بعد 30 عاماً من الجمود.. وزارة الصحة تقرر الزيادة في أجور المساعدين الطبيين    مجلس النواب يعقد الاثنين المقبل جلسة عمومية مخصصة لرئيس الحكومة    الجديدة…زوج يق.تل زوجته بعد رفضها الموافقة على التعدّد    المغرب يتألق في اليونسكو خلال مشاركته باليوم العالمي للثقافة الإفريقية    وثائق مشبوهة ومبالغ مالية تقود إلى توقيف "محام مزور" في فاس    مصرع طفل مغربي في هجوم نفذه أفغاني بألمانيا    هناء الإدريسي تطرح "مكملة بالنية" من ألحان رضوان الديري -فيديو-    لحجمري: عطاء الراحل عباس الجراري واضح في العلم والتأصيل الثقافي    الدوحة..انطلاق النسخة الرابعة لمهرجان (كتارا) لآلة العود بمشاركة مغربية    تفشي فيروس الحصبة يطلق مطالبة بإعلان "الطوارئ الصحية" في المغرب    هل فبركت المخابرات الجزائرية عملية اختطاف السائح الإسباني؟    مانشستر سيتي يتعاقد مع المصري عمر مرموش حتى 2029    أغلبها بالشمال.. السلطات تنشر حصيلة إحباط عمليات الهجرة نحو أوروبا    حموشي يؤشر على تعيين مسؤولين جدد بشفشاون    المغرب يستلم 36 شخصا من الجزائر عبر المعبر الحدودي زوج بغال    مدارس طنجة تتعافى من بوحمرون وسط دعوات بالإقبال على التلقيح    كأس أمم إفريقيا- المغرب 2025.. إجراء عملية سحب القرعة بالمسرح الوطني محمد الخامس بالرباط    المغرب يلغي الساعة الإضافية في هذا التاريخ    المغرب الفاسي يعين أكرم الروماني مدرباً للفريق خلفا للإيطالي أرينا    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    حادث سير يخلف 3 قتلى في تنغير    المغرب وموريتانيا يعززان التعاون الطاقي في ظل التوتر الإقليمي مع الجزائر: مشروع الربط الكهربائي ينفتح على آفاق جديدة    تعرف على فيروس داء الحصبة "بوحمرون" الذي ينتشر في المغرب    ريال مدريد يجني 1,5 ملايير يورو    ترامب يعيد تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية أجنبية    مؤشر "مازي" يسجل تقدما في تداولات بورصة الدار البيضاء    المغرب يقترب من إتمام طريق استراتيجي يربط السمارة بموريتانيا: ممر جديد يعزز التعاون الأمني والاقتصادي    تجديد ‬التأكيد ‬على ‬ثوابت ‬حزب ‬الاستقلال ‬وتشبثه ‬بالقيم ‬الدينية    أبطال أوروبا.. فوز مثير ل"PSG" واستعراض الريال وانهيار البايرن وعبور الإنتر    دوري لبنان لكرة القدم يحاول التخلص من مخلفات الحرب    أخطار صحية بالجملة تتربص بالمشتغلين في الفترة الليلية    إوجين يُونيسكُو ومسرح اللاّمَعقُول هل كان كاتباً عبثيّاً حقّاً ؟    الدار البيضاء ضمن أكثر المدن أمانا في إفريقيا لعام 2025    مشروع الميناء الجاف "Agadir Atlantic Hub" بجماعة الدراركة يعزز التنمية الاقتصادية في جهة سوس ماسة    بوروسيا دورتموند يتخلى عن خدمات مدربه نوري شاهين    مؤسسة بلجيكية تطالب السلطات الإسبانية باعتقال ضابط إسرائيلي متهم بارتكاب جرائم حرب    إحالة قضية الرئيس يول إلى النيابة العامة بكوريا الجنوبية    هذا ما تتميز به غرينلاند التي يرغب ترامب في شرائها    احتجاجات تحجب التواصل الاجتماعي في جنوب السودان    إسرائيل تقتل فلسطينيين غرب جنين    نقابات الصحة ترفع شعار التصعيد في وجه "التهراوي"    باريس سان جيرمان ينعش آماله في أبطال أوروبا بعد ريمونتدا مثيرة في شباك مانشستر سيتي    دعوة وزيرة السياحة البنمية لزيارة الداخلة: خطوة نحو شراكة سياحية قوية    