إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جامعي يسبر أغوار "هوامش الاحتباس القيمي" للشباب المغربي
نشر في هسبريس يوم 29 - 08 - 2017

للخوض في إشكالات المنظومة القيمية بالمغرب من المفروض الارتكاز على مقاربة علمية تتم عبر إنجاز بحث وطني ميداني مستفيض يرتكز على عينة واسعة تمثل مختلف الجهات ومعاينة ترابية ومنهجية كمية وكيفية وآليات بحث ملائمة وأسئلة بحث لفهم أثر المنظومة القيمية في السلوكيات والوقائع المجتمعية والنسق المفاهيمي الذي يمكن من تحليل تمفصلات الأسباب بالنتائج في أفق استشراف تقييم سوسيولوجي للمنظومة القيمية.
تجدر الإشارة إلى أن الساحة المغربية لا تخلو من دراسات حول هذا الإشكال، لا سيما إذا اطلعنا على عدة تقارير بحثية لمراكز مغربية وأخرى أجنبية حول البيئة القيمية والتربوية؛ فالتقييم يستدعي التسلح بمنهجية رصينة تسائل عدة عناصر، منها السياق والخلفية الثقافية ومصفوفة القيم المؤسسة للحياة الاجتماعية والتمثلات الهوياتية ومرتكزات العيش المشترك والتماسك الاجتماعي والرابط الاجتماعي.
من هذا المنظور وتأسيسا على هذه العناصر، كيف يمكن توصيف الوضعية السوسيولوجية للمنظومة القيمية؟ هل هي من قبيل اختلال أو عطب ناتج عن تغير أو تحول أو دينامية أو مكاشفة أو تفاقم أو وسائطية متضخمة أو تعتيم أو انحلال أو تحلل أوموت أو أزمة... ومن الظواهر والوقائع المتصلة باختلال المنظومة القيمية يمكن أن نذكر لا للحصر التطرف - الانتحار (حالات سطات)- "إضرام النار في الأجساد" (مي فتيحة وغيرها) – "عمود المظالم" (مي عيشة وآخرون) - تراكم الأزبال (أحفير والجديدة...) – حرب الطرقات - الاغتصاب (واقعة طوبيس الدار البيضاء وغيرها)– الغش – التحرش الجنسي – التشرميل – الشغب الرياضي - زنا المحارم – القتل والعنف ضد الأصول. مع أن الظواهر التي نبني عليها التقييم قديمة متجددة.. لهذا، فالتوصيف الذي تلتقي فيه جميع الحالات المذكورة أعلاه (انحلال وتحلل وتغير...) يمكن أن نقترح له مسمى الاحتباس القيم.
إن الظاهرة القيمية بالمغرب لا يمكن فهمها من زاوية أنها أزمة قيم بل من باب أنها "احتباس قيمي"؛ ذلك لأن التحول القائم في السلوكات سيؤدي إلى كوارث اجتماعية يصبح معها التعايش والعيش المشترك مستحيلا، كما هو الأمر بالنسبة إلى الاحتباس الحراري الذي يهدد حياة الإنسانية. فمفهوم الأزمة هو مفهوم ظرفي سانكروني يعني أن الظاهرة ماضية للزوال وأن الحلول قريبة. أما مفهوم الاحتباس فيحيل إلى مسؤولية الفاعل (المجتمع) وتراكم الفعل (الانفلاتات القيمية) وهول العواقب (شباب دون مرجعية قيمية وأشكال اجرامية متنوعة وايديولوجيات متوحشة ومتطرفة).
تتجلى مظاهر الخطر والتفاقم في سيرورة الانتقال من آلية المنع إلى فعل الاختباء إلى إرادة المكاشفة. لأجل هذا، فجميع المواقع المجتمعية (الرياضة والسياسة والإعلام والمدرسة والجامعة والعمل والفضاء العائلي والفضاء العام ...) أصبحت مستباحة ليست هناك أزمة قيم؛ فالقيم ما زالت موجودة، لكنها أصبحت في جدلية تنذر بالانقراض والاندثار كما هو الحال في عواقب ظاهرة الاحتباس الحراري.
