الإسلام الشعبي للمغاربة دخل في أزمة معنى وأزمة قيم مع الوهابية نعيش مرحلة ثقافية عسيرة وازدواجية مرضية في ما يتعلق بالحريات الفردية يطرح موضوع الحريات الفردية اليوم بالمغرب،سؤالا شائكا على مستوى الممارسة لتعالق وتداخل القانوني فيه بالديني بالاجتماعي، كما يشكل من جهة ثانية امتحانا عسيرا للديمقراطية وخطاب الحداثة غير المفصولة عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية. وبالنظر الى الواقع السوسيولوجي الذي نعيشه اليوم وسلطة الخطاب الاجتماعي والديني، باتت مسألة طرح هذا الموضوع للنقاش المجتمعي ضرورة في مجتمع يعيش فترة بينية مشوشة: قدم في الحداثة ويد تمسك بمزلاج التقليد. “الملحق الثقافي” يطرح هذا السؤال العريض في حوار مع الدكتور والباحث في أنتروبولوجيا الثقافة، والحائز على جائزة المغرب للكتاب في صنف العلوم الاجتماعية في 2018 عياد أبلال. يطرح ملف الحريات الفردية اليوم بالمغرب إشكالات عديدة، تبقى أكثرها إثارة للجدل مسألة حرية المعتقد والحرية الجنسية. أين يقف علم الاجتماع من هذه القضايا؟ في سياق الإجابة عن هذا السؤال، ينبغي بداية التمييز بين الملفات المطلبية ذات المنزع الحقوقي، وبين الظواهر الاجتماعية التي تدخل في صلب موضوع علم الاجتماع. ولهذا فحرية المعتقد والحريات الفردية عموما تدخل في الإطار الأول، لكن تجلياتها وما يتفرغ عنها من ظواهر يدخل في صلب موضوع علم الاجتماع، لهذا فالسوسيولوجيا حتى وإن كانت نقدية، فهي تدرس الظواهر من حيث تجلياتها في النسيج الاجتماعي، وخاصة على مستوى الرابط الاجتماعي، من هنا، نجد أن عدم احترام الحريات الفردية، والذي يتوافق مع الأمية والجهل الحقوقيين، والقانونيين، يجعل استباحة الحياة الخاصة للناس، في حكم المتعارف عليه، مما نشأ عنه العديد من الظواهر الاجتماعية التي تميز المجتمع التلصصي، ومجتمعات الفرجة، ولنا في ما يبث وينشر على شبكات التواصل الاجتماعي خير دليل على ذلك، من فايسبوك وواتساب وأنستغرام وما إلى ذلك من مواقع الافتراضي الذي بات واقعا سائلا وسائباً بامتياز. ولهذا فموقف علم الاجتماع هو موقف العلم الدارس لمجمل هذه الظواهر، في الواقعي والافتراضي على حد سواء. إن موقف علم الاجتماع في بعده النقدي، هو أن بناء الدولة الحديثة لا يستقيم إلا ببناء مجتمع العدالة الاجتماعية والحقوق والحريات، ولا يمكن بأي حال من الأحوال بناء مجتمع ديموقراطي إلا عبر احترام الحريات الفردية. فالدولة الحديثة، في تأسيسها على العقد الاجتماعي، تكون قد تأسست على احترام الحريات الفردية، والديموقراطية في غياب هذه الحقوق هي محض تعسف، من هنا، فالمدخل إلى الدولة الحديثة رهين بدرجة احترام هذه الحريات، سواء كانت في المعتقد أو في العلاقات الثنائية بين الجنسين، أو في التفكير أو في التعبير…. بيد أن المجتمعات والدول التي تعاني من عجز ديموقراطي، تتخذ من تأميم الحريات وامتلاكها لصالح نظم السلطة آلية من آليات تدبير الجسد وقهره، عبر الديني والسياسي والثقافي، كي تتمكن من المحافظة على الوضع القائم الذي يصب حتما لصالح السلطوية. لأن احترام الحريات الفردية هو المدخل الأساس لتفكيك التسلط والقهر في كل تجلياته. ولذلك فدولة الحق والقانون، هي دولة الحريات، وإذا غابت الحريات غابت هذه الدولة. ولهذا فعلم الاجتماع وهو يفكك السلطوية عبر مدخل الحريات، يفسد على الناس حفلاتهم التنكرية باسم الدين والسياسة والثقافة، ولذلك فهو علم تكرهه الأنظمة السلطوية بشكل عام في المجتمعات العربية. الهوية الدينية في العالم العربي اليوم تطرح أسئلة مربكة بالنظر إلى تعدد خرائط التدين، وإشكالياته المرتبطة بالتحول الديني، الاجتماعي، الثقافي، السياسي. ماهي أسباب وعوامل تغيير المعتقد الديني خصوصا في المغرب؟ الهوية الدينية هي في الحقيقة تعسف مفهومي واختزال لنسق الثقافة في معلم الدين، لأن الدين معلم فقط من مختلف معالم الثقافة، باعتبارها نسقاً، إذ هناك اللغة، التقاليد والعادات، نظم القرابة والعلاقات بين الجنسين، البناء والمعمار والسكن، الغناء والموسيقى والفنون….