الأشعري يدعو إلى "المصالحة اللغوية" عند التنصيب عضواً بالأكاديمية    منظمة التجارة العالمية تسلط الضوء على تطور صناعة الطيران في المغرب    طنجة المتوسط يعزز ريادته في البحر الأبيض المتوسط ويتخطى حاجز 10 ملايين حاوية خلال سنة 2024    عامل نظافة يتعرض لاعتداء عنيف في طنجة    فوضى حراس السيارات في طنجة: الأمن مطالب بتدخل عاجل بعد تعليمات والي الجهة    حادثة مروعة بمسنانة: مصرع شاب وإيقاف سائق سيارة حاول الفرار    في الحاجة إلى ثورة ثقافية تقوم على حب الوطن وخدمته    نحن وترامب: (2) تبادل التاريخ ووثائق اعتماد …المستقبل    الإفراط في تناول اللحوم الحمراء يزيد من مخاطر تدهور الوظائف العقلية ب16 في المائة    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جامعي يسبر أغوار "هوامش الاحتباس القيمي" للشباب المغربي
نشر في هسبريس يوم 29 - 08 - 2017

للخوض في إشكالات المنظومة القيمية بالمغرب من المفروض الارتكاز على مقاربة علمية تتم عبر إنجاز بحث وطني ميداني مستفيض يرتكز على عينة واسعة تمثل مختلف الجهات ومعاينة ترابية ومنهجية كمية وكيفية وآليات بحث ملائمة وأسئلة بحث لفهم أثر المنظومة القيمية في السلوكيات والوقائع المجتمعية والنسق المفاهيمي الذي يمكن من تحليل تمفصلات الأسباب بالنتائج في أفق استشراف تقييم سوسيولوجي للمنظومة القيمية.
تجدر الإشارة إلى أن الساحة المغربية لا تخلو من دراسات حول هذا الإشكال، لا سيما إذا اطلعنا على عدة تقارير بحثية لمراكز مغربية وأخرى أجنبية حول البيئة القيمية والتربوية؛ فالتقييم يستدعي التسلح بمنهجية رصينة تسائل عدة عناصر، منها السياق والخلفية الثقافية ومصفوفة القيم المؤسسة للحياة الاجتماعية والتمثلات الهوياتية ومرتكزات العيش المشترك والتماسك الاجتماعي والرابط الاجتماعي.
من هذا المنظور وتأسيسا على هذه العناصر، كيف يمكن توصيف الوضعية السوسيولوجية للمنظومة القيمية؟ هل هي من قبيل اختلال أو عطب ناتج عن تغير أو تحول أو دينامية أو مكاشفة أو تفاقم أو وسائطية متضخمة أو تعتيم أو انحلال أو تحلل أوموت أو أزمة... ومن الظواهر والوقائع المتصلة باختلال المنظومة القيمية يمكن أن نذكر لا للحصر التطرف - الانتحار (حالات سطات)- "إضرام النار في الأجساد" (مي فتيحة وغيرها) – "عمود المظالم" (مي عيشة وآخرون) - تراكم الأزبال (أحفير والجديدة...) – حرب الطرقات - الاغتصاب (واقعة طوبيس الدار البيضاء وغيرها)– الغش – التحرش الجنسي – التشرميل – الشغب الرياضي - زنا المحارم – القتل والعنف ضد الأصول. مع أن الظواهر التي نبني عليها التقييم قديمة متجددة.. لهذا، فالتوصيف الذي تلتقي فيه جميع الحالات المذكورة أعلاه (انحلال وتحلل وتغير...) يمكن أن نقترح له مسمى الاحتباس القيم.
إن الظاهرة القيمية بالمغرب لا يمكن فهمها من زاوية أنها أزمة قيم بل من باب أنها "احتباس قيمي"؛ ذلك لأن التحول القائم في السلوكات سيؤدي إلى كوارث اجتماعية يصبح معها التعايش والعيش المشترك مستحيلا، كما هو الأمر بالنسبة إلى الاحتباس الحراري الذي يهدد حياة الإنسانية. فمفهوم الأزمة هو مفهوم ظرفي سانكروني يعني أن الظاهرة ماضية للزوال وأن الحلول قريبة. أما مفهوم الاحتباس فيحيل إلى مسؤولية الفاعل (المجتمع) وتراكم الفعل (الانفلاتات القيمية) وهول العواقب (شباب دون مرجعية قيمية وأشكال اجرامية متنوعة وايديولوجيات متوحشة ومتطرفة).
