يقول الله تعالى في سورة البقرة : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12) } ، راودتني هذه الآيات الكريمات المعبرات و أنا أتابع مداخلات مجموعة من السياسيين الذين سبق لهم أو لأحزابهم المشاركة في الحكومات السابقة وما تحمله خطاباتهم من معاني النفاق و سياسة الهروب للأمام ناهيك عن وضع أنفسهم في موضع الأستاذ و فيلسوف الزمان و الخبير الاقتصادي و الاجتماعي و مقترحاتهم التي لا تنتهي كحلول للخروج من أزمة البلد. فهل نسي هؤلاء من كان مسؤولا لعشرات السنين عن تدبير شؤون البلاد و العباد أليست أحزابهم التي تقلدت كراسي الوزارات و المؤسسات و المديريات و الجهات و العمالات و المدن و القرى هي المسؤولة عن تدهور وضعية بلادنا الاقتصادية و الاجتماعية ، أليست قياداتهم هي التي قدمت التزكيات لمرشحين نهبوا خيرات البلد و استنزفوا ثرواته و عاثوا فسادا في مجالس المدن و الجماعات القروية و خانوا الأمانة البرلمانية و ضيعوا مصالح الشعب و باتوا يسمون في قاموس انتخاباتهم بالأعيان و مفاتيح الدوائر و صقور الانتخابات . هل نسي هؤلاء كم تاجروا بمآسي الشعب لسنوات و استغلوا ألامه و فاقته و حاجته ألم يكسروا طموح شباب الوطن و حطموا أماله في مغرب المستقبل السعيد ،ألم ينتجوا بلدا بعيدا عن مواطنيه نعيش فيه كالغرباء تحت وطئه شظف العيش و القسوة و المعاناة من استفاد من اقتصاد الريع و ساهم في تطوره و استمراره ، من قدم لنفسه و لأحبابه الرخص الاستثنائية و المراجعات و الإعفاءات الضريبية و من استفاد من تفويت اراضي الصوديا و الصوجيتا بأثمان بخسة ناهيك عن الأراضي و العقارات و من فوت لنفسه و لعائلته الصفقات العمومية و من تبادل العمولات و المكافئات و البريمات في غفلة من القانون و المؤسسات، كلها أسئلة نعرف أجوبتها سلفا إنهم من اتخذوا من ثقة المواطنين بقرة حلوب و هم من اعتبروا انتخابهم لتسيير دواليب الدولة صك ملكية ليعيثوا فسادا في مقدرات البلد و خيراته . يطلع علينا هؤلاء في مهرجانات فاتح ماي هذه السنة و على شاشات التلفاز يتكلمون عن النزاهة و الشفافية و هم عن ذلك بعيدون يقدمون حلول تنمية البلد و إصلاح مخلفات الفساد و الاستبداد متناسيين ان ذلك ليس سوى صنيعة أيديهم بحكمهم البائس لعقود من الزمن ، و الأدهى أنهم لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد , بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير: لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية . عن عمر رض الله عنه قال ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ " كيف لا و نحن نشاهد رموز الريع و الفساد و الاستبداد يتكلمون عن الشفافية و الحكامة بكل وقاحة و صفاقة ، فقد تكرّر قول الله جلّ وعلا: {وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، والعيث أشدّ الفساد، والعثو يشمل أنواع الفساد كلّها، ومعنى الآية: لا تخرّبوا الأرض بإفسادكم، أيًّا كان فسادكم، ماليا أو سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو غير ذلك، وأقصروا عن ذلك قبل أن يصير الفساد صفةً لكم فتصيروا مفسدين، وتتّصفون بالقابلية للفساد. إنّ القرآن الكريم كله دعوةٌ للإصلاح وحربٌ على الفساد والمفسدين. ويكفي عدّ كم تكرّر لفظ ''الفساد'' (50 مرّة) ولفظ ''الصّلاح'' (180مرّة). بعضهم يسمي نفسه المعارض و البعض الأخر المقاطع و ظهرت بدعة جديدة سميت المعارضة من داخل الأغلبية و كأن هذا الشعب لا يكفيه عبث في السياسة لنظيف له نوعا جديدا من الالتفاف على إرادته الحرة و دق أخر مسمار في نعش محاولة مصالحته مع صناديق الاقتراع . ولكن هناك فرق بين المعارضة والمحاربة.و حتى لو قبلنا بمبدأ المحاربة بين الخصوم، هناك فرق بين الخصوم الشرفاء، واللؤماء.فهناك خصوم شرفاء نبلاء.وهناك خصوم غدرة فجرة. و كم أخشى ان يصدق علينا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : " سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خُدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ " . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ : " الرَّجُلُ التَّافِهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَةِ ".