ما إن غادرت مطار طرابلس الدولي نحو الفندق بعد وصولي إلى ليبيا،لم أكن أعلم أن الفندق الذي سأقيم فيه،هو نفسه الفندق الذي تقيم فيه حكومة زيدان و نواب رئيس المؤتمر الوطني البرلمان. كثيرون لا يعرفون أن رئيس الحكومة الليبية علي زيدان و وزراءه و رئيس البرلمان و نوابه يقيمون في فندق من خمسة نجوم وسط طرابلس،و يحيطون نفسهم بحراسة أمنية مشددة. أحد طوابق الفندق الذي يتجاوز عدد طوابقه ال26 طابقا غرفه مخصصة بالكامل لحراس مسلحين وضباط المخابرات و لأجهزة الأمنية و كلهم هنا في مهمة و هي توفير الحماية لضيوف الفندق الرسميين. حينما اخترنا الإقامة في هذا الفندق كصحافيين،فهذا لأن الجهات المسؤولة أخبرتنا أنه المكان الوحيد الآمن في ليبيا،استغربنا لهذا الوصف و قلنا ربما أن الأمور في البلاد تماما كما تصلنا أخبارها من بعيد مضطربة و متوترة و لا صوت يعلو فوق صوت الفلتان الأمني. حكام ليبيا الجدد يتلقون في الفندق الفاخر و داخل أجنحتهم الخاصة خدمات من الطراز الرفيع بدءا بجناح الأكل الذي يضم موائد طويلة عريضة من كل ما تشتهيه العين قبل البطن..وصولا إلى كل مستلزمات الراحة و الرفاهية،و هي خدمات ربما حتى القذافي نفسه لم يكن يتلقاها حين كان في الحكم. و على بعد بضعة أمتار قليلة من الفندق يوجد واقع آخر،فقر و بؤس و جبال من القاذورات و الأزبال تبحث عن من يحملها و يبعدها،و بين هذا و داك ما تبقى من بنايات مدمرة لا تزال حتى هذا اليوم شاهدة على الحرب التي شهدتها ليبيا ضمن ما يعرف بالربيع العربي،و المنشآت التي دمرتها طائرات حلف الأطلسي لا تزال كما هي و كأن الحرب لم تضع أوزارها إلا أمس. قلت في قرارة نفسي إن البلاد لا تزال في مرحلة البناء و إعادة الإعمار،و ربما هذه البنايات التي لمحتها و هي لاتزال حطاما من أيام الحرب من المؤكد أن خطط الإعمار في طريقها إليها،قبل أن أكتشف لاحقا أن كل المباني المتضررة من الحرب في طرابلس و باقي المدن الليبية لا تزال كما هي من أيام الإنتفاضة ضد القذافي،و ما بني منها - و عددها على رؤوس الأصابع - تم بمجهودات ذاتية من السكان دون أي مساعدة من أي جهة رسمية. صدفة أو كأنها هي لمحت رئيس الحكومة الليبية علي زيدان و هو يتجه رفقة فريقه و حراسه نحو المصعد،في بداية الأمر بدا لي الأمر و كأنه مجرد تشابه في الملامح قبل أن يأتيني الخبر يقينا حينما أخبرني زميل صحافي من قناة ليبيا اليوم بعد أن التقيته في أحدد ممرات الفندق بأن وزير العدل و نائب رئيس البرلمان و حتى رئيس الحكومة سيعقد كل واحد منهم منفردا مؤتمرا صحافيا في أحد صالات الفندق. و بما أنني واصل للتو إلى ليبيا لتغطية مؤتمر دولي عن سوريا،إضافة إلى تطورات محاصرة مسلحين لمبان حكومية بينها وزارة الخارجية للمطالبة بإقرار قانون العزل السياسي،وجدت في هذه المؤتمرات الصحافية فرصة ذهبية للحصول على وجهة النظر الرسمية أولا، قبل التوجه إلى مواقع الوزارات الحكومية المحاصرة للحصول على وجهة نظر الثوار. حين دخل رئيس الحكومة الليبية إلى قاعة المؤتمر الصحافي صافحني إلى جانب باقي الصحافيين،و حين هم نحو الميكروفونات المنصوبة،توجه نحونا مساعد له يدعى "سراج الليبي" ليحدد للصحافيين مسبقا موضوع الأسئلة التي "يفترض" أن تطرح،فخاطبنا قائلا : :"الأسئلة لا تخرج عن إطار "التمسك بالشرعية" والصحافيين الذين سأناديهم بأسمائهم هم وحدهم من يسمح لهم بطرح السؤال". ولأن الوقت ضيق لم أتجرأ على إبلاغه بأنني أريد أيضا أن أطرح بعض الأسئلة على السيد رئيس الحكومة،و فعلا بدأ "صاحبنا" في المناداة على الصحافيين لطرح أسئلتهم و كلها كانت تحرص على عدم إحراج المسؤول الرسمي. شعرت برئيس الحكومة الليبية غير مقنع في كلامه و هو يستعد لمغادرة المرتمر الصحافي،ما دفعني إلى التوجه نحوه بسؤال دون استئذان مساعديه،فشعرت باستغراب كل الصحافيين و المسؤولين الموجودين في القاعة،و كأنني تمردت على خط احمر لا يجب تجاوزه. سألته عن التلاسن الذي حدث بين الثوار و وزير العدل داخل الوزارة قبل طرده منها،إضافة إلى رفض الحكومة التحاور مع هؤلاء الشباب الذين يحاصرون الوزارات و تهديدهم باقتحام مبنى البرلمان ما لم يتم التعاطي بشكل جدي مع مطالبهم. علامات الحرج باتت بادية على رئيس الحكومة الليبية لكنها قام بالواجب و رد على السؤال،لكن مساعديه توجهوا نجوي مباشرة لتحذيري من مغبة تكرار التجرأ على طرح سؤال دون إذن منهمم و كان لا شيء تغير في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي. للأسف نفس الممارسات لا تزال سائدة و نفس الهواجس الأمنية و ذات العقليات الصلبة،لدرجة أن المصور الفرنسي الذي كان يرافقني اعتقل لدقائق من قبل ضباط الأجهزة الأمنية خارج الفندق،فقط لأنه أخرج الكاميرا من حقيبته و شرع في التقتذ صور لأسوار طرابلس المقابلة للفندق،فاضطررت بتهديد كبار المسؤولين الأمنيين بأنني سأتصل بالسفارة الفرنسية لإبلاغها باعتقالهم مصورا صحافيا فرنسيا. بعد هذا الحادث بساعة تقريبا توجهت رفقة المصور نحو خارج الفندق للبحث عن سيارة أجرة تنقلها إلى مقر وزارة الخارجية المحاصرة،قبل أن يعترض طريقنا مسلحون من الأجهزة الأمنية لمنعنا من المغادرة بحجة أن في الأمر خطر على حياتنا،و أن المسلحين الذين يحاصرون الوزارات هم من "أزلام" القذافي و يمكن أن يؤذوننا وفق تعبيرهم. أبلغناهم احتجاجنا على هذا المنع و عدت رفقة زميلي المصور إلى الفندق،نزلنا إلى الطابق الأرضي و هناك نادى علي شاب ليبي علم على ما يبدو بما جرى،ليعرض علينا مساعدتنا على مغادرة الفندق من بوابة خلفية،و فعلا نجت المحاولة و وصلنا إلى ساحة الشهداء "الساحة الخضراء سابقا" و منها استقلينا سيارة أجرة نحو وزارة الخارجية الليبية. طلبت من "نيكولا" زميلي المصور الانتظار داخل سيارة الأجرة و عدم إظهار الكاميرا،توجهت أولا نحو مجموعة من الشباب و كانوا يحاصرون الوزارة،قدمت لهم نفسي و شرحت لهم سبب وجودنا في المكان،فتقدم نحوي في البداية "عمر " و هو من ثوار مصراتة قبل ان يلتحق بنا "فتاح" و هو أيضا من ثوار مصراتة و من تنسيقية العزل السياسي. أصر عمر على دفع أجرة التاكسي رغم إصراري على أن لا يفعل ذلك، بينما انهمك ثزار آخرون يمثلون الزليتن و الزنتان و طرابلس على إعداد شاي للترحيب بنا على طريقتهم. كل الثوار في المكان كانوا في لحظة تذمر لا تطاق،فهم يشعرون بنوع من المهانة بعد أن أصبحت الحكومة تصفهم بالمسلحين والجماعات المسلحة الخارجية عن القانون،وهم الذين دفعوا ثمن تحرير ليبيا من الديكتاتورية من دمائهم. خاطبني فتاح قائلا : " إنهم يقولون عنا مسلحون و لن أستغرب إذا نادونا غدا بالجرذان...