واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    اعتقال موظفين ومسيري شركات للاشتباه في تورطهم بشبكة إجرامية لتزوير وثائق تسجيل سيارات مهربة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    بورصة البيضاء تنهي التداولات ب "انخفاض"    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف تحقق العفة كرامة الإنسان؟
نشر في هسبريس يوم 25 - 04 - 2013

تعتبر الكرامة مطمحا بشريا ورتبة عليا يصبو إليها العقلاء ويبذلون الجهد والغالي والنفيس من أجل تحصيلها والتربع على عرشها، وذلك بغض النظر عن مضمونها واختلاف الطرق الموصلة إليها، ولا شك في كون الاعتقاد والتصور الوجودي له مدخل رئيس في تحديد تلك المضامين والسبل المؤدية إلى تاج الكرامة، وفي منظورنا الإسلامي تعتبر العفة أحد الطرق المضمونة لتحقيق جانب مهم من الكرامة، فما هو مفهوم الكرامة في منظور ديننا الحنيف؟ وما هي مظاهر تلك الكرامة؟ وما هي القواسم الموجودة مع المشترك الإنساني في هذا المجال؟ وماذا يقصد بالعفة وكيف تحقق الكرامة؟
مفهوم الكرامة
يحيل مصدر كَرُمَ على معاني الشرف والعزة فيقال "يَصُونُ كَرَامَتَهُ عَنْ كُلِّ مَا يُدَنِّسُهَا " : أي يصون شَرَفَهُ وعِزَّةَ نَفْسِهِ . ويقال: أهدر كرامة فلان: أي أسقطها ، وأذلَّه، ومنه قول القائل: " أبى المجاهدون أن تُهدرَ كرامة الأمَّة ". والكَرَامَةُ اسْمٌ للإكْرُام، مِثْلُ: الطاعَة للإِطاعَة، وهي من الكَرَم، وهو: ضدّ اللؤم، يقال: كَرُمَ الرجلُ يكرم كَرَمًا فهو كريم، ورجل كرّام: في معنى كريم، والمَكارمَ واحدتها مَكْرُمَة، وهو ما استفاده الإنسان من خُلق كريم أو طُبِع عليه، وجمع كريم كِرام وكُرَماء.وقال الجوهريّ صاحب الصحاح: التّكريم والإكرام بمعنى (واحد)، والاسم منه الكرامة.
والكريم هو الذي كرم نفسه عن التدنس بشيء من مخالفة ربه، ومما لا يليق بمروءته وموقعه الاجتماعي، والكريم أيضا هو الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل، ويقال تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عن الشائنات.
وفي لسان العرب تتبع لبعض معاني استعمالات "الكريم" في التنزيل، قال ابن منظور:" وفي التنزيل العزيز: "إنِّي أُلْقِيَ إليَّ كتاب كَريم" قال بعضهم: معناه حسن ما فيه، ثم بينت ما فيه فقالت: إنَّه من سُليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم أَلاَّ تعلوا عليَّ وأْتُوني مُسلمين؛ وقيل: أُلقي إليّ كتاب كريم، عَنَتْ أَنه جاء من عند رجل كريم، وقيل: كتاب كَريم أي مَخْتُوم.
وقوله تعالى: "لا بارِدٍ ولا كَريم" قال الفراء: العرب تجعل الكريم تابعاً لكل شيء نَفَتْ عنه فعلاً تَنْوِي به الذَّم. يقال: أَسَمِين هذا؟ فيقال: ما هو بسَمِين ولا كَرِيم، وما هذه الدار بواسعة ولا كريمة.
وقال: "إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون" أَي قرآن يُحمد ما فيه من الهُدى والبيان والعلم والحِكمة.
وقوله تعالى: "وقل لهما قولاً كَريماً" أَي سهلاً ليِّناً.وقوله تعالى: "وأَعْتَدْنا لها رِزْقاً كريماً" أي كثيراً.
وقوله تعالى: "ونُدْخِلْكم مُدْخَلاً كريماً" قالوا: حسَناً وهو الجنة.وقوله: "أَهذا الذي كَرَّمْت عليّ" أي فضَّلْت.وقوله: "رَبُّ العرشِ الكريم" أَي العظيم.وقوله: إنَّ ربي غنيٌّ كريم؛ أي عظيم مُفْضِل."
الكريم من أسماء المولى عزّ وجلّ وصفاته:
قال الغزاليّ: الكريم: "هو الّذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفّى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرّجاء، ولا يبالي كم أعطى، ولا من أعطى، وإن رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جفي عاتب وما استقصى، ولا يضيع من لاذ به والتجأ، ويغنيه عن الوسائل والشّفعاء، فمن اجتمع له جميع ذلك لا بالتكلّف فهو الكريم المطلق وذلك هو اللّه تعالى، فقط " .