هوامش الاحتباس القيمي في صفوف الشباب
الحديث عن "هوامش الاحتباس" يمكن من تجاوز منطق التعميم؛ فالأوضاع السوسيو اقتصادية التي غالبا تعدّ مصدر الاحتباس يجب التعامل معها بشكل من الحذر والتحفظ، لأن هناك كذلك شبابا ينتمي إلى عائلات ميسورة ينحو منحى لا يحترم فيه المنظومة القيمية. ومن البدهي كذلك رصد هامش الفضاء الأزرق والعالم الافتراضي مع تناسل المواقع الافتراضية غير المهيكلة ودورها في الانحراف القيمي. هل يمكن أن نتحدث في هذا الخضم عن ثورة رقمية بالنسبة إلى المغرب؟ ثورة رقمية ذات حدين "تكوي وتبخ" تعري وتمسرح تراجع القيم وتكشف وتقف وتحسس بالتجاوزات والانفلاتات. لذا، وانطلاقا من تجليات الواقع السوسيواقتصادي والنهم الافتراضي للشباب (الجميع على الخط Connecting people ) وحيث تم الانتقال بحسب ريجيس دوبري من مجتمع التواصل إلى مجتمع الاتصال من المستحب في تفسير هوامش الانحباس معاينة وتحديد وضبط مواقع الانحباس والوقوف على طبيعة الخريطة الشبابية في علاقتها بالتشخيص القيمي. فمن المواقع التي يشار إليها بطريقة مستمرة ومتكررة المدرسة العمومية على أساس أنها الحاضن الأساس لتكوين شخصية الشاب والشابة وأن مضامينها القيمية أضحت متجاوزة ولا تقدر على مقاومة مد ثقافة ما وراء المدرسة مثل المخدرات والعنف والتباهي والقسوة الذهنية... لأن مضامينها تنتفي منها مقومات سلوكيات الإنسية والاحترام والأخلاق والمواطنة. كما أن القيمة المنحرفة لنسق الشجاعة والنبل أو ما يطلق عليه الشباب مسمى "البطولة" يتجسد في سلوكات الاغتصاب والتشرميل والتحرش والغش والحريك والسرقة والعنف والكراهية والقصاص والتكفير والوعيد والإجرام والعقوق والإدمان..
هذا النسق الجديد تحتضنه وسائل الإعلام العمومي بطريقة غير مباشرة عبر برامج تريدها تضامنية اجتماعية ("أخطر المجرمين" وغيره...) ومنتديات الفضاء الأزرق من خلال تمثل مغرض في التعبير عن حرية الرأي؛ وهو ما ينتج عنه بناء رمزي يشجع على التحريض والتجريب والمغامرة لدى المتلقي، لا سيما الشباب منهم لتصير معه المنظومة القيمية والتربوية في شرود تام تحيل عليه بعض المقولات الشعبية من قبيل "ما تيقرا غير الحمار"..
الوساطة الثقافية والاحتباس القيمي
ومع تراجع الوساطة الثقافية وانسحاب الأحزاب والجمعيات المدنية والأسرة والمدرسة من معترك تأطير الشباب، ولد هذا الفراغ هويات تعويضية متوحشة وتفويضية جارحة؛ فانهيار منظومة القيم تقابله ازدواجية مصفوفة القيم المنشودة (الحداثة في مقابل التقليدانية)، وهو ما ينتج عنه عدوى التسيب القيمي ومعه حالة من التفقير القيمي من خلال مقولات "قافز" – "واعر" – "مسمار" - "الصواب" – "بريكاد"- راجل... فالتمثلات القيمية تتأرجح بين المعنى العام والمعنى الحقيقي في علاقته بالنفاق الاجتماعي؛ فالقيم المنشودة تبنى على قاعدة متدبدبة وغير قارة تستمد قوتها من ازدواجية غير متجانسة إن لم نقل مبغولة، فمثلا "القفوزية" تحيل إلى ذكاء اجتماعي يرتبط بالحركية المجتمعية دون مسائلة مصدر ومسار النجاح.. إن القيم الأخلاقية مثل الصدق والنبل والصداقة والالتزام والتضامن تستقيل أمام قيم من قبيل قيمة "قافز". فهل القيم والسلوكات تضبطها الوساطة الثقافية أم العكس؟