لا فرق بينهم و بين نظام القذافي..كلاهما أساء إلينا". ثوار ليبيا يشعرون اليوم وكأن ثورتهم ذهبت سدى..فلا شيء تحقق على الأرض..دمار وخراب وركام وحطام وبقايا الحرب في كل مكان،حتى جبال القاذروات لم تكلف الحكومة نفسها عناء جمعها من المدينة،او على الأقل التعاقد مع شركات أجنبية تتولى المهمة. ليبيا عادت إلى إنتاجها الطبيعي من الغاز و النفط منذ عامين تقريبا،واستعادت مليارات الدولار من حسابات مصرفية ضخمة للقذافي وعائلته ومساعديه كانت مجمدة في الخارج،و مع ذلك لا أثر لهذه الأموال على الأرض. حتى مطار طرابلس بوابو ليبيا الرئيسية لا يتوفر على أبسط مقومات مطار،الكهرباء فيه مقطوعة على طول و تفتيش الحقائب يتم بالشكل التقليدي أي يدويا،لا تكييف و لا تنظيم و لا أي شيء..فوضى في كل مكان..و إن لم تسمع عن موعد الرحلة من داك الصوت "الرجالي" المضحك المنبعث من أبواق مهترئة لضيعت رحلتك..فشاشات موعد الرحلات معطلة و المكان مظلم و الصراخ ينبعث هنا و هناك. هذه باختصار ليبيا ما بعد القذافي..الفلتان الأمني والفساد متفشيان، ولا تزال الأسئلة الأساسية حول هيكل المؤسسات السياسية والاقتصادية الليبية وعملها تبحث عن إجابة. ولا تزال المدن تعاني من أعمال النهب والسطو، ومخططات الحماية الشبيهة بعصابات المافيا. وفي الجزء الجنوبي من البلد، تخوض القبائل الليبية المحلية حربًا ضد جماعات التبو على السيطرة على ممارسة تهريب السلع عبر الحدود، بما تحقق من أرباح وفيرة، والتي يبدو أن الحكومة عاجزة عن احتوائها. ومما ينذر بالخطر أن جزءًا كبيرًا من أعمال التهريب هذه يشتمل على أسلحة، بما فيها قذائف صاروخية موجهة بالحرارة، وقنابل صاروخية، منهوبة من المستودعات التي تعود إلى عهد القذافي. وعلى الرغم أن بعض الأحداث، مثل الهجمات الأخيرة التي نفذتها جماعات إسلامية على أضرحة صوفية، طرحت علامات استفهام حول كيف ستستمر الاختلافات الدينية العميقة في ليبيا في عرقلة إنشاء مجتمع سياسي متناغم. لكن الصورة الكبرى لعملية التحول ينبغي أن تبعث على الأمل. فبعد سنة فقط من سقوط ديكتاتورية حرمت الليبيين من أي دور سياسي، بدأت تبرُز دولة حديثة، على الرغم من كل ما يبدو من عقبات وتحديات.إذا واصل الليبيون هذا التقدم وترسيخ جذوره، فمن المحتمل أن تثبت ليبيا أنها استثناء مما يسمى لعنة الموارد الطبيعية، وهي القاعدة التي تبدو ثابتة، وتقول إن البلدان المصدرة للنفط مكتوب عليها الاستبداد والركود. الأكثر من ذلك أن ليبيا ربما تُثبت قيمة البدء من الصفر عند إعادة بناء بلد مزقته الحرب. فلا يمكن أن يكون أحد قد تنبأ بأنه من تحت الحطام لنظام القذافي، وحرب أهلية دموية، سوف تتمكن ليبيا من إقامة حكومة فعالة. ورغم تشابه التحديات في دول الربيع من انتشار ظاهرة الانفلات الأمني والإخفاق الاقتصادي والفجوة بين تطلعات وتوقعات الجماهير والأداء علي أرض الواقع, والانقسام والاستقطاب السياسي الحاد بين التيارات السياسية, خاصة بعد صعود الإسلاميين إلي السلطة, إلا أن الحالة الليبية لديها بعض الإشكاليات التي تزيد من صعوبة المرحلة الانتقالية. * صحافي و إعلامي مغربي مقيم في باريس