لم يكن عالمنا بهذا الثراء من قبل، فنادراً ما كان كذلك بهذه الازدواجية وهذا الاستقطاب بسبب انفجار عدم المساواة التي أضحت مسألة مستدامة وشاملة. فنموذج النمو المتفاوت عالميا هو أساس كل التوترات والأزمات الكبرى على جميع المستويات. فخلق الثروات يبقى قضية حضارية من أجل تلبية هائلة للحاجيات الاجتماعية والاقتصادية والجوانب الثقافية للمجتمعات البشرية. لم تنتج الإنسانية مثل هذا القدر من الثروة في تاريخها، ففي غضون 25 عامًا، ازداد عدد سكان العالم بنسبة 38٪، والناتج المحلي الإجمالي في العالم تضاعف وتم تحقيق ما يقرب من نصف نمو الاقتصاد العالمي، حيث يمثل الجنوب الآن 32٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (مقارنة ب 20٪ في التسعينات) بينما تراجع الشمال من 80٪ إلى 68٪. ويبقى العالم كفسيفساء من أنظمة غير متجانسة للغاية: فالنرويجي مثلا ينتج من الثروة سنويا أكثر ب470 مرة من آخر يقطن بجنوب الكرة الأرضية من سكان بوروندي. فالأرض واحدة وميزان الثروة العالمي مختل بين الشمال والجنوب. مع 78٪ من ثروة العالم، يبقى الشمال المسيطر الأكبر على الثروة العالمية بسبب ميراث الجغرافية التاريخية، حيث يتحكم فيها على أساس ثلاثية التراكم، التنمية والهيمنة، بالرغم من صعود البلدان الأخرى النامية: فالصين قد التحقت بنسبة مخزون الثروة لليابان مثلا، في حين يفوق مخزون ثروة الولاياتالمتحدة 27 مرة مجموع ما تنتجه القارة الإفريقية. عدم المساواة آخذة في الاتساع في كل شيء، فالفئات الاجتماعية الميسورة هي المستفيدة في المقام الأول من تحرير التجارة المتزايد ومن حركات رؤوس الأموال العالمية. ووفقا للبنك السويسري للقروض، فإن 400 مليون شخص في العالم، بنسبة 8% فقط من سكان العالم، يمتلكون 86% من الثروة؛ ونخبة من الأثرياء في العالم تمثل فقط %0,7 تستحوذ على 45% من هذه الثروة الكونية. في المقابل هناك 73% من السكان راضون بالفتات (%2,4). في ظل هذه الظروف، تبقى ما يسمى بالطبقات الوسطى محدودة، على الرغم من ازدهارها الأخير في بعض البلدان الناشئة: إنها تمثل أقل من 20٪ من سكان العالم، لكن لديها 11.4٪ فقط من الثروة. هذه الهياكل المتفاوتة ترتبط إلى حد كبير بالتنمية منذ سنوات الثمانينات والتسعينات لنظام التراكم المالي الجديد؛ حيث إن قيمة الأصول المالية حطمت أرقام السجلات التاريخية من خلال الوصول إلى 128.5 تريليون يورو في ديسمبر 2016، فإن 10٪ من أغنى الناس يملكون 79٪ مقابل 1٪ من السكان الأفقر عالميا الذين يمثلون 50٪ من السكان. في بداية القرن الحادي والعشرين، فإن عالمنا به هياكل قديمة للنظام العالمي البائد، فكيف لنا أن نتفاجأ بهذه التوترات الاجتماعية والهجرات المستمرة والنعرات السياسية التي تؤثث عالم اليوم؟ فالهيمنة على ثروات العالم ليس فقط تشكل صدمة أخلاقية، لكنها اقتصاديا واجتماعيا غير مجدية لتمثل عالما مستقرا في جميع ربوعه. على الرغم من الانخفاض الحقيقي في مستوى الفقر المدقع، الذي ما زال يجتاح أكثر من 850 مليون شخص، إلا أنه يتنافى مع الهدف المتوخى للأمم المتحدة للقضاء عليه بحلول عام 2030 حيث يبقى ذلك حلما صعب المنال. ازدواجية الأقطار العالمية هذه التفاوتات في الثروة هي عوامل رئيسية لتنظيم الأقاليم والمجتمعات على جميع المستويات الجغرافية، فكما يتضح من جغرافية الثروات الكبرى في العالم، 13 مدينة وأنتربول تستضيف ربع مليارديرات العالم و50 مدينة تضم النصف، وبواسطة القوى الاقتصادية والمالية والسياسية للثروات المرصودة واستراتيجياتها السكنية، فإنها تلعب دورًا مركزيًا في إعادة تشكيل المساحات الحضرية في المدن الكبرى العالمية. في العديد من المدن الكبرى في الشمال في العالم وكذلك في الجنوب (ميكسيكو، ريو دي جانيرو، ساو باولو، لاغوس، شنغهاي، إلخ)، تميل هذه الأوليغارشية الجديدة غالبا إلى الانفصال عن مواجهة تصاعد التوترات والعنف الاجتماعي من خلال الانغلاق على الذات الداخلية للأحياء السكنية "المجتمعات المغلقة" التي تحرسها الميليشيات الخاصة. ففي الجزر البريطانية، لندن الكبرى تستقطب 56% من إقامات الأثرياء الكلاسيكيين مثل دوق وستمنستر، أو مليارديرات العالم الجدد مثل الهندي لاكشمي ميتال. في حين نجد المناطق الصناعية القديمة (ميدلاندز، يوركشاير، الشمال الشرقي، إلخ) انخفضت