بالعودة إلى علاقة منظومة التعليم بسوق القيم، فالعلاقة الواضحة التي أطرتها جل خطط الإصلاح هي ربط التعليم بسوق الشغل مع أن هدف المدرسة هو ربطها ببورصة ومعاملات وسوق القيم أو بحسب بورديو سوق الخيرات الرمزية. لهذا، فالانحراف السلوكي والاجتماعي أساسه انحراف قيمي وفشل منظومة التنشئة الاجتماعية مما نتج عنه ظهوراستراتيجيات جديدة للتعويض القيمي من قبيل "الرجولة منذ الطفولة" و"الانتماء للفرقة الناجية" و"منطق التشرميل" و"الدخول في جماعة المسلمين" و"العدوانية المجانية" و"إقامة شرع الله في الأرض" و"قتل الكفار" و"قضاء الشارع"... من هذا المنطلق، يبدو أن الشحن الجنسي والإيديولوجي والقناعات العدوانية تؤدي إلى الانحراف السلوكي والتوتر القيمي داخل مختلف الفضاءات المجتمعية دون استثناء. من المستعجل إذن الارتكاز على وساطة ثقافية أساسها التحسيس والتعبئة لمواطنة المصالحة وكذلك الإقرار بواجب الحرية والترويض على العيش المشترك واحترام الاختلاف والتنوع والتعددية ونبذ جميع مرجعيات ثقافة العنف في جميع مرافق الحياة العامة منها الفردية والجماعية.
كما تجدر الإشارة إلى أن الفضاء العمومي ما زال يتسم بذكوريته وعلى أنه فضاء يتحكم فيه الرجل؛ بل إنه فضاء حصري للرجل بل ما زلنا نجد ميزا ثقافيا ظاهرا لا سيما في بعض المواقع الاجتماعية مثل بعض المرافق العمومية (المقاهي) وبعض المهن والوظائف التي تحسب رجالية... فالقيمة المتوارثة اجتماعيا هي أن الرجل هو من يملك الفضاء العام وأن انسلال المرأة يقابل ب"ورقة حمراء " في شكل عنف رمزي أولي ليتحول إلى عنف مادي كنتيجة حتمية. كما أن التماس بين الكوني والخصوصي يشكل كذلك عائقا في نهج منطق توافقي لمعالجة الاحتباس القيمي.
الاحتباس القيمي وعلاقته بالبنية المجتمعية
يشكل الانحباس القيمي تهديدا حقيقا للأجيال المقبلة والبنية المجتمعية والتهديد قائم في إطار ما يمكن أن يطلق عليه باستنساخ النماذج (نموذج التشرميل – الحرق – التقرقيب – الاغتصاب- الجهاد- ...) أي الانتقال من ثقافة السلم إلى ثقافة العنف والحرب أي المرور من منطق التعايش إلى منطق التنافر. ومن تجليات الحرب المجتمعية الخوف من الجار ومن ابن الجار الخوف من الشخص الذي يمر بالجوار والخوف داخل السيارة والخوف داخل المنزل والخوف داخل المقهى والخوف مع اقتراب مقابلة في كرة القدم... مما سيفضي إلى حالة من الرهاب المجتمعي المزمن ووضعية من الاغتراب المواطناتي. كما أن هذه الظواهر تشكل بصورة موازية عطبا في صورة المغرب التي تنوي المؤسسات تصديرها، لا سيما أن المغرب أصبح ينظر إليه في التقارير الدولية الأخيرة مع توالي الأحداث الإرهابية (برشلونة الإسبانية وتوركو الفلندية) وواقعة "طوبيس" الدار البيضاء من خلال شبابه وأجيال مستقبله على أنهم يجسدون أعلى مظاهر الاحتباس الإيديولوجي والجنسي؛ وهو ما يفقد المغرب قوته وقدرته التفاوضية والتنافسية على المستويين الإقليمي والدولي (خاصيتان متناقضتان لشبابه الأولى إيديولوجية تهم التطرف والثانية سلوكية تمت إلى التحرش الجنسي وجميع تبعاته). ومن هذا المنظور، يظل منطق الحملات دون جدوى (لا سيما الحملات التي قامت بها السلطات الأمنية بالدار البيضاء بعد واقعة الطوبيس) لأنه يستحسن الاعتماد على استراتيجية مستدامة ترتكز على الوقاية الاستباقية والعلاج المتوازن لأن الوقائع تتسارع وتتصارع والأحداث متغيرة وذات طبيعة مختلفة.