التكريم في اصطلاح العلماء:
قال ابن كثير: "تكريم اللّه للإنسان يتجلّى في خلقه له على أحسن الهيئات وأكملها، وفي أن جعل له سمعا وبصرا وفؤادا، يفقه بذلك كلّه وينتفع به ويفرّق بين الأشياء ويعرف منافعها وخواصّها ومضارّها في الأمور الدّينيّة والدّنيويّة"
وللكلمة استعمالات أخرى لا تعنينا فيما نحن بصدده مثل الكَرَامَةُ التي تخص الأولياء وهي: الأَمرُ الخارقُ للعادةِ غيرُ المقرون بالتحدّي ودعوى النبوة ، يُظهره الله على أَيدي أَوليائه، ويقال أيضا حُبًّا وكرامة : بكلّ سرور وطيب خاطر،
معنى الكرامة في اللغة المعاصرة:
ويقصد بها احترام المرء ذاته ، والكرامة شعور بالشّرف والقيمة الشخصيّة يجعله يتأثّر ويتألّم إذا ما انتقص قَدْره . كما أنها مبدأ أخلاقيّ يُقرِّر أنّ الإنسان ينبغي أن يعامل على أنّه غاية في ذاته لا وسيلة ، وكرامته من حيث هو إنسان فوق كلِّ اعتبار .
وتعني عمليا أن من حق كل شخص أن يعامل في علاقاته بالأشخاص الآخرين أو بالدولة على أساس أنه غاية لا وسيلة، وعلى أنه أغلى من كل شيء وأن له قيمة قصوى.
وجاء في المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى أن "جميع الناس يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق وهم قد وهبوا العقل الوجدان، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء".
وعموما فكرامة الإنسان مرتبطة باحترام احتياجاته النابعة من طبيعته البشرية، وهي مرتبطة أيضا بالتحرر من الخوف ومن الحاجة،
أنواع الكرامة الإنسانية:
في الأصل ليس لك في الناس إلا أخ في الدين أو أخ في الإنسانية والمطلوب حد أدنى من الكرامة يحفظ للصنفين معا، ويمكن تقسيم هذه الكرامة إلى نوعين:
- الكرامة الإنسانية الطبيعية : وهي تلك التي متع الله تعالى الإنسان بها دون استثناء، حيث يقول الله عز وجل في القران الكريم " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)"الإسراء.
- الكرامة الإنسانية الربانية: وهي عبارة عن ذلك الشرف والحيثية التقويمية التي يتم الحصول عليها بالسعي الاختياري في مسير التزكية النفسية وتحصيل المعرفة الحقة وإدراك الوجود والتقرب إلى الله، حيث أن معرفة الكرامة الإنسانية أو احترامها يشكل إحدى المقدمات الضرورية لذلك. إنها تلك الكرامة العظمى التي عينها الله سبحانه فقال تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) " الحجرات.
مظاهر الكرامة
للتّكريم في دين الله مظاهر عديدة يمكن إجمالها في تكريم اللّه للإنسان، وتكريم الإنسان لنفسه، وتكريم الإنسان لأخيه الإنسان.ونفصل فيما يلي في المظهر الأول والثالث ونرجئ الثاني إلى أن نربطه بالعفة باعتبارها مدخل مهم من مداخل الكرامة.
تكريم اللّه للإنسان:
لتكريم اللّه للإنسان صور عديدة لا يمكن إحصاؤها نذكر منها ما يلي:
- اختصّ اللّه الإنسان بأن خلقه بيديه ثُمَّ سَوَّاهُ في أحسن صورة وجعله في أحسن تقويم وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ له السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، وأسجد له ملائكته.وهداه هداية عامّة بما جعل فيه بالفطرة، من المعرفة وأسباب العلم .. ومنحه العقل والنّطق والتّمييز وكرمه بتسخير ما في السماء والأرض له، فمكنه من استخدام ما خلقه اللّه في تطبيقات عمليّة نافعة له في مجالات حياته المختلفة دون ثمن يدفعه مقابل ذلك، مثل استخدامه لضياء الشّمس ودفئها، ومعرفته السّنين والحساب بدوران هذه الأفلاك.
- وكرّم اللّه الإنسان بتفضيله على كثير من خلقه فقال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (الإسراء/ 70) ومن التّكريم تحميل الإنسان الأمانة ونفي الجبر عنه وإعطاؤه الحرّيّة كاملة، قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (الأحزاب/ 72)، وقال سبحانه:"وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (النجم/ 39)، وبهذه الحرّيّة استخلف في هذه الدار للعمل.