إلى حد كبير، مما يدل على التحولات العميقة لهياكل المملكة المتحدة في قرن واحد. ففي الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر انعدامًا للمساواة من العالم وفقًا لتقرير عدم المساواة العالمي الذي نشر في عام 2018 بواسطة المختبر العالمي للتفاوتات، كانت حصة الدخل القومي تذهب فقط إلى 10% لأعلى دخل عالمي سنة 2016، 37٪ في أوروبا، 41٪ في الصين، 46٪ في روسيا، 47٪ في الولاياتالمتحدة وحوالي 55٪ في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والبرازيلوالهند. في الشرق الأوسط، بلغت 61٪ من الدخل القومي لأعلى دخل، مما يجعلها الأكثر تفاوتًا في العالم. تمويل أم مضاربات؟ ولدت في القرن التاسع عشر مع العولمة الثانية الشركات عبر الوطنية (FTN)، وهي الآن على حد سواء تعكس دورها المركزي في العولمة الاقتصادية والمالية والثقافية. ومع ذلك، فإنه لا توجد شركة عالمية حقيقية ما دامت تبسط قبضتها الخانقة على الفضاء العالمي، فمازالت عالميتها تشكل تحديا جراء الهيمنة، فقد تم تقويض الغرب الآن بسبب صعود دول الجنوب. فتحرير الأسواق وإلغاء الضوابط التي تم إطلاقها خلال بناء نظام تراكمي مالي جديد في العقود 1980-1990 لصالح الأوليغارشية الضيقة، أدى إلى أزمة عالمية غير مسبوقة في عام 2007 منذ أزمة عام 1929. إنه النظام المالي العالمي المصمم لتمويل الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية والإقليمية للشركات والدول، التي أصبحت متضخمة، وفوق كل شيء مضاربات مالية، فأصبح الكوكب المالي يسير على رأسه. فالأسواق المالية (الأسهم، الديون، العملات والمواد الخام وما إلى ذلك) هي الإنشاءات السياسية، القانونية والفنية والاجتماعية الراسخة في المناطق العالمية، إنها تمثل قضايا المؤثرات الجيو-اقتصادية والجغرافيا السياسية الرئيسية لعالم اليوم، وبالتالي فإن المخزون العالمي الوحيد من الديون للقطاع العام والخاص يتجاوز 160 تريليون دولار في 2016 (235٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي)، جبل جاهز للانهيار دون أدنى شك على أصحابه. هذه الأسواق يتم تنظيمها من قبل الجهات الفاعلة العامة (الدول والهيئات التنظيمية والمصارف المركزية...) والخاصة (البنوك، شركات التأمين، صناديق التقاعد، صناديق المضاربة...) التي تمتلك استراتيجياتها وأهدافها، مما له تأثير فوري على الحياة اليومية لمليارات البشر. كما يتم تنظيم سوق الأسهم العالمية بنحو الستين من أسواق الأسهم، لكن عشرة منها فقط تستقطب 80٪ من أسواق الأسهم في رسملة السوق العالمية، منها 41٪ لبورصة نيويورك وحدها ونيويورك ناسدايك. ومع ذلك، فقد شهدت المراكز المالية في الجنوب في هذه التجربة عقودا من النمو السريع (الصين، الهند، البرازيل، إلخ) مما يجعل الغرب يتخوف من نهايته ولو بعد حين. وفي المواد الخام الزراعية أو البترولية أو التعدين، تحتفظ الأقاليم الغربية بدور رئيسي (لندن، نيويورك، شيكاغو، باريس، روتردام) بالرغم من تكاثر الأماكن الثانوية المتخصصة في نفس القارة ولنفس المنتوج (كوالا لامبور، سنغافورة، سيدني، وينيبيغ...). ففي الأسواق المترابطة والمتشابكة عولميا، تلعب الجهات الفاعلة على مدار الساعة فيما يتعلق بالمناطق الزمنية للتوقيت العالمي، لأن العالم لا يعيش نفس الوقت. بالإضافة إلى أن "الوقت يساوي المال": ففي عام 2017، اتصلت بورصة لندن إنتركونتيننتال (ICE) بساعة النظام الذري البريطاني لتكون قادرًة على تحديد التاريخ والتتبع لكل 100 ميكرو ثانية بعد كل معاملة كمبيوتر ذات الترددات العالية في المعاملات المالية. بينما 63٪ من السوق العالمية للعملة مملوكة لعشرة بنوك غربية فقط. فواشنطن تستخدم الدولار كأداة لبسط سلطتها المالية وخدمة مصالحها بفرضها منذ عام 1977 خارج الحدود الإقليمية لقوانين الولاياتالمتحدة. فأي جيش أو دولة تستخدم الدولار في معاملاتها، بما في ذلك في أعماق الغابات الآسيوية، وتخضع لإملاءات أمريكية وللملاحقات القضائية والغرامات المحتملة، والحظر الأمريكي على إيران شاهد على هذا وكذا الاتفاق النووي 2015 الذي يمنع على الأوروبيين الاستثمار في البلاد، وعلى طول طريق الحرير الصيني ما زال العمل قائما بالدولار. فالأرض واحدة والتفاوتات قائمة وما زال الجنوب يشق طريقه بثبات وحذر...