لقد استشعر المجتمع المغربي خطورة الاحتباس القيمي فكانت ردود الفعل المستنكرة والمتذمرة سريعة وعارمة على شبكات التواصل الاجتماعي مع تأخرها وخفوتها في الفضاءات الواقعية، مع بعض الاستثناءات من جانب جمعيات المجتمع المدني نذكر منها لا للحصر منتدى الزهراء للمرأة المغربية والاتحاد التقدمي لنساء المغرب المنضوي تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل ومنتدى المناصفة والمساواة والمركز المغربي لحقوق الإنسان والجمعية المغربية لحقوق الإنسان فرع أكادير وجمعيات أخرى وبعض الشخصيات الحكومية في شخص الوزيرة الحقاوي والوزيرين أوجار والرميد ورئيس الحكومة الذي وعد في آخر اجتماع حكومي إعلان استراتيجية تقي من الجرائم الجنسية في "الوقت المناسب" والأحزاب نذكر منها حزب التقدم والاشتراكية وبعض الشخصيات السلفية منها أبو حفص والفيزازي والقباج الذين طالبوا ب''تعزير المتحرشين". في المقابل، تظل المبادرات الافتراضية أكثر تأثيرا ووقعا في مسار الأحداث، حيث تم إطلاق "نداء من أجل إستراتيجية وطنية لقيم المواطنة" ل"فتح نقاش وطني وجهوي ومحلي يتحمل فيه كافة الفاعلين والفاعلات مسؤولياتهم ومسؤولياتهن السياسية والمدنية حول منظومة القيم ببلادنا". وهذا النداء سيتوج بمناظرة وطنية على أرض الواقع "من أجل بلورة استراتيجية مواطنة وطنية تشاركية لتعزيز منظومة القيم المشتركة" لمغرب متعدد. كما حقق هاشتاغ "خلوني ندوز" انتشارا واسعا على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" بعد فيديو الطوبيس ومضمون الهشتاغ التضامني هو "زعموا أنها مختلة عقليا.. لكنها لخصت محنة الوطن في كلمتين. #خلوني_ندوز" .وعلى صعيد آخر، لقيت عريضة مواطنة ضد الإفلات من العقاب في حالة التحرش وجهت إلى والي الدار البيضاء ورئيس الحكومة تجاوبا سريعا، حيث ناهزت التوقيعات 20000 توقيع خلال اليومين الأولين والعريضة توجد على موقع Avaaz.org .
انطلاقا من هذه المعطيات، تستوجب ردة الفعل المبادرة والتعبئة والتحسيس؛ فالاستنكار الافتراضي أو المؤسساتي لم يرق إلى استنكار واقعي تجسده مسيرة وطنية تنخرط فيها جميع مكونات المجتمع المغربي بجميع تلاوينها المحلية والجهوية والترابية تجعل منها نقطة فاصلة لتقويم العطب وإصلاحه مع أن الاحتباس القيمي يتطلب خطوات استباقية وقائية وميثاق وعقوبات وكذلك تنشئة مستدامة تستهدف الأجيال المستقبلية ومرافعات قوية للتأثير في نسق ومنطق السياسات العمومية فيما يخص تصويب وضبط البيئة القيمية بالمغرب من خلال التركيز على الدور التربوي والأخلاقي لمؤسسات التنشئة والمؤسس على مصفوفة من سلوكات المواطنة.