إلخ، ولذلك فالحديث عن الهوية، لا يستقيم إلا باستحضار النسق الثقافي ككل، وكل فصل للدين عن الثقافة هو فصل تعسفي يدخل في ما يسميه أوليفي روا بالجهل المقدس، إذ الدين الخالص لا وجود له، وهو دين تتعدد تجلياته باختلاف وتعدد الثقافات والجغرافيات، فالتدين المغربي مختلف عن الجزائري والخليجي وعن الأسيوي والعكس صحيح، لاختلاف الجغرافية والثقافة. والتدين نفسه يختلف حسب الأزمنة وخصوصياتها. وكلما تحجر التدين وتحول إلى مجرد طقوس كرنفالية وتعبدية مظهرية، كلما فقد الدين روحه، وأصبح مجرد عادات اجتماعية، وكلما حصل ذلك افتقد إلى بعده المدني والأخلاقي والقيمي، وهو ما يجعل عددا من الناس تتبرم منه وتتركه، وتحاول أن تجد ضالتها في شكل آخر من التدين، أو في دين آخر، خاصة حينما تعجز الأطر الإيديولوجية لإنتاج المعرفة الدينية عن تقديم إجابات عن أسئلة الواقع المتطور والمتحول باستمرار، وهو ما حصل مع الإسلام السني الذي بات مجرد طقوس تعبدية، وعادات اجتماعية مفصولة عن روح الدين وجوهره الماثل في الأخلاق والمعاملات، وهو ما اشتدت حدته مع ارتفاع موجات التطرف والغلو، عموما لقد خلصنا في دراستنا لأسباب تغيير المعتقد الديني من الإسلام السني إلى التشيع أو المسيحية أو الإلحاد” الجهل المركب: الدين والتدين وإشكالية تغيير المعتقد” إلى أن من أهم العوامل المساعدة (التابعة) على تغيير المعتقد الديني في العالم العربي في سياق ارتباطها طبعاً بنموذج الأزمة التأويلي (العامل المستقل)، نجد: – أزمة الطفولة والمراهقة وتضرر صورة الأب/الأسرة. – فشل مؤسسات التنشئة الاجتماعية والدينية في تلبية متطلبات الأجيال المعاصرة. – هيمنة الفكر الأحادي، والتسلط البطريركي، وغياب الحوار والقبول بالاختلاف. – انفصال أشكال التدين الإسلامي السني عن أساسها الروحي، وتحول التدين إلى أشكال فرجوية مظهرية خالية من الروح (الصلاة، الصوم، الحج…). – أزمة العقل الفقهي، وتخلف الخطاب الديني السني (الشبهات، القضاء والقدر، حرية المعتقد، الصراط المستقيم، الثلث الناجي، عذاب القبر، وضعية المرأة…). – ظهور الإسلام السياسي والجماعات الدينية الإرهابية (القاعدة، داعش، بوكو حرام، جند الرب، جند الخلافة… إلخ). – الاضطهاد والعنف باسم الله. – دخول أنساق ثقافية منافسة من قبيل الفكر الحداثي الغربي. – تأثير صورة الغرب الحضارية، الديموقراطية والحداثية على الشباب في العالم العربي. – الإقبال الكبير والمتزايد للشباب العربي على الإنترنت في غياب تنشئة اجتماعية وثقافية كفيلة بتحقيق المناعة المكتسبة للشباب العربي. أشكال التدين وطقوسية الإسلام السني وجموده من أهم دوافع تغيير المعتقد. كيف يتمثل المغاربة إسلامهم وماهو دور حركات الإسلام السياسي في ذلك ؟ للإجابة على هذا السؤال ، يجدر بنا المقارنة بين المغاربة وفق نموذجهم التديني الشعبي الذي تربوا عليه قبل المد الوهابي، وبعد ذلك، كيف تحول تدين المغاربة، أعتقد أن الإسلام الشعبي للمغاربة قد دخل في أزمة معنى وأزمة قيم مع الوهابية، التي استطاعت عبر حركات الإسلام السياسي تنميط هذا التدين وإفقاده روحه المرحة. لقد تغيرت ملابس المغاربة وقيمهم وطقوسهم، وتم تعويض الجلباب والحايك واللثام بالنقاب والبرقع، وتم تعويض الحشمة والوقار بالتدخل في الحياة الخاصة للناس انطلاقا من تمثل خاطئ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتم تعويض الاختلاف والتسامح، بالنبذ والعزل وتشويه السمعة، وتم تعويض الرابط الاجتماعي والثقافي بالرابط الديني الذي فرق الناس إلى فئتين: المؤمنين والضالين، وفق هذه الترسيمة، وجدت حركات الإسلام السياسي في الإخفاق الاجتماعي والسياسي والتنموي سندها المرجعي لإعلان شعار الإسلام هو الحل، وكأن المغاربة لم يكونوا مسلمين من قبل. بحيث تم تعليق المستقبل والأمل في البناء الديموقراطي، وتعويضهما بالماضي والبناء الديني وفق تجلياته الطقوسية، لا الأخلاقية والمدنية، وبالرجوع إلى الماضي، أصبح الواقع يطرح الكثير من الأسئلة المحرجة والمقلقة، والتي لم يعد الشباب يجد أجوبة عنها، من هنا تبدأ أزمة المعنى، ويبدأ البحث عن الجواب في أشكال تدين أخرى، وفي تغيير المعتقد الديني. يعيش النسق الاجتماعي والثقافي اليوم بالمغرب أزمة عميقة على مستوى القيم تبرز تجلياتها أكثر لدى الشباب، الفئة الأكثر توجها لتغيير معتقداتها، ما هو المدخل الذي ترونه كفيلا بتجاوز هذا الوضع؟ لتجاوز هذا الوضع، لا حل لنا إلا بالعودة إلى المدرسة، وإصلاح التعليم ببلادنا، وهو إصلاح لن يكتمل بناؤه إلا بالبناء الديموقراطي ودولة الحق والقانون، أعتقد أن السند المرجعي للإسلام السياسي الذي عمل على تحنيط الدين وتهريبه إيديولوجيا، هو الإخفاق الاجتماعي المرتبط أساساً بالإخفاق التنموي في بعديه الاقتصادي والسياسي، ولذلك فتجاوز هذا الإخفاق، عبر إقرار نموذج تنموي جديد لا ينفصل عن أسس الدولة الحديثة، كفيل بجعل الدين يسترجع روحه وجوهره الإنساني النبيل، وكفيل بجعل الشباب يستعيد المعنى الذي تم اغتياله لصالح الماضي ولصالح التقليدانية الدينية. هل يمكن وضع خارطة تقريبية لاتجاهات تغيير المعتقد بالمغرب: السن، الجنس، المستوى التعليمي؟ وما الأسباب التي تتحكم في هذه التوجهات؟ قادتنا الدراسة السالفة الذكر، في بُعدها الميداني، إلى استخلاص عدد من النتائج والخلاصات المرتبطة، أساساً، بصياغتنا لنموذج الأزمة التأويلي، على اعتبار أن تغيير المعتقد الديني مرتبط أشد ما يكون الارتباط بأزمة يمر بها المتحول المفترض، توجهه حسب المسالك والظروف إلى تبني معتقد ديني آخر يلبي رغبته ومتطلباته، فعلى مستوى تغيير المعتقد الديني من الإسلام السني إلى المسيحية، فإننا وجدنا أن هذه الأزمة مرتبطة بثلاثة مستويات تحليلية: – أزمة صورة الأب وتمثلات المتحول المفترض الأسرية. – أزمة الاندماج في الوسط الاجتماعي، وهو ما عبرنا عليه بأزمة النسق الاجتماعي. – أزمة التكيف مع قيم وأخلاق المجتمع، وهو ما عبرنا عنه بأزمة نسق الثقافة. وهذه الأزمات في تأثيرها السيكولوجي لا تنفصل عن أساساتها ومرجعياتها في المجتمع؛ ولذلك أعدنا الأزمة النفسية إلى سياقها الأصلي من خلال ردها إلى مختلف الأنساق المغذية للفعل الاجتماعي. إن حصول الأزمة التي تكلمنا عنها سابقاً، يقود بالمقابل إلى غياب المعنى عن نسق القيم التي يؤمن بها المتحول، وهو ما يدفعه للبحث عن مسارات ومسالك دلالية تمنحه التوازن العاطفي الذي اختل بفضل فشل نسق الثقافة والنسق الاجتماعي في مده شخصيته بالمتطلبات الضرورية للأداء الوظيفي الجيد الذي يضمن التوازن والاستقرار لهويته الدينية؛ مما يجعل البحث محفوفاً بمخاطر التيه واللا جدوى التي لا تنتفي إلا بعد مرور زمن، قد يطول إلى هذا الحد أو ذاك، حسب العروض التي يلتقيها في مسار بحثه هذا. وهنا وجدنا أن التنصير عبر حلقة الأصدقاء يشكل المسلك الأهم لاقتصاد تغيير المعتقد، على اعتبار أن الظاهرة باتت مرتبطة بقانون العرض والطلب، وبلغة «ميرتون»، بتوافر أنساق ثقافية بديلة تغذي نسق الشخصية بمتطلبات يعجز، إلى الآن، نسق ثقافة الانتماء عن توفيرها وتغذيتها، وهو ما انتبهت إليه المنظمات والمؤسسات التنصيرية، إذ يتم الاعتماد على التنصير عن طريق الأهالي أنفسهم، ولكن دون فك الارتباط مع هذه الأخيرة، إذ اتضح لنا من خلال التعميد، مرحلة عبور نحو المسيحية، أو الولادة الثانية بتعبير بولس، أهمية الحضور المكثف للمبشرين (من أوروبا أو أمريكا) الذين يحضرون لمباركة هذا التعميد باعتباره قلباً للهوية الدينية واكتساباً لمعتقد جديد يتعزز بمساعدات ودعم مالي وتأطير واحتضان عاطفي، وإذا كانت استراتيجيات التنصير تشتد أكثر فأكثر في الجزائر، تونس، المغرب، مصر حسب الترتيب، فإنها لا تنفصل عن الاستراتيجية الكبرى المتمثلة في صناعة أقليات مسيحية، وهنا خلصنا إلى أن الجزائر تعد النموذج-المثال لصناعة الأقليات الدينية، حيث بلغت هذه الأقليات في منطقة القبائل حد المطالبة العلنية بالاستقلال والانفصال. يتم تدعيم التنصير عبر وسيط الأصدقاء والأهالي من خلال عدد من وسائل الاتصال الجماهيرية، من السند الورقي (الكتب والمجلات) إلى السند الرقمي عبر الإنترنت، حيث ينشط بقوة فائقة التبشير والتنصير، وهو ما يخلق لدى المتحول المفترض القابلية الأولية لاستقبال المعتقد الجديد. إن التنصير الافتراضي أصبح له حضور كبير من خلال الانفصال عن الواقعي بإكراهاته المتعددة، وبناء علاقات وصداقات افتراضية تلبي رغبة المتحول المفترض العاطفية، لتنتقل هذه الصداقات الافتراضية إلى صداقات واقعية بحس مشترك، وتضامن وتعاطف عضوي. تقوم المواقع الافتراضية، في إطار تكامل آليات ووسائل التنصير، بتدعيم الوظيفة التبشيرية التي تقوم بها القنوات الفضائية ببرامجها المتنوعة، خاصة شبكة التواصل الاجتماعي: الفيسبوك الذي يعد رائداً في عدد الصفحات التبشيرية التي لم تكتف بالتواصل التفاعلي والحي مع جمهور المرتادين، بل قامت بتحميل عدد من البرامج والشهادات والاعترافات بالصوت والصورة على شكل مقاطع فيديو. كما لجأت إلى بث إذاعات صوتية قابلة للتحميل لبرامج تشرح المسيحية بشكل تبسيطي وسلس للغاية، من قبيل حديث الأصدقاء الذي تبثه قناة الحياة، ويتم بثه في ما بعد على هذه الصفحات، وهو برنامج مغربي يعنى بالمتنصرين الجدد، دون أن ننسى برامج