تتجلى مظاهر الخطر والتفاقم في سيرورة الانتقال من آلية المنع إلى فعل الاختباء إلى إرادة المكاشفة. لأجل هذا، فجميع المواقع المجتمعية (الرياضة والسياسة والإعلام والمدرسة والجامعة والعمل والفضاء العائلي والفضاء العام ...) أصبحت مستباحة ليست هناك أزمة قيم؛ فالقيم ما زالت موجودة، لكنها أصبحت في جدلية تنذر بالانقراض والاندثار كما هو الحال في عواقب ظاهرة الاحتباس الحراري.
هوامش الاحتباس القيمي في صفوف الشباب
الحديث عن "هوامش الاحتباس" يمكن من تجاوز منطق التعميم؛ فالأوضاع السوسيو اقتصادية التي غالبا تعدّ مصدر الاحتباس يجب التعامل معها بشكل من الحذر والتحفظ، لأن هناك كذلك شبابا ينتمي إلى عائلات ميسورة ينحو منحى لا يحترم فيه المنظومة القيمية. ومن البدهي كذلك رصد هامش الفضاء الأزرق والعالم الافتراضي مع تناسل المواقع الافتراضية غير المهيكلة ودورها في الانحراف القيمي. هل يمكن أن نتحدث في هذا الخضم عن ثورة رقمية بالنسبة إلى المغرب؟ ثورة رقمية ذات حدين "تكوي وتبخ" تعري وتمسرح تراجع القيم وتكشف وتقف وتحسس بالتجاوزات والانفلاتات. لذا، وانطلاقا من تجليات الواقع السوسيواقتصادي والنهم الافتراضي للشباب (الجميع على الخط Connecting people ) وحيث تم الانتقال بحسب ريجيس دوبري من مجتمع التواصل إلى مجتمع الاتصال من المستحب في تفسير هوامش الانحباس معاينة وتحديد وضبط مواقع الانحباس والوقوف على طبيعة الخريطة الشبابية في علاقتها بالتشخيص القيمي. فمن المواقع التي يشار إليها بطريقة مستمرة ومتكررة المدرسة العمومية على أساس أنها الحاضن الأساس لتكوين شخصية الشاب والشابة وأن مضامينها القيمية أضحت متجاوزة ولا تقدر على مقاومة مد ثقافة ما وراء المدرسة مثل المخدرات والعنف والتباهي والقسوة الذهنية... لأن مضامينها تنتفي منها مقومات سلوكيات الإنسية والاحترام والأخلاق والمواطنة. كما أن القيمة المنحرفة لنسق الشجاعة والنبل أو ما يطلق عليه الشباب مسمى "البطولة" يتجسد في سلوكات الاغتصاب والتشرميل والتحرش والغش والحريك والسرقة والعنف والكراهية والقصاص والتكفير والوعيد والإجرام والعقوق والإدمان..
هذا النسق الجديد تحتضنه وسائل الإعلام العمومي بطريقة غير مباشرة عبر برامج تريدها تضامنية اجتماعية ("أخطر المجرمين" وغيره...) ومنتديات الفضاء الأزرق من خلال تمثل مغرض في التعبير عن حرية الرأي؛ وهو ما ينتج عنه بناء رمزي يشجع على التحريض والتجريب والمغامرة لدى المتلقي، لا سيما الشباب منهم لتصير معه المنظومة القيمية والتربوية في شرود تام تحيل عليه بعض المقولات الشعبية من قبيل "ما تيقرا غير الحمار"..