مسببات الاحتباس القيمي
المسؤولية مشتركة بين جميع مكونات المجتمع المغربي من مكونات مؤسساتية ومكونات سياسية ومكونات مدنية ومكونات اجتماعية (الأسرة والسلطات العمومية والأحزاب والمجتمع المدني والمدرسة والشبكات المجتمعية من أصدقاء وأقران وأقارب...) لتصويب المضامين وخلق مسلك التربية القيمية داخل المدرسة والجامعة والفضاءات الموازية (الأحزاب والجمعيات ودور الشباب...). كما أن برودة وخفوت ردة فعل الدولة ممثلة في الحكومة ولو بطريقة رمزية وتضامنا مع الضحايا من قبيل وضع شارة أو شكل آخر للتنديد بما وقع (مع أن التضامن والتنديد يكون فوريا وغير مشروط مع بعض الوقائع الدولية والخارجية) كما يتوجب عليها أن تعطي انطباعا على خطورة مثل هذه الوقائع والإسراع في تغيير ومراجعة القوانين التي تهم الانفلاتات والبت في مقترحات بعض الأحزاب والفرق البرلمانية التي تنص على ضرورة الرفع من عقوبات المغتصبين والمقترفين للعنف بجميع أشكاله والبت لأنها تمثل الموقع المؤسساتي الذي يضطلع بوظيفة ضمان الأمن القيمي للمواطنين وضبطه.
بعيدا عن الدولة ومؤسساتها يبدو أن المسؤولية في تفشي هذه الظواهر تظل مشتركة ومتشعبة وتدخل في إطار تسلسلي لفهم صحيح لظاهرة الاحتباس القيمي مع الأخذ بعين الاعتبار جميع الجوانب القانونية والإجراءات العملية منها الوقائية والحمائية والعلاجية وكذلك التكفلية. إلا أنه في خضم الأحداث الأخيرة، لا سيما بعد واقعة "الطوبيس"؛ فعوض التداول المجتمعي في الوقائع التي تؤكد ظاهرة الاحتباس القيمي تمت شخصنة النقاش وتحميل المسؤولية للوزيرة المكلفة بالقطاع انطلاقا من انطباعات شخصية وانتقائية أو اعتماد تهريب النقاش إلى مواقع أخرى غير مؤسساتية مثل زعم أن ما يقع هو نتيجة "غياب التربية والأخلاق" بحسب وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان وليس تراجع دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية أو بالأحرى استقالتها من دورها. ولأن دور الدولة يتجلى في ضمان التماسك الاجتماعي فوظيفة التنشئة المستدامة (التربية القيمية والتربية على المواطنة والتربية الجنسية والتربية على الديمقراطية...) تعود إليها مباشرة وتتحمل مسؤوليتها كاملة بتنسيق مع باقي مكونات المجتمع. فعقوبة السجن رادع وليست حلا لهذا يتوخى أن يفكر ويدبر الحل بحسب آليات إعادة الادماج وصقل هويات تعايشية. كما يمكن اقتراح مقرر للتربية على القيم ومواكبة الشباب ذوي "الإعاقات" القيمية وكذلك إيجاد الطرق الكفيلة لتحسيس العائلة بدور الحمولة القيمية في ضبط سلوكات الشباب وخلق مرافق داخل المؤسسات التعليمية لتتبع الحالة والوضعية القيمية للتلاميذ. فإذا أمكن الحديث في السياسات العمومية عن العدالة الاجتماعية والعدالة المجالية... يمكن كذلك إقرار "العدالة القيمية" واقتراح تدابير واقعية لضمان التكافؤ القيمي والتضامن القيمي بين جميع افراد المجتمع وتأطير الشباب وفقا للهوية والمواطنة المغربية؛ فالهوية والمواطنة يشكلان حجر الأساس لكي لا يتم إنتاج جيل مغترب هوياتيا ومبغول قيميا.