لمتنصرين عرب تُوجَّه إلى العالم العربي تحديداً من قبيل برنامج سؤال جريء الذي يُعدّه ويقدمه المتنصر المغربي «الأخ رشيد»، والذي تبثه قناة الحياة، وبرنامج ممنوع الذي يُعدّه ويقدّمه المتنصر التونسي عماد دبور، وتبثه قناة سات7… إلخ. عموماً تعدّ المرحلة الحرجة لتغيير المعتقد الديني هي المراهقة، حيث خلصنا إلى أن هذه المرحلة حساسة جداً تجاه توتر الهوية وصورة الأب، وتمثله قيمياً وثقافياً واجتماعياً ودينياً، فمعظم الذين عبروا لنا عن طفولة جريحة، واضطرابات عاطفية تجاه الأب، وبداية انسحابهم الوجداني من الأسرة، والمرتبط بطرح أسئلة وجودية تشتمل على التساؤل عن قدرة الله على خلق التوازن النفسي والعاطفي، وتلبية رغباتهم البريئة في فترة الريعان والإحساس بالاكتمال والرشد، وجدوا في مرحلة بناء الشخصية هذه مرحلة بداية تغيير المعتقد نحو المسيحية، أو التشيع، أو اللاأدرية وفي ما بعد الإلحاد. إن ارتباط تغيير المعتقد الديني من الإسلام غير مرتبط أحادياً بأزمة الطفولة والمراهقة؛ ولذلك وجدنا من خلال تحليلنا لمعطياتنا الميدانية أن محاولة تنميط هذا النموذج التأويلي، وحصر تغيير المعتقد في السببية الميكانيكية ضرب من معرفة الحس المشترك؛ إذ خلصنا إلى أن المرور بطفولة ومراهقة منسجمة أو حتى ناجحة ليس كافياً كي يمنع حدوث تحول ديني، ذلك أن نموذجنا التأويلي يمتد إلى أشكال أخرى للأزمات الناتجة عن الاضطهاد الديني، الغلو في الدين، أو التعذيب، وهكذا نسميها على التوالي: أزمة الاضطهاد، أزمة الغلو، أزمة التعذيب.. وهذه الأزمات قد تقود إلى تغيير المعتقد الديني حسب مسارات الأفراد، وقدرتهم على التكيف مع الأزمة والخروج منها. عموماً بالنسبة إلى التنصير تعد المراهقة المرحلة الأكثر حرجاً، كما أن المدة التي يتطلبها هذا العبور لا تتجاوز في المتوسط الحسابي السنة، عكس التشيع أو الإلحاد. وفي سياق تغيير المعتقد الديني من الإسلام السني إلى الإسلام الشيعي الاثني عشري، باعتباره نموذجاً لتغيير المذهبي الداخلي، على الرغم مما يثيره من حساسيات سياسية المظهر والجوهر في الآن نفسه، تفوق باقي أشكال تغيير المعتقد (التنصير والإلحاد)، خلصنا إلى أن التشيع باختلاف تلاوينه المعتدل منه والسلفي لا يعدو في العمق سوى خطاب سياسي مؤسس على قاعدة الإخفاق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، خطاب يتماثل مع مفاهيم الصراع الطبقي، وثورة المسحوقين، لكن السؤال الماثل دوماً في سياق هذا الاختيار والمتمثل في الانحياز نحو خطاب التشيع الديني بدل الانحياز إلى خطاب العلمانية أو خطاب الإلحاد مثلاً، فقد وجدنا تفسيره في كون المتشيعين ينتمون عادة إلى الطبقات المتوسطة التي تتميز بفكر حركي وتوقد نقدي من جهة، ومن جهة أخرى لارتباطها الكبير بالدين من خلال تمسكها بالقيم الدينية، على اعتبار أن القيم مفهوم وسيط بين السلوك والمبادئ، وأحد الأبعاد الثلاثة المشكلة للتمثلات الجماعية. من هنا، فإن هذا الوازع القيمي يجعلهم يبحثون عن تكييف واستنبات هذه القيم في وسطهم الاجتماعي، ولما كان هذا الأخير الناتج الموضوعي لتلاقح وتعالق الأنساق المشكلة للفعل الاجتماعي، أي النسق الاجتماعي والنسق الثقافي ونسق الشخصية، فإن تغيير هذا الفعل الاجتماعي يتم عبر استيراد واستدماج مرجعيات تتماشى وهذه القيم، ولذلك، وبالعودة إلى سير المتشيعين الدينية، نجدهم كانوا مواظبين على أداء فرائضهم الإسلامية على المستوى التعبدي منذ الصغر، دون أي توتر يذكر في المرحلة التي كانوا فيها على المذهب السني، أي أن التوازن الذي اختل بسبب عوامل متعددة مرتبطة بنموذج الأزمة التي تكلمنا عنه في السابق، تمت استعادته عبر اعتناق رافد ثقافي-ديني آخر، وهنا المذهب الشيعي الاثني عشري. ينتمي المتشيعون في مجملهم إلى فئات اجتماعية متوسطة، حيث يتضح من خلال المهن (أساتذة، طلبة، تجار، مهاجرون)، ومن خلال مستواهم الدراسي (عموماً ثانوي فما فوق)، ومن متوسط أعمارهم (36 سنة)، ومن خلال تشيعهم في سن متأخرة شيئاً ما مقارنة مع العينة المسيحية، أن التشيع في العالم العربي ما يزال نخبوياً ومرتبطاً بسياقات تشييعية كلاسيكية من خلال التشيع الأهلي وحلقة الأصدقاء. أما التبشير بالتشييع الإلكتروني السيبراني (Cyber-conversion)، فيعدّ ضئيلاً ومحتشماً للغاية إذا ما قارناه بالتبشير التنصيري، خاصة وأن الاطلاع على المواقع الإلكترونية والصفحات والمدونات الشيعية تجدها تناقش في مجملها