الوساطة الثقافية والاحتباس القيمي
ومع تراجع الوساطة الثقافية وانسحاب الأحزاب والجمعيات المدنية والأسرة والمدرسة من معترك تأطير الشباب، ولد هذا الفراغ هويات تعويضية متوحشة وتفويضية جارحة؛ فانهيار منظومة القيم تقابله ازدواجية مصفوفة القيم المنشودة (الحداثة في مقابل التقليدانية)، وهو ما ينتج عنه عدوى التسيب القيمي ومعه حالة من التفقير القيمي من خلال مقولات "قافز" – "واعر" – "مسمار" - "الصواب" – "بريكاد"- راجل... فالتمثلات القيمية تتأرجح بين المعنى العام والمعنى الحقيقي في علاقته بالنفاق الاجتماعي؛ فالقيم المنشودة تبنى على قاعدة متدبدبة وغير قارة تستمد قوتها من ازدواجية غير متجانسة إن لم نقل مبغولة، فمثلا "القفوزية" تحيل إلى ذكاء اجتماعي يرتبط بالحركية المجتمعية دون مسائلة مصدر ومسار النجاح.. إن القيم الأخلاقية مثل الصدق والنبل والصداقة والالتزام والتضامن تستقيل أمام قيم من قبيل قيمة "قافز". فهل القيم والسلوكات تضبطها الوساطة الثقافية أم العكس؟
بالعودة إلى علاقة منظومة التعليم بسوق القيم، فالعلاقة الواضحة التي أطرتها جل خطط الإصلاح هي ربط التعليم بسوق الشغل مع أن هدف المدرسة هو ربطها ببورصة ومعاملات وسوق القيم أو بحسب بورديو سوق الخيرات الرمزية. لهذا، فالانحراف السلوكي والاجتماعي أساسه انحراف قيمي وفشل منظومة التنشئة الاجتماعية مما نتج عنه ظهوراستراتيجيات جديدة للتعويض القيمي من قبيل "الرجولة منذ الطفولة" و"الانتماء للفرقة الناجية" و"منطق التشرميل" و"الدخول في جماعة المسلمين" و"العدوانية المجانية" و"إقامة شرع الله في الأرض" و"قتل الكفار" و"قضاء الشارع"... من هذا المنطلق، يبدو أن الشحن الجنسي والإيديولوجي والقناعات العدوانية تؤدي إلى الانحراف السلوكي والتوتر القيمي داخل مختلف الفضاءات المجتمعية دون استثناء. من المستعجل إذن الارتكاز على وساطة ثقافية أساسها التحسيس والتعبئة لمواطنة المصالحة وكذلك الإقرار بواجب الحرية والترويض على العيش المشترك واحترام الاختلاف والتنوع والتعددية ونبذ جميع مرجعيات ثقافة العنف في جميع مرافق الحياة العامة منها الفردية والجماعية.
كما تجدر الإشارة إلى أن الفضاء العمومي ما زال يتسم بذكوريته وعلى أنه فضاء يتحكم فيه الرجل؛ بل إنه فضاء حصري للرجل بل ما زلنا نجد ميزا ثقافيا ظاهرا لا سيما في بعض المواقع الاجتماعية مثل بعض المرافق العمومية (المقاهي) وبعض المهن والوظائف التي تحسب رجالية... فالقيمة المتوارثة اجتماعيا هي أن الرجل هو من يملك الفضاء العام وأن انسلال المرأة يقابل ب"ورقة حمراء " في شكل عنف رمزي أولي ليتحول إلى عنف مادي كنتيجة حتمية. كما أن التماس بين الكوني والخصوصي يشكل كذلك عائقا في نهج منطق توافقي لمعالجة الاحتباس القيمي.
الاحتباس القيمي وعلاقته بالبنية المجتمعية
يشكل الانحباس القيمي تهديدا حقيقا للأجيال المقبلة والبنية المجتمعية والتهديد قائم في إطار ما يمكن أن يطلق عليه باستنساخ النماذج (نموذج التشرميل – الحرق – التقرقيب – الاغتصاب- الجهاد- ...) أي الانتقال من ثقافة السلم إلى ثقافة العنف والحرب أي المرور من منطق التعايش إلى منطق التنافر. ومن تجليات الحرب المجتمعية الخوف من الجار ومن ابن الجار الخوف من الشخص الذي يمر بالجوار والخوف داخل السيارة والخوف داخل المنزل والخوف داخل المقهى والخوف مع اقتراب مقابلة في كرة القدم... مما سيفضي إلى حالة من الرهاب المجتمعي المزمن ووضعية من الاغتراب المواطناتي. كما أن هذه الظواهر تشكل بصورة موازية عطبا في صورة المغرب التي تنوي المؤسسات تصديرها، لا سيما أن المغرب أصبح ينظر إليه في التقارير الدولية الأخيرة مع توالي الأحداث الإرهابية (برشلونة الإسبانية وتوركو الفلندية) وواقعة "طوبيس" الدار البيضاء من خلال شبابه وأجيال مستقبله على أنهم يجسدون أعلى مظاهر الاحتباس الإيديولوجي والجنسي؛ وهو ما يفقد المغرب قوته وقدرته التفاوضية والتنافسية على المستويين الإقليمي والدولي (خاصيتان متناقضتان لشبابه الأولى إيديولوجية تهم التطرف والثانية سلوكية تمت إلى التحرش الجنسي وجميع تبعاته). ومن هذا المنظور، يظل منطق الحملات دون جدوى (لا سيما الحملات التي قامت بها السلطات الأمنية بالدار البيضاء بعد واقعة الطوبيس) لأنه يستحسن الاعتماد على استراتيجية مستدامة ترتكز على الوقاية الاستباقية والعلاج المتوازن لأن الوقائع تتسارع وتتصارع والأحداث متغيرة وذات طبيعة مختلفة.