بعض المخرجات للحيلولة دون الاحتباس القيمي بالمغرب
يمكن الإقرار بأن دور المحاضن التربوية في الحد من ظاهرة الانفلات القيمي بين الشباب ترتبط ارتباطا وثيقا بالرؤيا المستقبلية والمشروع المجتمعي. لهذا، فبسرد بعض الحالات (اغتصاب خديجة بابن جرير وإطلاق سراح المتهمين مما أدى إلى انتحارها وحالة الطفلة فاطمة الزهراء بتيفلت التي تعرضت للاختطاف والاغتصاب وحالات الانتحار المتوالية ببعض المدن والجماعات الترابية مثل مدينة سطات والكريساج والوفيات الناتجة عن مقابلات كرة القدم والشغب المرافق للرياضة أو قتل الاب أو الأم أو الجدة أو زنا المحارم ومؤخرا واقعة الطوبيس...) فالتشخيص أصبح ضروريا لفهم موقع هذه المحاضن من الظاهرة لتجاوز مسبباتها. هل هذه المحاضن (ليس في معظمها بل في بعضها) أصبحت مواقع للتيه القيمي والأعطاب السلوكية من قبيل الإدمان على المخدرات والسلوكيات الشاذة والعنف والتطرف وثقافة الكراهية؟ فهذا التيه القيمي نتجت عنه قسوة عاطفية (Cruauté affective ) والتي تشكل متغيرا قارا في ظاهرة الاحتباس القيمي؛ وذلك لأن متغيرات من قبيل الوضع الاجتماعي والاقتصادي أو الارتباك العقائدي تبقى متغيرات غير متصلة لأنه لا يمكن الجزم بأن شباب الطبقات الفقيرة هم المعنيون بالاحتباس؛ فالانفلات يميز جميع الشباب على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية. فلكي تتصدى محاضن التنشئة (الأسرة والمدرسة ودور الشباب والجامعة والحزب والجمعية و...) لظاهرة القسوة العاطفية لدى الشباب يتوخى إعادة توجيه السياسات العمومية في أفق الاستجابة للقيم المادية من قبيل التشغيل والصحة والتعليم والرياضة... من أجل بناء مواطنة هادئة وغير متشنجة لتجاوز مختلف أشكال الكبت المجتمعي ولتتمكن المحاضن التربوية بالاضطلاع بدورها في التنشئة القيمية المستدامة. فمنطق تصحيح الأفكار المسبقة تتبعه آليات التأطير القيمي فإذا كان هناك "سلوك صديق للبيئة" فمع تناسل الوقائع التي تنم عن عدوانية سلوكية أصبح من المفروض الحديث عن "سلوك صديق للإنسان" لتجاوز وضعية الاحتباس القيمي؛ فالتعايش والعيش المشترك مهددان كما هي البيئة.
من المستحب إذن التفكير في ميثاق وطني لضبط الاحتباس القيمي (تطرف – تحرش- اغتصاب – تعنيف – سرقة - ...) والحيلولة دون انتشار وتغول أسباب العزوف عن القيم في المجتمع المغربي لأن التمرد على القيم هو تمرد على التنميط السلوكي الذي ترعاه محاضن التربية من خلال إهمال غير المتفوقين وغير المندمجين أو طردهم أو عدم توجيههم إلى مدارات تأطيرية أخرى: مهنية أو رياضية أو فنية... لا سيما مع استحضار نظرية المهارات المتعددة.
إن المقاربة المتوخاة هي مقاربة اجتماعية ثقافية تداولية تفضي إلى تحديد عناصر التنشئة الأساسية المحكومة بالتأطير والبيئة الأمنية؛ فالتداول لا يقتضي فقط استراتيجيات وآليات وأدوات الإشراك والتتبع والتأطير بل يحتم توظيف القدرة على الاستماع للشباب لأنهم هم الشهود المباشرون على الاحتباس القيمي والتربوي واستثمار آلية الإنصات للشباب لأنهم حاملون لتجربة تردي منظومة القيم ومنظومة التربية على أن يتم في الأخير فتح المجال للاقتراحات والتدابير وبناء إبداع وتصور مشترك ومتفاوض عليه لمضامين مرجعية وخلفية ثقافية متوافق عليها لتصويب الاحتباس. تقوم هذه المقاربة على مفاهيم مثل المواطنة واحترام الاختلاف والتنوع والأخلاق العامة... كل هذه المضامين المرجعية لا يمكن استتبابها إلا من خلال تدعيمها بمقاربة أمنية لردع المخالفين في احترام تام للقانون والحريات.
إن المقاربة الناجعة تعدو أن تكون اندماجية، تستمد قوتها وأسسها من المد الثقافي والتربية الفكرية والتجارب القيمية والحقوقية المحددة للعيش المشترك والثوابت الوطنية واحترام التنوع والرابط الاجتماعي وتنضبط لمحددات البيئة القانونية وشروط التدابير الأمنية في سبيل استمراريتها ونضجها المجتمعي.
*أستاذ العلوم الاجتماعية جامعة محمد الخامس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.