مواضيع السياسة والشأن العام، على الرغم من تغليفها فقهياً وتشريعياً بالمذهب الشيعي، كما ترتكز على التأصيل من خلال الرجوع إلى المصادر الشيعية والمرجعيات التي يبدو أنها على اختلاف في ما بينها على الرغم من القاسم المشترك، إذ ما يسري على المذاهب والديانات الأخرى يسري على المرجعيات الشيعية، من اختلاف الرؤى بين المرجعيات الثلاث الكبرى التي تهيمن على التشيع العربي (السيستاني، حسين فضل الله، الخمينائي). عموماً ينبسط نموذج الأزمة التأويلي الذي يشرح التشيع على مستوى: أزمة الاستبعاد والإحساس بالظلم الاجتماعي (الحكرة)، والمرتبط، على الرغم من المرور بطفولة سليمة ومنسجمة مع الوسط الأسري، وهي الأزمة التي تشتد بالاطلاع على الفكر الشيعي ومظلومية آل البيت، الشيء الذي يجعل هذا النموذج في ارتباط مع النسق الثقافي بشكل كبير من خلال أزمة البطل الأسطوري، والبحث عن القدوة في زمن انهيار النماذج الملهمة. من هنا يشكل غياب أو موت هذا النموذج/القدوة، أزمة وفقداناً يحدث في نسق الشخصية فراغاً عاطفياً مهولاً، لا يمتلئ إلا بالبحث عن البديل، الأمر الذي قادنا لاستحضار مفهوم جورج لوكاتش عن البطل الروائي ذي الخلفية المأساوية، حيث يستند إلى الإحساس المأساوي بالتعارض بين الجوهر والحياة، وبانفصال البطل عن الجماعة، وهو ما يمثله في الحالة الدينية الشيعية: علي، والحسن، والحسين، وباقي الأئمة الاثني عشر، باعتبارهم رموزاً معقدة بامتياز لاعتبارات عدة كون أئمة المذهب الاثني عشري ليسوا مجرد رموز عادية، وسيلية، يتوسل المؤمن المعتقد بقيمتها الدلالية في مختلف الطقوس التعبدية، بل هي رموز تلخيصية لمسار ديني وسياسي ممتد في التاريخ. يعتمد التشيع كذلك على مختلف وسائل الاتصال الجماهيرية، من السند الورقي (الكتاب، المجلة….) إلى السند الرقمي (الإنترنت) مروراً بالفضائيات التي تعدّ الوسيط السمعي-البصري الأكثر تأثيراً من خلال قنوات (المنار، العالم، الأنوار… إلخ). وهذه الوسائط تدخل في سياق التشييع الإيراني الذي يرتكز بدوره على دعم مالي ولوجيستي كبير، يتضح بقوة في القدرة الكبيرة للنفاذ في صفوف المهاجرين في أوروبا، خاصة في بلجيكا لتشييع المهاجرين السنّة من خلال العمل على حل مشاكل واحتضان هؤلاء في وضعيات صعبة، وإدماجهم عن طريق المصاهرة، وعبرهم يتم اختراق أوساطهم العائلية في بلدان الأصل، خاصة بالنسبة إلى المهاجرين المغاربيين، وفق ما سميناه بالتشيع عن طريق الأهالي، وتأتي في ما بعد حلقة الأصدقاء آليات أساسية للتشييع، دون أن يغيب عن ذهننا تحليلياً ارتباط هذا المسعى بالاختراق الإيراني عبر صناعة أقليات شيعية في العالم العربي. لقد خلصنا بالنسبة إلى الإلحاد، ووفق الرؤية المنهجية نفسها، وحسب نموذجنا التأويلي إلى أن الخروج من الأزمة يقتضي البحث عن معنى الأشياء في المجتمع، من خلال ميكانيزم التعويض العاطفي أولاً، ولهذا فالبحث عن صورة الله ومثوله في الواقع، تعويضاً عن الأب يتم داخل المجتمع، حيث يمر حتماً الملحد المفترض بمرحلة الشك الذي يترجم حجم الخلل في أداء وظيفة الأنساق المشكلة لنسق الشخصية، وكلما فقد المجتمع القيم التي تعوض قيم الأبوة، فقد المتحول المفترض صورة الله في ذهنه، وهي صورة رمزية للقيم الاجتماعية النبيلة التي يعدّ الدين مرجعها الأساسي. ضمن الأفق التحليلي نفسه، وربطاً بالنمط الأول من تغيير المعتقد الديني (التنصير)، وتأكيداً للصدق الداخلي للعينة من جهة والدراسة الميدانية التي قمنا بها من جهة أخرى، فقد خلصنا إلى أن الأسرة تعدّ لبنة أساسية في التنشئة الاجتماعية، وأحد أهم الأساسات المشكلة للهوية الدينية في المجتمع، وهو ما يمنح للأب دوراً مهماً في توازن نسق شخصية الطفل، خاصة في المجتمعات التوحيدية لما للأب من رمزية في تشكل الوعي الديني، وهي الرمزية التي تتضخم أكثر في المجتمعات العربية الإسلامية لما لأهمية الرجل/الذكر في هرمية السلطة الأسرية والدينية، وفي النظام البطريركي بشكل عام. إن تأكيدنا على نموذج الأزمة نموذجاً تحليلياً-تأويلياً لظاهرة تغيير المعتقد الديني غير مرتبط أحادياً بأزمة الأبوة، وأزمة الأسرة بشكل مباشر، بقدر ما هو مرتبط بأزمة نسق الشخصية التي تعدّ نقطة التقاء النسق الاجتماعي بنسق الثقافة، وبالعودة إلى المجتمع العربي الإسلامي، حيث تنتفي كل القيم الروحية المشكلة للدين في بُعده الروحاني، فإننا نجد أن المجتمع الذي يشكل قوة ضاغطة في إجباريته القيمية حسب دوركايم من