لقد استشعر المجتمع المغربي خطورة الاحتباس القيمي فكانت ردود الفعل المستنكرة والمتذمرة سريعة وعارمة على شبكات التواصل الاجتماعي مع تأخرها وخفوتها في الفضاءات الواقعية، مع بعض الاستثناءات من جانب جمعيات المجتمع المدني نذكر منها لا للحصر منتدى الزهراء للمرأة المغربية والاتحاد التقدمي لنساء المغرب المنضوي تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل ومنتدى المناصفة والمساواة والمركز المغربي لحقوق الإنسان والجمعية المغربية لحقوق الإنسان فرع أكادير وجمعيات أخرى وبعض الشخصيات الحكومية في شخص الوزيرة الحقاوي والوزيرين أوجار والرميد ورئيس الحكومة الذي وعد في آخر اجتماع حكومي إعلان استراتيجية تقي من الجرائم الجنسية في "الوقت المناسب" والأحزاب نذكر منها حزب التقدم والاشتراكية وبعض الشخصيات السلفية منها أبو حفص والفيزازي والقباج الذين طالبوا ب''تعزير المتحرشين". في المقابل، تظل المبادرات الافتراضية أكثر تأثيرا ووقعا في مسار الأحداث، حيث تم إطلاق "نداء من أجل إستراتيجية وطنية لقيم المواطنة" ل"فتح نقاش وطني وجهوي ومحلي يتحمل فيه كافة الفاعلين والفاعلات مسؤولياتهم ومسؤولياتهن السياسية والمدنية حول منظومة القيم ببلادنا". وهذا النداء سيتوج بمناظرة وطنية على أرض الواقع "من أجل بلورة استراتيجية مواطنة وطنية تشاركية لتعزيز منظومة القيم المشتركة" لمغرب متعدد. كما حقق هاشتاغ "خلوني ندوز" انتشارا واسعا على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" بعد فيديو الطوبيس ومضمون الهشتاغ التضامني هو "زعموا أنها مختلة عقليا.. لكنها لخصت محنة الوطن في كلمتين. #خلوني_ندوز" .وعلى صعيد آخر، لقيت عريضة مواطنة ضد الإفلات من العقاب في حالة التحرش وجهت إلى والي الدار البيضاء ورئيس الحكومة تجاوبا سريعا، حيث ناهزت التوقيعات 20000 توقيع خلال اليومين الأولين والعريضة توجد على موقع Avaaz.org .
انطلاقا من هذه المعطيات، تستوجب ردة الفعل المبادرة والتعبئة والتحسيس؛ فالاستنكار الافتراضي أو المؤسساتي لم يرق إلى استنكار واقعي تجسده مسيرة وطنية تنخرط فيها جميع مكونات المجتمع المغربي بجميع تلاوينها المحلية والجهوية والترابية تجعل منها نقطة فاصلة لتقويم العطب وإصلاحه مع أن الاحتباس القيمي يتطلب خطوات استباقية وقائية وميثاق وعقوبات وكذلك تنشئة مستدامة تستهدف الأجيال المستقبلية ومرافعات قوية للتأثير في نسق ومنطق السياسات العمومية فيما يخص تصويب وضبط البيئة القيمية بالمغرب من خلال التركيز على الدور التربوي والأخلاقي لمؤسسات التنشئة والمؤسس على مصفوفة من سلوكات المواطنة.
