لا أحد في المغرب المعاصر، ينكر اليوم، أنّ تاريخ اليهود وثقافتهم إلى جانب مثيلاتها من ثقافة الأمازيغ والعرب والأندلسيين والأفارقة والصحراويين وتأثيرات المستعمرين؛ ساهمت كعناصر على مدى عصور طويلة، في تشكيل هوّية الحضارة الغنية والثقافة الفريدة للمملكة المغربية والأمة التي عمرتها منذ أن وجد العالم القديم. وقد شكل العنصر اليهودي، على مدى قرون ماضية، رافداً مُهِمًّا وأساسياً لا يليقُ تجاهله، من روافد الحضارة والثقافة المغربيتين. هكذا – بالتالي-، وبحكم هذا السبب يتّضح أنه لا يمكن أبداً تشكيل صورة عامة عن ماهية الهوية المغربية دون وضع الإرث الحضاري اليهودي بمفهومه الأنثروبولوجي- الثقافي- والتاريخي، في مكانه الصحيح. إنّ الأرشيفات سواء الدولية منها أو المغربية والإسبانية، وكذلك المكتبات المغربية والكتب التي تزخر بها في شتى المجالات، بالإضافة إلى الروايات الشفوية وكل مظاهر الثقافة وإنتاجات المرأة والرجل المغربيين، تقدم شهادات حية على أن كل ما نصنعه في مغربنا الراهن يطاله التأثير اليهودي المغربي، بشقيه: الأول منهما متصل بجذر "الطشابيم"، الذين انقسموا بدورهم إلى المغاربة الأمازيغ الأصليين المعتنقين للديانة اليهودية منذ فجر التاريخ، واليهود القادمين من الشرق المستوطنين في المغرب والمتعايشين مع أهل البلاد إبان سقوط القدس في يد نبوخد نصر سنة (586) قبل الميلاد؛ بينما ثاني الشقين، فهو المتمثل في فئة (جماعة) "المغوراشيم" المطرودين من الأندلس قبل وبعد سنة (1492) ميلادية. ولنا في تاريخنا المعروف والمجهول منه كذلك، وفي عاداتنا وتقاليدنا وأعيادنا وصناعتنا التقليدية وفي طبخنا أيضا وموسيقانا ومعمارنا وفي أحزابنا السياسية ونقاباتنا وديبلوماسياتنا بل حتى في سلوكياتنا، والتي تقدم – هي وغيرها- نفسها مجتمعةً، عشرات الأمثلة على مساهمة اليهود في إضفاء طابع الجودة والإرتقاء بالقيمة الجمالية لتراثنا إلى مكانة نحسد عليها. من خلال ما سبق، وبناء عليه، كخطوة منهجية أولى قبل الغوص في كل قطاع على حدة، مِمّا سنعالجه في مقالات قادمةٍ ربما سوف نجمعُ جُلّها في كتاب خاصّ – إن شاء الله-؛ نستهلّ حديثنا في هذا المقام بدءًا باللغة التي يستعملها المغاربة للتعبير عن ثقافتهم اليومية، أي الدارجة المغربية، لكي نقيس عبرها عن قرب درجة أو نسبة وجود المُكوّن اليهودي في لهجتنا العامّية، ومدى توغله وتأثيره بل وتمكينه فيها، عسانا نُطمئِن أنفسنا على سلامة الطرح الذي نحن بصدد تأكيده وإثباته أو دحضه ونفيه هنا. إنّ اللغة كما تُفهم من كتاب "الخصائص" لابن جني، أو في كتاب "جامع الدروس العربية" لمصطفى الغلاييني، أو في معجم "لسان العرب" لابن منظور، وغيرهم مِمّن عرّفوا اللغة في أبسط صورها ومعانيها، وقدّموا رؤيتهم المُشتركة والدّالة على أنها عبارة عن مجموعة متناسقة من العلامات والرموز والإشارات والأصوات، بل هي جميع الأشياء التي تواضع عليها كل قوم (أو أقوام)، واتخذوها وسيلة للتعبير عن أغراضهم وتواصلهم مع بعضهم البعض. وسواء كانت منطوقة أو مكتوبة، تبقى في الأخير هي الحاملة للأفكار والمسؤولة عن نقل العلوم والمعارف الإنسانية المختلفة. ما يهمّنا في هذا التعريف تحديداً، هو فعل التواضع، الذي يعني في معناه اللّغوي التوافق أو الاتفاق بشأن شيءٍ مّا. وفي هذا السياق يقول ابن جني: «إن أصل اللغة لابد فيه من المواضعة». وبما أنّ الأمر يجري على هذا النمط في حالتنا هذه، فإنّ تساؤلنا يجيء في إطاره حاملاً مشروعيته القائمة التي لا يمكن ردّها، فحواه هو الآتي: من اتفق على تشكيل اللهجة العامية أو ما يُصطلح عليه ب"الدارجة المغربية"؟ لا غرو أن نشأة اللغة فيها جدال، لكننا لا يمكن الاختلاف في أمرين لا مفرّ منهما؛ لعل أولهما، أنها تأتي بالمواضعة. أما ثانيهما، فهو خضوعها لمبدأ التطور تمامًا كما أتى به داروين في نظريته التطورية التي طالت أغلب العلوم والظواهر وامتدّت إلى الفلسفات والمعارف الإنسانية؛ إذ يرى أصحاب هذه النظرية وِفق ما جاء – مثلاً- في كتاب "التدريس" في المجلد الخامس «أن لغة الإنسان الأول تطورت وسلكت مراحل فطرية متعددة، متماشية مع نموه العقلي». وما دامت كل النظريات لا تستقيم إلا بوجود دليل واضح ومثال حيّ على ما تتم محاولة شرحه، فإنّنا نرى من هذه الزاوية، أنّ اللهجة العامية المغربية- أو الدارجة بالأحرى، تعتبر خير مثال للنّمذجة والتأمّل والفهم في آن. فهي لهجة شفوية عربية، لم يتم تقعيدها بعد في المغرب، رغم محاولات البعض الإرتقاء بها إلى لغة التدريس، وهي تخضع منذ قرون لما يسميه شارل فيرغسون ظاهرة "الإزدواج اللغوي" الذي يجعلها في مستوى كلام ثانوي يخضع لهيمنة اللغة العربية الفصحى التي تظل لغة الدولة الأولى، إلى جانب الأمازيغية التي بدأت تأخذ وضعها في الترسيم مؤخراً بعد دستور (2011). أما فيما يخص أصلها، فهو مبني على لسان قبائل بنو هلال العربية، التي استوطنت المغرب منذ عدة قرون؛ وينطبق الأمر نفسه على ألسن باقي شمال إفريقيا، والتي تتشكّل من عدة أصول تجمع في نسيجها اللهجة المَغَارِبِيَّة باللهجات الأمازيغية والأفريقية والعبرية أيضًا ثم اللاتينية، لتتطور بعد ذلك، إثر تلاقحها مع لغات الهجرات المختلفة التي عرفها المغرب بعد طرد الموريسكيين وقبلهم اليهود من شبه الجزيرة الإيبيرية سنة (1492)، حتى أصبحت منذ ذلك الحين إلى الآن أقرب إلى الشكل الذي نتداولها به حالياً. بينما نحن في يومنا هذا، لا نتوانى في استعمال عدة مفردات رنانة في حياتنا اليومية؛ من قبيل (أيما) (أبابا) (القيلة) (أيوا) (حشومة) (فشوش) (الهدرة) (سفيفة) (الطيفور) (عاود) (ماكلة) (كبدة) (تمارة) (رزية أو ترزى) ( هذا وكان).. وغيرها من المفردات الرائجة في شتى مناحي الحياة، دون أن ينتبه فيها الناس إلى أنّ لها أصولها في اللغة "الحاكيتية" التي هي لغة اليهود الإسبان، أولئك الذين عاشوا قرونا في المغرب بعد إرغامهم على طردهم الشهير من إسبانيا والبرتغال. هذه اللغة مشتقة من القشتالية القديمة، المخلوطة بالعبرية، والمتأثرة في الوقت نفسه بالعربية كما هو واضح من اسمها الذي يعني "الحكي". هذه اللغة ذاتها تختلف عن لغة اليهود الإسبان المسماة "اللادينو"، بِمبرّر كونها تكتب بحروف إسبانية، على عكس الثانية التي تكتب بحروف عبرية، وهي منتشرة الآن في دول البلقان وفي تركيا وإسرائيل، على النقيض من الأولى التي لا تزال قائمة ولو بشكل يدعو للقلق، لدى اليهود السيفارديم في سبتة ومليلية وباقي المدن المغربية التي ما فتئ يعيش فيها اليهود، إلى جانب شبه الجزيرة الإيبيرية كما يؤكد ذلك الباحث اليهودي دافيد بنحمو. يكفي الاستنجاد بقاموس اليهودي المغربي الإسباني ابن مدينة طنجة خوسي بونولييل المعنون ب"المعجم الحاكيتي الإسباني" الذي يضم تقريبا (5000) آلاف مفردة حاكيتية إسبانية مغربية. ليكون بذلك أوّل من قعّد لهذه اللغة الآيلة للأفول في بحر النسيان، بسبب محاربتها من العبرية الرسمية لدولة إسرائيل، واليديشيّة، والمثاقفة المفروضة على اليهود السفرديم في الدول الغربية، كما