خلال تأثيره في الفرد وصوغه كما يشاء، قد يكون سبباً من أسباب الإلحاد، ومن ثم يقع انقلاب في الأدوار وفي التأثيرات، وهو ما يجعل الفرد يؤثر في الدين مثلما يؤثر هذا الأخير فيه، وهو ما تمثله أزمات الاضطهاد والغلو والتعذيب وأزمة الموت… إلخ، وهنا نجد أن الثورات بما هي عامل مساعد قد تؤدي إلى الإلحاد، مثلما هو الحال في الحروب الأهلية مثلما حصل في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، ومصر إبان وبعد ثورة 25 يناير 2011م. عموماً خلصنا إلى أن المدة التي يتطلبها الإلحاد أطول وأكثف من التنصير، وأن متوسط عمر الإلحاد هو (23) سنة، كما أن الإلحاد يرتبط بشكل كبير بالأزمات الكبرى والحادة، كما لا ينفصل بدوره عن وسيط حلقة الأصدقاء والتبشير بالإلحاد. لقد تبين لنا من خلال تحليل عدد من الكتابات والرسائل والمواقع الإلحادية أن هذا الأخير قد انتقل من مجرد معتقد فردي من المفروض أنه مبني على المعرفة العلمية والنقدية إلى معتقد تبشيري لا ينفصل عن الدين إلا عبر منطق النفي (نفي الدين، نفي الله، نفي الخلود… إلخ)، كما خلصنا إلى أن الإلحاد لا يرتبط آلياً بالأزمة المعرفية الناتجة عن عدم القدرة على استيعاب الأديان واللاهوت بمنطق علمي –معرفي، حيث وجدنا حالات لملحدين لم يقرؤوا كتاباً أو مقالاً عن الإلحاد بقدر ما تأثروا بأصدقاء ملحدين، مثلما خلصنا إلى أن خطاب الإلحاد الذي يدعي اعتماده المعرفة العلمية والرياضية لا يرتكز على نقد وتحليل وتفكيك اللاهوت، بقدر ما هو خطاب مبني على الناسوت، ولا ينفصل عن الخلل الوظيفي في أداء مختلف أنساق الفعل الاجتماعي (ثقافي، سياسي، اقتصادي…). إجمالاً يمكن تلخيص أسباب ومسالك تغيير المعتقد الديني في حدوث أزمة تختلف تجلياتها وأسبابها من سياق تجربة إلى أخرى، إذ لا وجود للسبب الكافي، ولا للمسلك الوحيد، ما يفند ضرورة ارتباط تغير المعتقد بالبحث والمعرفة والمقارنة بين الأديان، والبحث العلمي الذي يتطلب سنوات وعقوداً، باستثناء بعض الحالات المشهورة، والتي أتينا على ذكرها، من قبيل تجربة الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، وهو ما لم نشهد عليه من خلال مشمول المقابلات، بيد أنه يمكن استخلاص فئتين من تغيير المعتقد، حيث الأزمة الناشئة في سياق سيرورة الجمعنة تختلف أسبابها، والتي من دون شك لا تقطع الصلة بالنسقين الاجتماعي والثقافي، على اعتبار أن تغيير المعتقد الديني في حد ذاته تجل للنسق الاجتماعي لكونه فعلاً اجتماعياً أكثر من كونه فعلاً دينياً محضاً: الفئة الأولى، حيث منشأ الأزمة اجتماعي، وتمتد الأزمة في هذه الحالة إلى مرحلة الطفولة والمراهقة، باعتبارهما مرحلتين ذات حساسية مفرطة في سياق الهوية الدينية للمتحول المفترض، وهي أزمة تنشأ عادة عن غياب الأب من جهة، أو حضوره السلبي، مما يجعل هاتين المرحلتين تتميزان بتوتر وجرح يأبى أن يندمل، مما يجعل المتحول المفترض يسعى وفق ميكانزمات سيكولوجية إلى قتل الإله رمزياً بقتل أبيه عاطفياً ووجدانياً، كما هو الحال بالنسبة إلى الإلحاد، أو من خلال تغييره بأب/إله آخر في حالة التنصير. بالنسبة للإلحاد قد يكون في بعض الأحيان فجائياً راديكالياً لا يتطلب وقتاً كبيراً لاعتناق الفكر، الإلحادي، خاصة في إطار الأزمات الفجائعية، والمأساوية التي تحدث للملحد المفترض في سياق الحياة، موت قريب عزيز، أحداث دامية، جرائم … إلخ مثلما الحال بالنسبة إلى حالة الجزائريين من الملحدين الذين عايشوا تسعينيات الدم أو المصريين الذين عايشوا الأحداث الدامية والبشعة خلال ثورة (25) يناير، خاصة موقعة الجمل، ومجزرة رابعة كما يسميها بعضهم، والفوضى والخوف والرعب، وهي فئة تتميز معرفياً بسطحية في التفكير وبمستوى تعليمي متوسط، وبجهل كبير لسياق الإسلام التاريخي وأسباب تحجره المعرفي والقيمي، وبجهل كذلك للفكر الإلحادي المبني أساساً على المادية الجدلية والفكر العلمي. أما الفئة الثانية، فهي نسبياً مختلفة في ما يخص موارد ومرجعيات الأزمة الناشئة والمحدثة لمرحلة الشك التي قد تقود إلى تغيير المعتقد الديني، فهي تتميز بطول مرحلتي الشك والبحث عن اليقين، وتجد في الفكر العلمي والمنطق الرياضي المادي مجالها الخصب لمحاولة فهم واقع التخلف العربي (في حالة الإلحاد)، حيث هذا التخلف ثقافي في وقت اشتد التحجر الديني والجمود الفكري في سياق المحافظة التقليدانية على الواقع كما هو. هذه الفئة، وإن كانت شديدة الارتباط بواقعها الاجتماعي والسياسي، فإن أزمتها معرفية أكثر من كونها اجتماعية. أما في حالة التشيع، فيتخذ تغيير المعتقد الديني ذي المنشأ المعرفي المسار السابق نفسه، لكن باختلاف الموارد المعرفية، إذ يلجأ المتحول المفترض إلى المصادر والمراجع الشيعية لمحاولة إيجاد أجوبة على الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، الأمر الذي يتطلب وقتاً طويلاً نسبياً مقارنة مع التشيع الناتج عن الأزمة الأسرية، الاجتماعية، في حين أن المدة التي يتطلبها اعتناق المسيحية، هي نسبياً مدة قصيرة، يمكن إدماج نسقها المؤسس في الأزمة العاطفية، باستثناء بعض الحالات القليلة والنادرة للتنصر الناتج عن الأزمة المعرفية، من قبيل أمثلة بعض رجال الدين والشيوخ الذين اعتنقوا المسيحية نتيجة الاضطهاد والغلو والتعذيب. لننتقل الى حرية الجسد، لماذا لم تنسحب مظاهر الحداثة الفكرية والمادية على مسألة النظر الى الجسد وتمثل أدواره ومعناه الثقافي؟ إذا كان التقليد قد حافظ على ترسيمة الجسد العربي ضمن دوائر الحجر والقسر والإكراه، مبطنا سلطة الهيمنة الذكورية عليه لأسباب اجتماعية وثقافية وسياسية، وفق منطق الثنائيات الضدية: الذكر/ الأنثى ، الحلال/ الحرام، المقدس/ المدنس، مستغلا المدونة التراثية التي تمتد عميقا في المتن الخرافي والأسطوري، والتي لا تشكل من ثم أي علاقة علمية ومعرفية تنويرية بالنص الديني، فإن تخلف المجتمعات العربية، دفعها للعودة إلى الماضي لتفسير الإخفاق السياسي والمجتمعي، مما جعلها تئن تحت وطأة ذهنية التحريم، التي اعتبرت المرأة عورة، سارعت إلى وأدها رمزيا من خلال تقسيم جنسي للأدوار، طالت الملابس، مثلما طالت تقسيم الفضاء الاجتماعي إلى عام/ ذكوري، وخاص أنثوي، وهو التقسيم الذي اتخذ زمنيته الخاصة، معتبرا الليل والستر من نصيب المرأة، والنهار/ النور/ الكشف من نصيب الرجل. وإذا كانت العولمة قد زحفت على كل المجتمعات والثقافات، التي ولجت بعضها، عصر الصورة دون تأسيس معرفي وحضاري لهذا الانتقال من ثقافة الأذن إلى ثقافة العين، فإن المجتمعات العربية، من بين مجتمعات متخلفة أخرى، قد وجدت نفسها أسيرة ثنائية التقليد والحداثة، وهو ما وسمها بكثير من المشاكل والصعوبات التي حولت الجسد من أبعاده الجمالية والروحية إلى مجرد آلية للانتقام والعقاب والتشهير، وفق توتر هوياتي طبع العلاقة بين الجنسين. إن ولوج هذه المجتمعات عصر الحداثة لم يبرح لحظة الصدمة التي ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا، صدمة جعلت جزءا من هذه المجتمعات كارهة، رافضة للتحديث والعصرنة، باعتبار الحداثة، نفسها، بعد فصلها عن أسسها التنويرية، مؤامرة تريد النيل من الثقافة والهوية العربيتين. فإذا كانت العولمة قد أنتجت تسليعا رائعا للجسد، بتعبير دافيد لوبرتون، فإن كل أنشطتها تشغل علاقات هذا الأخير بأجساد الآخرين والتمثلات والقيم والمتخيلات المتعارضة والمتصارعة اجتماعيا عادة، والتي وجدت عربيا في الأسرة وكافة مؤسسات التنشئة الاجتماعية، البنيات الأساسية لإعادة إنتاج مشوه للحداثة من جهة، وللتقليد من جهة ثانية، الشيء الذي جعل هذه المجتمعات تعيش ازدواجية رهيبة على مستوى تعاملها مع أجسادها، فهي مندمجة في عصر الصورة، وإغراءاتها، وفي ثقافة الاستهلاك واستلابه، وفي الوقت نفسه تدعي الطهرانية وتحتمي بالماضي كمرجعية لرفض هذه الصورة وثقافتها. كل حديث عن الجسد يُنظر إليه كمحاولة لتقويض وهدم الهوية الإسلامية، وخصوصا عندما نتحدث عن جسد المرأة، الأمر يقودنا الى الحديث عن القوة الزجرية للقوانين وللدين تجاه هذا الجسد، والمقاومات التي أصبح هذا الجسد يعلن عنها اليوم من خلال اللباس، الاحتجاج، قضايا الجنسانية.. الجواب عن هذا السؤال يجد ضالته في ثنائية التقليد والحداثة بكل تجلياتهما الاجتماعية والثقافية والسياسية، جوهر التفكير في عالمنا العربي الذي ضل طريقه نحو الإصلاح، التحديث والتنمية، من خلال الخلل الوظيفي الذي أصاب مؤسسة الأسرة من جهة، والعلاقات بين الجنسين من جهة ثانية، وهو ما حاولنا توضيحه في كتاب ” الجسد في المجتمعات العربية من الواقع إلى النص” بكثير من العمق والإحالات المرجعية على المجتمع، باعتباره نصاً ثقافياً واجتماعياً. وقد خلصنا إلى أن علاقة الحداثة باليومي العربي، هي علاقة متشظية، تبقى رهينة الأطر الاجتماعية للمعرفة التقليدانية التي تجد في الفحولة المتخيلة أساسها الفكري، والتي تعمل على مستوى المعيش وفق النسق الثقافي