مسببات الاحتباس القيمي
المسؤولية مشتركة بين جميع مكونات المجتمع المغربي من مكونات مؤسساتية ومكونات سياسية ومكونات مدنية ومكونات اجتماعية (الأسرة والسلطات العمومية والأحزاب والمجتمع المدني والمدرسة والشبكات المجتمعية من أصدقاء وأقران وأقارب...) لتصويب المضامين وخلق مسلك التربية القيمية داخل المدرسة والجامعة والفضاءات الموازية (الأحزاب والجمعيات ودور الشباب...). كما أن برودة وخفوت ردة فعل الدولة ممثلة في الحكومة ولو بطريقة رمزية وتضامنا مع الضحايا من قبيل وضع شارة أو شكل آخر للتنديد بما وقع (مع أن التضامن والتنديد يكون فوريا وغير مشروط مع بعض الوقائع الدولية والخارجية) كما يتوجب عليها أن تعطي انطباعا على خطورة مثل هذه الوقائع والإسراع في تغيير ومراجعة القوانين التي تهم الانفلاتات والبت في مقترحات بعض الأحزاب والفرق البرلمانية التي تنص على ضرورة الرفع من عقوبات المغتصبين والمقترفين للعنف بجميع أشكاله والبت لأنها تمثل الموقع المؤسساتي الذي يضطلع بوظيفة ضمان الأمن القيمي للمواطنين وضبطه.
بعيدا عن الدولة ومؤسساتها يبدو أن المسؤولية في تفشي هذه الظواهر تظل مشتركة ومتشعبة وتدخل في إطار تسلسلي لفهم صحيح لظاهرة الاحتباس القيمي مع الأخذ بعين الاعتبار جميع الجوانب القانونية والإجراءات العملية منها الوقائية والحمائية والعلاجية وكذلك التكفلية. إلا أنه في خضم الأحداث الأخيرة، لا سيما بعد واقعة "الطوبيس"؛ فعوض التداول المجتمعي في الوقائع التي تؤكد ظاهرة الاحتباس القيمي تمت شخصنة النقاش وتحميل المسؤولية للوزيرة المكلفة بالقطاع انطلاقا من انطباعات شخصية وانتقائية أو اعتماد تهريب النقاش إلى مواقع أخرى غير مؤسساتية مثل زعم أن ما يقع هو نتيجة "غياب التربية والأخلاق" بحسب وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان وليس تراجع دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية أو بالأحرى استقالتها من دورها. ولأن دور الدولة يتجلى في ضمان التماسك الاجتماعي فوظيفة التنشئة المستدامة (التربية القيمية والتربية على المواطنة والتربية الجنسية والتربية على الديمقراطية...) تعود إليها مباشرة وتتحمل مسؤوليتها كاملة بتنسيق مع باقي مكونات المجتمع. فعقوبة السجن رادع وليست حلا لهذا يتوخى أن يفكر ويدبر الحل بحسب آليات إعادة الادماج وصقل هويات تعايشية. كما يمكن اقتراح مقرر للتربية على القيم ومواكبة الشباب ذوي "الإعاقات" القيمية وكذلك إيجاد الطرق الكفيلة لتحسيس العائلة بدور الحمولة القيمية في ضبط سلوكات الشباب وخلق مرافق داخل المؤسسات التعليمية لتتبع الحالة والوضعية القيمية للتلاميذ. فإذا أمكن الحديث في السياسات العمومية عن العدالة الاجتماعية والعدالة المجالية... يمكن كذلك إقرار "العدالة القيمية" واقتراح تدابير واقعية لضمان التكافؤ القيمي والتضامن القيمي بين جميع افراد المجتمع وتأطير الشباب وفقا للهوية والمواطنة المغربية؛ فالهوية والمواطنة يشكلان حجر الأساس لكي لا يتم إنتاج جيل مغترب هوياتيا ومبغول قيميا.
