الحمد لله والصلاة على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد فإننا نعيش أياما قد كلف فيها الذئاب برعي الأغنام؛ وراعي الشاة يحمي الذئب عنها --- فكيف إذا الرعاة لها الذئاب وقد وصف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هذه الأيام وصفا دقيقا كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم فى أمر العامة]. نعم فلقد تكلم التافهون والسفهاء في أمر العوام بل في أصول وثوابت الإسلام، فها نحن في هذه الأيام نشهد حربا سافرة فاجرة على أصول وثوابت هذا الدين يتولى كبرها دعاة على أبواب جهنم في أنحاء العالم الإسلامي، ومكمن الخطر أنهم يشعلون الحرب على الإسلام باسم الإسلام، ويهدمون الدين باسم الدين، وذلك بأسلوب خبيث لا ينتبه لخطره كثير من الناس، وقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفا دقيقا كما جاء في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر)، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها). قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا). قلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم). قلت: فإن لم يكن جماعة ولا أمام؟ قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك). فلا يزال الإسلام وأهله من هذا الصنف الخبيث في محنة وبلية، ومع ذلك فهم يزعمون أنهم المجددون المصلحون وصدق الله سبحانه وتعالى إذ يقول في وصفهم: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون * وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما السفهاء ألا إنهم السفهاء ولكن لا يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون * أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين"، فهم يعلنون الحرب السافرة والفاجرة على الإسلام، لا على الفروع والجزئيات، بل على الأصول والكليات، بلا خجل ولا وجل. فهذا الصنف من الناس الذين يسمون بالنخبة من أدعياء التحرير والتنوير والثقافة والفن والعلم والأدب وقد أحيطوا بهالة من الدعاية الكاذبة، ولقبوا بأفخم الألقاب والأوصاف التي تغطي جهلهم وانحرافهم، وتنفخ فيهم ليكونوا شيئا مذكورا. وهم في الحقيقة كالطبل الأجوف يسمع من بعيد وباطنه من الخيرات فارغ، وهذه الحرب السافرة تتم على خطوات: 1- التفخيم المستمر والمتعمد للعقل ومكانته مع التقليل والاستهانة الشديدة بالنص ومكانته، بل طالبوا صراحة بإعادة النظر في القاعدة الأصولية التي أجمعت عليها الأمة والتي تقول: "لا اجتهاد مع النص". 2- التطاول على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإنكارها، والقول بعدم حجيتها بدعوى أن فيها الضعيف والموضوع، وأن الإسلام هو القرآن؛ ونقل الإمام ابن حزم إجماع الأمة على أن من أنكر السنة فقد كفر. 3- التطاول على القرآن وعقيدة التوحيد؛ فعلى سبيل المثال: هذا رائد من أهل الخبث والدهاء يقول: "القرآن قابل للنقد باعتباره كتابا أدبيا". إن الأمان والطمأنينة الحقيقية للمجتمع المسلم لا تتحقق إلا بمزيد من التمسك بأحكام الدين، والتطبيق الصحيح الجاد لأحكام الشريعة، وما جاءت به، مما يكفل الخير والسعادة لأفراد المجتمع رجالا ونساءً. إن من الحقائق التي ينبغي أن يعيها كل مسلم أن المرجعية في مواقفنا وأحكامنا نحن المسلمين من كل قضية إنما هي أحكام الشرع المطهر، وكل ما خالف ذلك من هرطقات وفقاعات كالزوبعة التي أثارها لشكر من قبيل خالف تعرف أو لكسب شهرة بعدما سقط سقوطا مدويا ألقاه في الحضيض، أو اتفاقات ومعاهدات تبرهما الأممالمتحدة وغيرها، فلا وزن لها ولا قيمة، مهما زينت وزخرفت؛ لأننا نعلم يقينا أن ما من خير للرجل والمرأة إلا وشريعتنا، ودين ربنا قد جاء به وقرره، وما من حكم فرقت فيه الشريعة بين الرجال والنساء في أي مجال من مجالات الحياة، سواء أكان في العبادة أم النكاح أم المواريث، أم السياسية إلا وفي ذلك التفريق بين الرجل والمرأة التي دعت إليه الشريعة إلا وكان في ذلك التفريق العدل والخير والصلاح، وفي إلغاء ذلك الفرق الجور والظلم والبغي والفساد العريض، وصدق الله عز وجل إذ يقول: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ). إن ما يسمى باتفاقيات "سيداو" أو "اتفاقية مكافحة العنف ضد المرأة" وغيرها من الاتفاقيات التي تصدرها الأممالمتحدة، وتلزم الدول كلها بموجبها إنما هي اتفاقيات توزن ويوزن ما جاء فيها بميزان الشرع المطهر لدينا نحن المسلمين، الذين نعظم شريعة ربنا، وندرك يقينا أنه لا خير لنا إلا في اتباع حكم الله وحكم رسوله: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور:51]. (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب:36]. فجميع