أنه كان أيضًا السبّاق إلى تكريس حياته للتعريف بها والتذكير بتاريخها. ثم يأتي بعد بونولييل ابن تطوان ياكوف بنطوليلة الذي سخر من جهته، كامل مجهوداته لإحيائها من جديد، دون نسيان المعاجم الأخرى لكل من اليهودية الفنيزويلية اليغريا بنديان دي بنديلاك، والإسباني المغربي إسحاق بناروش؛ وقد قام هؤلاء الثلاثة على تجويد عمل خوسي بونولييل سابق الذكر، وإظهار حقائق غائبة عن هذه اللغة المؤثرة في شمال المغرب بشكل عام، وفي لهجتنا العامية المغربية في جهة المنطقة الشمالية الوسطى في فاس ومكناس، وكذلك في الشمال المغربي لاسيما في مدن مثل القصر الكبيروتطوان وشفشاون وطنجة بشكل خاصّ، مع التذكير بأنها تعتبر من أيقونات رأس المال والتراث اللاّماديين، للذاكرة الجماعية لليهود السفرديم المغاربة الإسبان وإحدى أهم سمات الهوية اللغوية المغربية. إن اللهجة الحاكيتية وما صاحبها من تأثير على الدارجة المغربية، وما لها من حضور بارز وحجم مهم في خارطة اللهجة التي نتعلمها اليوم، يدفعنا إلى التأكيد على أنّ اليهود المغاربة قد فرضوا لغتهم وأضافوا بُعداً آخر للدّارجة المغربية، منذ أن أدخلوا حِرفاً جديدة، في التجارة والصنائع التقليدية على سبيل المثال، لم يكن المغاربة يعلمون عنها شيئا، مثلما أبدعوا لغةً خاصة بهم، وابتكروا أشياء لم تكن معروفة آنذاك، وعلموها لإخوانهم المغاربة بأسمائها. فاليهود المغاربة سافروا ومارسوا التجارة مع مختلف الأجناس في كل بقاع الدنيا، وتركوا لنا ما تعلموه جاهزاً، واشمين بذلك في ذاكرة المجتمع المغربي أكبر الأثر الذي يستعصي محوه. إنّ للّغة وُجُوهاً كثيرةً، فهي عطفاً على كونها وسيلة تواصُلٍ وإضمارٍ وإيديولوجيا، تعد أيضاً خزّان الحضارة والأمثال والتجارب ووعاءً للفكر والمعرفة الإنسانيّة...؛ وليس علينا بعد ذلك أن نتعجب – إطلاقاً-، إن كانت علبتنا السوداء قادرةً على إخبارنا من نحن بالضبط؟ ما أصولنا، ومن نكون في حقيقة الأمر؟ وما هي خلفيتنا الحضارية التي ننتمي إليها؟.. في طريقنا إلى الختم، قمين بالإشارة – أخيراً-، إلى أنه من الممكن جِدًّا تصنيف الدّارجة المغربية لهجةً شديدة الخصوصيّة والتفرّد، لهجة تحمل بين طياتها تعددية مرجعية غاية في التداخل والتعقيد والتركيب معاً، بالنظر إلى ما تحظى وتتمتّعُ به من غنى، وما يتخلّلها كذلك من تغيّرات مطبوعة بالاِختلاف والثّراء من منطقة إلى أخرى. ولكنها مع ذلك تظلّ هي الوجه الحقيقي للتلاقح الحضاري المغربي مع باقي ثقافات العالم، وهو ما يظهر جليا للمتتبع في طبيعة المغاربة أنفسهم وخلفيتهم المتسمة بالتسامح والانفتاح على الآخر والتعايش الإيجابي معه، على نحو يجيب على سؤال آخر لطالما حيّر علماء اللسانيات في العالم: لم المغاربة بارعون في تعلم اللغات وإتقانها؟! نقف عند هذا الحد، حيث نهاية قولنا في الرّسالة التالية التي يتجلّى جوهر مغزاها العميق، في ضرورة الرّجوع إلى التاريخ المنسي للمغرب، وواجب إنصاف الأقليات وتسليط الضّوء أيضاً على مساهماتهم الفعالة، ثم المبادرة إلى إعطاء المهمّشين ثقافياً حقهم المعتم عليه دون أي وجه حق. هكذا ينبغي إعادة قراءة التاريخ من جديد، اليوم، بعيداً عن إيديولوجيا الأغلبية ومنطق القبلية وعقلية الإقصاء الممنهج- واللاممنهج، والتغني الذي لا طائل من ورائه، بالإرث والتنوع الثقافي الذي يتمتع به تراثنا الجميل، والنّأي التام بالإضافة إلى ذلك كله عن الشعبوية الزّائفة الخالية من المعنى والجاهلة بأصول وقيم الحضارة المغربية العريقة.