بعض المخرجات للحيلولة دون الاحتباس القيمي بالمغرب
يمكن الإقرار بأن دور المحاضن التربوية في الحد من ظاهرة الانفلات القيمي بين الشباب ترتبط ارتباطا وثيقا بالرؤيا المستقبلية والمشروع المجتمعي. لهذا، فبسرد بعض الحالات (اغتصاب خديجة بابن جرير وإطلاق سراح المتهمين مما أدى إلى انتحارها وحالة الطفلة فاطمة الزهراء بتيفلت التي تعرضت للاختطاف والاغتصاب وحالات الانتحار المتوالية ببعض المدن والجماعات الترابية مثل مدينة سطات والكريساج والوفيات الناتجة عن مقابلات كرة القدم والشغب المرافق للرياضة أو قتل الاب أو الأم أو الجدة أو زنا المحارم ومؤخرا واقعة الطوبيس...) فالتشخيص أصبح ضروريا لفهم موقع هذه المحاضن من الظاهرة لتجاوز مسبباتها. هل هذه المحاضن (ليس في معظمها بل في بعضها) أصبحت مواقع للتيه القيمي والأعطاب السلوكية من قبيل الإدمان على المخدرات والسلوكيات الشاذة والعنف والتطرف وثقافة الكراهية؟ فهذا التيه القيمي نتجت عنه قسوة عاطفية (Cruauté affective ) والتي تشكل متغيرا قارا في ظاهرة الاحتباس القيمي؛ وذلك لأن متغيرات من قبيل الوضع الاجتماعي والاقتصادي أو الارتباك العقائدي تبقى متغيرات غير متصلة لأنه لا يمكن الجزم بأن شباب الطبقات الفقيرة هم المعنيون بالاحتباس؛ فالانفلات يميز جميع الشباب على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية. فلكي تتصدى محاضن التنشئة (الأسرة والمدرسة ودور الشباب والجامعة والحزب والجمعية و...) لظاهرة القسوة العاطفية لدى الشباب يتوخى إعادة توجيه السياسات العمومية في أفق الاستجابة للقيم المادية من قبيل التشغيل والصحة والتعليم والرياضة... من أجل بناء مواطنة هادئة وغير متشنجة لتجاوز مختلف أشكال الكبت المجتمعي ولتتمكن المحاضن التربوية بالاضطلاع بدورها في التنشئة القيمية المستدامة. فمنطق تصحيح الأفكار المسبقة تتبعه آليات التأطير القيمي فإذا كان هناك "سلوك صديق للبيئة" فمع تناسل الوقائع التي تنم عن عدوانية سلوكية أصبح من المفروض الحديث عن "سلوك صديق للإنسان" لتجاوز وضعية الاحتباس القيمي؛ فالتعايش والعيش المشترك مهددان كما هي البيئة.
من المستحب إذن التفكير في ميثاق وطني لضبط الاحتباس القيمي (تطرف – تحرش- اغتصاب – تعنيف – سرقة - ...) والحيلولة دون انتشار وتغول أسباب العزوف عن القيم في المجتمع المغربي لأن التمرد على القيم هو تمرد على التنميط السلوكي الذي ترعاه محاضن التربية من خلال إهمال غير المتفوقين وغير المندمجين أو طردهم أو عدم توجيههم إلى مدارات تأطيرية أخرى: مهنية أو رياضية أو فنية... لا سيما مع استحضار نظرية المهارات المتعددة.
إن المقاربة المتوخاة هي مقاربة اجتماعية ثقافية تداولية تفضي إلى تحديد عناصر التنشئة الأساسية المحكومة بالتأطير والبيئة الأمنية؛ فالتداول لا يقتضي فقط استراتيجيات وآليات وأدوات الإشراك والتتبع والتأطير بل يحتم توظيف القدرة على الاستماع للشباب لأنهم هم الشهود المباشرون على الاحتباس القيمي والتربوي واستثمار آلية الإنصات للشباب لأنهم حاملون لتجربة تردي منظومة القيم ومنظومة التربية على أن يتم في الأخير فتح المجال للاقتراحات والتدابير وبناء إبداع وتصور مشترك ومتفاوض عليه لمضامين مرجعية وخلفية ثقافية متوافق عليها لتصويب الاحتباس. تقوم هذه المقاربة على مفاهيم مثل المواطنة واحترام الاختلاف والتنوع والأخلاق العامة... كل هذه المضامين المرجعية لا يمكن استتبابها إلا من خلال تدعيمها بمقاربة أمنية لردع المخالفين في احترام تام للقانون والحريات.
إن المقاربة الناجعة تعدو أن تكون اندماجية، تستمد قوتها وأسسها من المد الثقافي والتربية الفكرية والتجارب القيمية والحقوقية المحددة للعيش المشترك والثوابت الوطنية واحترام التنوع والرابط الاجتماعي وتنضبط لمحددات البيئة القانونية وشروط التدابير الأمنية في سبيل استمراريتها ونضجها المجتمعي.
*أستاذ العلوم الاجتماعية جامعة محمد الخامس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.