بنود تلك الاتفاقيات إنما تعرض على ميزان الشرع المطهر الذي يقرره أهل العلم الربانيين، الذين أمرنا الله عز وجل بالرجوع إليهم، وسؤالهم، لمعرفة أحكام الشرع: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83]. والمراد ب(الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) العلماء الذين يستنبطون أحكام الشرع المطهر من نصوص القرآن والسنة، ولهذا يقول الله عز وجل: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل:43]. فجميع ما ورد في تلك الاتفاقية ما كان منها موافقا لحكم الشرع؛ فعندنا في شريعة ربنا ما يغني عن الالتزام به، والدعوة إليه، والحث على تطبيقه، وما ورد في تلك الاتفاقيات مخالفا لأحكام ربنا، وشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا وزن له ولا قيمة، مهما اتفق عليه المتفقون، ودعا إليه المتآمرون. على مرّ قرون طويلة لم تثر قضية تعدد الزوجات أية إشكاليات في المجتمع المسلم، بل على العكس كان يُنظر إليها على أنها حل ناجح ومؤثر في علاج كثير من المشكلات الاجتماعية التي استعصى حلها على كثير من المفكرين والباحثين، وهنا تكمن عظمة التشريع الإسلامي، فهو تشريع وقائي، يهتم بغلق منافذ المشكلة قبل احتمالية وقوعها، لا ينتظر حتى تحدث بوادرها أو يعاني منها المجتمع بأفراده ومؤسساته ثم يبدأ في اقتراح الحلول ووضع البدائل، وإنما يشرع في توجيه المجتمع بكل عناصره إلى الحلول الوقائية التي تمنع الشر من الوقوع من حيث الأصل. إن سنة تعدد الزوجات لم تزل في الأمة الإسلامية منذ نشأتها، بل إنها لم تكن بدعًا على المجتمع العربي القديم قبل الإسلام، وإنما قننت هذه العملية بحدٍّ بين الإفراط والتفريط، فلا هي فتحت الباب على الغارب للتلاعب بهذه الشعيرة دون حد في العدد، ولا حصرته وضيقت على الرجال والنساء فلم تسمح لهم إلا بالزواج مرة واحدة فقط، فأتاحت الفرصة للرجل والمرأة على السواء لحل عدة مشكلات عويصة قد ينتج عنها مستقبلاً حال استفحالها مصائب أكبر وأكبر، فمشكلات العنوسة وتأخر سن الزواج والعزوف عنه وعضل النساء إذا استفحلت فإنها مؤذنة بنشر الفواحش والعلاقات غير المشروعة بين عناصر المجتمع، أما إذا عولجت هذه القضايا بشكل وقائي قبل نشوئها من الأساس فإنها ستندثر مع الوقت ولن يكون لها أي وجود. إن مجتمعاتنا الإسلامية والعربية تضج بهذه المشكلات -نعني العنوسة وتأخر سن الزواج والعزوف عنه والعضل-، ولا يزال يجتمع الباحثون والمفكرون لمحاولة إيجاد حلول جذرية لها، ولكنهم في كل مرة يخفقون في حلها، ويجدون أنفسهم يراوحون مكانهم في الوقت الذي تزداد تلك المشكلات ضراوة وسوءًا وتفشيًا، وذلك لأنهم يطرقون جميع الأبواب ويقفون على عتباتها ذليلين صاغرين، يرتجون منها المأوى والملاذ، ولكنهم ينسون طَرْقَ بابٍ كان أولى به أن يكون أول الأبواب وهو باب الشريعة التي وضعت الحل، ولكن أكثر الناس لا يفقهون. إن حالة القطيعة مع الشريعة التي باتت تسيطر على غالبية الباحثين ولشكر قطعا ليس منهم في وطننا الإسلامي هي التي أنتجت هذا الإعراض المريب عن الحلول الإسلامية للقضايا المجتمعية، بل وحفزت أولئك الباحثين على استيراد الحلول من مذاهب فكرية غربية مضادة للدين، لذا جاءت حلولها غير مناسبة للواقع المعيش حينًا، أو مجتزأة وغير كافية حينًا آخر، تعالج بعض المشكلة وتدع بعضها، فما تلبث أن تعود بأكبر مما كانت، أو أنها تعالج مظاهر المشكلة فقط دون الولوج إلى أسبابها العميقة، فتعالج المظهر وتترك الجوهر، فيصير الأمر وكأنه لم يقع أي تغيير. إن ما يميز المنهج الإسلامي -حقًّا- هو أنه مِن لدن مَنْ خلق النفس فسواها، ويعلم مستقرها ومستودعها، ويحيط بكافة تفصيلاتها وما يصلحها وما يفسدها، لذا يصيب العلاجُ الشرعي الداءَ في مقتل فيقضي عليه، ولقد انبهر كثير من غير المسلمين حينما رأوا منهجية الإسلام في علاج المشكلات المختلفة، سواء الاقتصادية أم الاجتماعية أم السياسية، وما الأزمة الاقتصادية منا ببعيد حينما أكد الاقتصاديون الغربيون أنفسهم أن الحل الوحيد للأزمة هو الحل الإسلامي الذي حرم الربا وحرم الفائدة على القروض. إن مسألة التعدد ليست بهذا السوء الذي يصوره لنا الإعلام العلماني، وليس معنى وجود بعض الخلل في تطبيق القاعدة عدم صلاحية القاعدة للتطبيق، وهذه هي الصورة التي ينبغي لنا أن ننظر بها إلى مثل تلك القضايا، فبعض الأزواج لا يراعون شروط التعدد، ولا يمتثلون لآدابه التي وضعتها الشريعة، فيحدث الخلل بين القاعدة والتطبيق، لذا فإنه ينبغي أن نعالج أخطاء الممارسة لا أن ننسف القاعدة من أساسها كما تفعل وسائل الإعلام.