والاجتماعي المتوارث على كبح وتيرة التحديث التي تبقى بدورها رهينة للتقليدانية فكراً وممارسة، من خلال القانون الجنائي الذي بات متجاوزا اليوم، ومن خلال ربط الاجتهاد القضائي والقانوني بالسند الديني في بعده الماضوي والنقلي، الذي أغلق باب الاجتهاد منذ قرون. من هنا يمكن الحديث عن الحداثة في العالم العربي عموماً وفق منطق هذه الثنائية، حديثاً مخضباً بعطب وجودي، صحيح أن التحولات التي عرفها العالم العربي تحت وقع العولمة قد غيرت من النظرة الجامدة والمتحجرة إلى الجسد، والجسد الأنثوي على الخصوص، لكن التحرر النسبي للجسد الأنثوي في الفضاء العام، بالرغم من أنه بات أمراً ملحوظاً، فإن وتيرته بطيئة جداً، وأحياناً تتقدم خطوة إلى الأمام لتعود القهقرى خطوتين إلى الخلف، لكنه يبقى تحرراً كائناً، وواقعاً سوسيولوجياً لا يمكن تفاديه، وهو واقع يخضع للمد والجزر حسب حجم سلطان كل من الديني، السياسي والاجتماعي. فواقع الحال يقول بأن العلاقات الجنسية في إطار العلاقات الثنائية غير الزواج في انتشار كبير، خاصة في المدن والعواصم العربية الكبرى، وتشمل كل الفئات الاجتماعية، وولوج المرأة مجمل مساحات الفضاء العام، ونجاحها المستحق في التعبير عن قدراتها الإبداعية والإنسانية في شتى المجالات، أصبح حقيقة لايمكن القفز عليها، ناهيك عن التحولات الجسدانية التي شملت اللباس والزينة والتجميل، لكن هيمنة الخطاب الديني والاجتماعي التقليداني المتجسد في العادات والتقاليد يجعل الأمر يبدو وكأنه انحسار لهذا التحرر الجنساني الذي يزيد من اغتراب الجسد العربي نفسه، خاصة في ما يتعلق بالجسد الأنثوي، بسبب التعامل معه كسلعة وكمتاع، في انفصال تام عن أخلاق جنسانية مساواتية، تتوسطها قيم الحب والجمال والخير. هل يمكن الحديث عن تحقيق بعض الانفراج على مستوى الحريات الفردية بالمغرب؟ وما مدى مساهمة المجتمع المدني في إحداث هذا التحول؟ من الحتمي أن نصل إلى إقرار الحريات الفردية، وهي حريات ترتبط في مجملها بالجسد المقموع، سواء تعلق الأمر بالجنسانية المغلقة أو بالحجر والوصاية على التفكير والتعبير، ليس في المغرب فحسب، بل في مجمل البلدان العربية، وإن كان الأمر يتطلب المزيد من الوقت ومن تضحيات المجتمع المدني، ولهذا فالانفراج مرتبط في العمق بموازين القوى بين تيارات المجتمع، التقدمية من جهة والتقليدانية والدينية من جهة ثانية، خاصة وأن الإصلاحات السياسية تبقى رهينة هذه الموازين، فالحريات الجنسانية، هي تابعة في الأساس إلى حرية المعتقد وحرية التعبير والتفكير، وهنا لا بد من تسجيل أن الربيع العربي، بالرغم من سلبياته على المنطقة العربية، فإنه استطاع أن يكسر حاجز الخوف، وأن يوسع من مساحة حرية التعبير والنقد، بالرغم من عودة السلطوية في بعض البلدان. فواقع الحال يؤكد أن المسلسل الديموقراطي ، ومسلسل الحريات الفردية لن يتوقف، رغم المقاومة الثقافية للتغيير، خاصة من لدن تيارات الإسلام السياسي. وفي ما يخص الحريات المرتبطة بالفضاءين العام والخاص، والحريات الجسدية، فيمكن القول عموما إن المجتمعات العربية تعيش فترة بينية، بين الاعتراف بالواقع السوسيولوجي كما نعيشه، وبين سلطة الخطاب الديني والاجتماعي، ولذلك فهي تعيش مرحلة ثقافية عسيرة وازدواجية مرضية، حتى وإن كانت مرحلة عادية سوسيولوجياً وأنثربولوجياً، باعتبارها مرحلة مرت بها العديد من المجتمعات، وعلى رأسها المجتمعات الغربية نفسها. صحيح بالنسبة إلى الرجل أكثر من المرأة بات الأمر محسوماً كواقع معترف به ولا يثير الدهشة، لكن إذا عدنا إلى عهد قريب نجد أنه كان من العيب أن يلبس الرجل سروالا قصيراً، أو يظهر صدره للعموم، لكن هذا لا يمنعنا من الاعتراف بالتحول السوسيولوجي بالنسبة إلى واقع المرأة كذلك، فانتقالها من الملابس التقليدية إلى العصرية والتخلي عن الجلباب واللثام أو الحايك، في غضون عقود قليلة، وولوجها فضاءات اجتماعية كانت حكراً على الرجل كالمقهى، المطعم، المسابح والشواطئ… كلها مؤشرات على مدى التحول الذي عرفته العقلية الذكورية تجاه الجسد الأنثوي، لكنه تحول لا يزال يرزح تحت وطأة الثقافة الاستهلاكية والتسويقية التي تعتبر المرأة مجرد جسد شبقي، سرعان ما تشتد درجته في سياق عودة الأصوليات الدينية التي تتأسس على قاعدة ذهنية التحريم، والتي تنتصر لثقافة الموت بدل ثقافة الحياة، كما تشتد درجته مع الليبرالية المتوحشة التي حولت المرأة إلى مجرد جسد استهلاكي، كأي مادة تجارية.