عرف النقاش العمومي خلال العقد الأخير انتعاشا نسبيا بفضل الديناميات الاجتماعية والثقافية المتنامية بالمغرب، إثر تبني دستور جديد أسس لثقافة حقوق الانسان وقيم المواطنة ومنح المجتمع المدني أدورا محورية في مسار الدمقرطة وبناء دولة القانون على أساس المساواة بين جميع المواطنات والمواطنين باختلاف انتماءاتهم الفكرية والدينية وثقافاتهم ولغاتهم ومستوياتهم الاجتماعية... هذه الحركات عملت على التصدي لعدد من الإشكالات العالقة التي تقيد مسار الحداثة أو ترهن عجلة الاقتصاد والتي تنتج عنها أضرار اجتماعية واقتصادية وسيكولوجية وثقافية... من قبيل مقتضيات القانون الجنائي المنافية لحقوق الإنسان والحريات الفردية (العلاقات الرضائية الغيرية والمثلية، عقوبة الإعدام، حرية المعتقد، الحق في الإفطار في رمضان...) أو زواج القاصرات أو الترسيم الفعلي للأمازيغية والنهوض بها، وغيرها من القضايا، كان آخرها ملف التطبيع ومسألة تقنين زراعة القنب الهندي. ولا يخفى على أحد أهمية النقاش العمومي، كتبادل مستمر للأفكار والآراء والحجج والمواقف المتعددة في الفضاء العمومي، في بناء الدولة الديموقراطية الحديثة وممارسة الحقوق اللصيقة بالمواطنة وخاصة حق الأفراد والجماعات في الترافع عن قضاياهم على أمل أن تحظى بانتباه الفاعل العمومي ليتم وضعها على الأجندة الحكومية واتخاذ القرارات الملائمة لمعالجتها من خلال سياسات عمومية مناسبة ومتوافق بشأنها، قابلة للتنفيذ والتقييم وربما المراجعة بناء على خلاصات النقاش العمومي المستمر. وإذا كان من الطبيعي أن يتأسس النقاش العمومي على تضارب الآراء بقدر اختلاف القيم والمعتقدات والمرجعيات والمصالح الفردية والجماعية، فإنه من غير المقبول ارتطام الحوار بسلوك "الترهيب" الممارس من طرف بعض الجماعات والأفراد الذين تجمعهم مصالح أو مرجعية أيديولوجية بهدف إجهاض كل محاولة للتغيير. ويمكن تعريف الترهيب l'intimidation بكونه "كل سلوك أو كلمة أو فعل أو إيماءة، متعمدة أو غير متعمدة، ذات طبيعة متكررة، يتم التعبير عنها بشكل مباشر أو غير مباشر، بما في ذلك في الفضاء الإلكتروني، في سياق يتميز بعلاقات قوة غير متكافئة بين الأشخاص المعنيين، مما يؤدي إلى توليد مشاعر الضيق والغبن والأذى أو الاضطهاد أو النبذ". في حالة المغرب، لا بد أن ينتبه الملاحظ لفضاء النقاش العمومي إلى تزايد ظاهرة الترهيب، وخاصة ذلك الممارس من طرف جماعات وأفراد رافضين لمبادئ المجتمع الديموقراطي، طامحين إلى تأسيس دولة يحكمها رجال الدين بالكتب الدينية والسيف، وذلك من خلال توظيف التفوق العددي للأتباع (حقيقة أو متخيل) والشرعية الدينية المتوهمة والمفتعلة، لترهيب كل من يخالفهم الرأي أو يقترح حلولا حداثية للمشاكل المطروحة. بحيث يتخذ الترهيب أشكالا متفاوتة الخطورة تبتدئ من الردود والتعاليق المحتقرة أو ممارسة العنصرية أو التمييز بناء على الجنس أو اللون أو الدين أو التوجه الجنسي أو الحالة الصحية.. أو التحرش السيكولوجي أو الجنسي، تشويه السمعة ونشر الصور الشخصية الحقيقية أو المفبركة والمشوهة ونشر وثائق شخصية أو عائلية مرورا بالتكفير والاتهام بالزندقة والإلحاد وصولا إلى التهديد بالعنف، وقد تصل فعلا إلى العنف المادي وتنفيذ أفظع الجرائم. وإذا كان تصاعد هذه الظاهرة يرجع لعدة أسباب نفسية اجتماعية ثقافية وقانونية، مثلا إعادة انتاج العنف، إرث ما سمي بسنوات الرصاص، ضعف الثقافة الحقوقية وثقافة المواطنة وتخلف القانون عن مواكبة روح الدستور والقانون الدولي (مثلا عدم احترام حرية المعتقد وحرية التعبير، عدم تجريم التكفير، عدم الصرامة في معالجة جرائم الكراهية والعنصرية والتمييز..)، فإن للترهيب انعكاسات خطيرة على الأفراد والمجتمع. إذ تنجم عنه أضرار نفسية بالغة من خلال الإحساس بالاضطهاد والرفض والإهانة، كما قد يشكل مساسا بالحياة الخاصة للأفراد ويولد شعورا بانعدام الأمن ليندثر معه الإحساس بالانتماء للوطن. كما قد تمتد الأضرار إلى محيط الضحية من أسرة وأصدقاء. وأما على مستوى المجتمع، فإن الترهيب يشكل خطرا حقيقيا على النقاش العمومي الذي يعتبر المسار الطبيعي والديموقراطي لطرح المشاكل الجماعية واقتراح الحلول الملائمة. إذ يلاحظ إحجام الكثير من المثقفين والفاعلين عن الخوض في بعض القضايا على الرغم من جديتها وإلحاحها، أو اضطرار البعض إلى التماهي مع القيم السائدة مهما كانت مناقضة للعلم. ومع انحسار فرص النقاش، يحتمل تحول الأفراد والمجموعات المتضررة إلى سلوك مسارات خارجة عن القانون بشكل أو باخر للتعبير عن مطالبهم. كذلك، يؤدي اغتيال النقاش، وهذا هو الأخطر، إلى اغتيال التفكير الحر ومن ثمة اختناق المبدعين والمفكرين وإحساسهم بالاضطهاد وهو ما يفسر تزايد هجرة الأدمغة إلى دول تضمن فضاءات أكثر تحررا، وهي الهجرة التي تخدم مشروع المتطرفين، لكنها تفرغ الوطن من الكفاءات التي هو في أمس الحاجة إليها للإقلاع. ختاما، لمعالجة الظاهرة، لا بد من تفعيل دور المؤسسات التربوية بجميع مستوياتها ووسائل الإعلام في نشر قيم الحوار واحترام الاختلاف. ثم مراجعة الترسانة القانونية لتجريم الترهيب بجميع أشكاله ومواكبة التطورات التي عرفتها الظاهرة خاصة في الفضاء الافتراضي، وتوفير الدعم النفسي للضحايا. كما نقترح إنشاء مرصد وطني للقيم يهتم بمواكبة التحولات القيمية التي يعرفها المجتمع والقيام بدراسات وأبحاث حول الإشكالات القيمية المطروحة لتكون مرجعا للسلطات العمومية في صياغة السياسات الفعالة والملائمة.