكار الغلو والتطرف أم أن ينقذ نفسه أولا؟. إن القضية ليست قضية خلاف بين أصحاب رسالة وشخص يرتكب خروقات، بل جعْل هذا الخلاف مطية للدخول في نقاش ديني حول العقيدة يبعد الموضوع عن الغرض، ويحط من شأن أصحاب الرسالة الذين كنا نتمنى أن يحافظوا على ما تبقى من صورة العالم في المغرب، حتى لا ينزل أكثر مما نزل، إذ لو كان هؤلاء ينطلقون من الغيرة على الدين والوطن لالتزموا الضوابط المشروعة التي لا يفتح في وجوههم باب الطعن في مصداقية العلماء، لأن ما قاموا بهم لن يمسهم وحدهم بل سيصيب العلماء الآخرين، لأن الناس مردوا على التعميم. فالأهلية العلمية لهؤلاء، ومواقعهم الحساسة، كانت توجب عليهم الالتزام بالضوابط الأخلاقية و"الفنية" في تصريف الصراعات فيما بينهم بعيدا عن الطعن في عقائد الأشخاص، لأن باب الطعن في العقيدة مزلق خطر. لقد جاء في الحديث النبوي أن"الكفر ملة واحدة"، وكما أنه ملة واحدة فالتكفير أيضا ملة واحدة، ولذلك حرص الدين على عدم السقوط فيه وأحاطه بحدود أعرف بعضها ويعرفها هؤلاء العلماء كلها. ومعنى أنه ملة واحدة أن من سمح لنفسه بتكفير الآخرين لا بد أن تدور الدائرة عليه، وهذا ما قاله بعضهم، وهو أن"المكفر يبوء بهذا التكفير". ومن طرائف هذا الباب باب التكفير أن ما من مكفر إلا وتم تكفيره، وعلى رأس هؤلاء الشيخ ابن تيمية الذي خرج منه الكثير من التكفيريين المعاصرين، إذ كفره الشيخ تاج الدين السبكي، وقد كان الشيخ محمد الغزالي وراء تكفير فرج فودة فجاء من كفر الشيخ الغزالي بسبب كتابه "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، وكان الدكتور عبد الصبور شاهين وراء التقرير الذي تم تكفير الدكتور نصر حامد أبو زيد على وفقه، فجاء من كفر شاهين بسبب كتابه"أبي آدم"، رحم الله الجميع.