- وأكرم اللّه للإنسان بمحبته له وهدايته إياه بإرسال الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وأكرمهم بخاتمة نبيهم لدعوة الناس لما يحييهم، وضمن لهم الله الفوز في الدّنيا والآخرة، ومن مظاهر هذا التّكريم حصر مظاهر شرف الإنسان في العبوديّة للّه وحده، وتحريره من عبادة الأصنام والأوثان والبشر، ومن ذلك جعل التّقوى هي المعيار الأساسي الّذي يتفاضل به بنو البشر وليس الجنس أو اللّون أو المال ونحو ذلك، يقول اللّه تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ (الحجرات/ 13).باتباع رسله وسلوك سبيل التقوى والعدل والطهارة والإحسان وغير ذلك من طرق الخير حتى يتمتعوا بخيري الدّنيا والآخرة،
- وأكرمه سبحانه بمعيته ونصرته وتأييده وتوفيقه إذا كان على الحق والخير فقال تعالى:" إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" ويحفظ عباده من السوء ومن وسواس وإغواء الشّيطان بتمكينه من الاستعاذة به سبحانه ليحميه من كيد عدوه ، وجعل له سبحانه في القرآن شفاء وجعل فيه بصائر وعبر لمن يعتبر، قال تعالى:"هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" «2»، وتتضمّن هذه البصائر القرآنية حقوق الإنسان الشّرعيّة العامّة والخاصّة وتجعلهم يقفون على ما لهم ويعرفون ما عليهم، فيؤدّون الواجبات المتعلّقة بالنّفس وبالغير، وقبل ذلك وبعده ما يجب عليهم من عبادة الواحد القهّار فيحفظون بذلك دينهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم،
- كما أرشد القرآن إلى مكارم الأخلاق وحثّ عليها، يقول اللّه تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ (الإسراء/ 9).وحرم الله دم الإنسان وماله وعرضه إلا بالحق وشدد النّكير وغلظ العقوبة على من ينتهك حرمتها، وسنّ اللّه عزّ وجلّ الشّرائع السّماويّة العادلة الرّادعة لحمايتها وأعطى الشرع حقّ المساواة لكلّ فرد مع الاخرين، فلا يتفاضل أحد على أحد إلّا بالتّقوى والعمل الصّالح إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ (الحجرات/ 13)،
- ثم يأتي التّكريم الأعظم في الاخرة بما أعدّه اللّه للطّائعين من الكرامة في دار المقام حيث يدخلهم الجنّة يتمتّعون فيها بنضرة النّعيم ويحظون بالرّضوان والفضل العظيم، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة/ 72).
تكريم الإنسان لأخيه الإنسان:
نصّ دين الله الخاتم في مواضع عديدة على تكريم الإنسان للإنسان: الرّجل والمرأة، الصّغير والكبير، الغنيّ والفقير، المريض والسّليم، المسافر والمقيم، القريب والبعيد، الحيّ والميّت، وأكد على فئات بعينها قد تهان كرامتها في زحمة الحياة وفوران الأنانيات، فأمر بإكرام الوالدين وحسن رعايتهم وجعل إحسانهم تاليا لعبادته عزّ وجلّ ووسع نطاق هذا التّكريم ليشمل ذوي الأرحام وعمم التكريم ليشمل المومنين بالإحسان إليهم، وحسن الظّنّ بهم، وحسن معاملتهم، والتّعامل معهم بالرّقّة والشّفقة والتّسامح، والتّواصي بالحقّ وبالمرحمة وأمر بالتّواصي بالحقّ وتحقيق العدل والتّناصر والتّعاون على البرّ والتّقوى، وكل ما يحقق كرامة الإنسان وتكريمه ، وأمر بتوفير الرعاية الكاملة للطفولة، وأمر الرجال بتحمل أمر القوامة والنفقة حفظا لكرامة المرأة زوجة وأما وأختا وبنتا حتى لا تذلها الحاجة وحتى تتفرغ الأم لتربية الأبناء ورعايتهم وخصوصا في المراحل المبكرة الحرجة حيث يكرم الطفل وفيه كرامة الإنسان عموما.
وقضى دين توحيد الله على كل أشكال التّمييز المذموم، قال تعالى:" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات/ 13). وحافظ على كرامة غير المسلم وسط المسلمين وشرع ما يكفل له أن يعيش مكرّما لا يجوز لأحد أن ينتقصه أو ينتهك عرضه أو ماله أو دمه، أو يجبره على ما يكره، قال تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (البقرة/ 256)، وقال المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم حاثّا على استقرار وتلاحم المجتمع بكافّة عناصره:«من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنّة وإنّ ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما» ، وقال صلّى اللّه عليه وسلّم: «ألا من ظلم معاهدا أو انتقص منه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة»
مفهوم العفة
تدل مادة (ع ف ف) على «الكفّ عن القبيح» قال ابن منظور: العفّة: الكفّ عمّا لا يحلّ ويجمل، والعفّة أيضا: النزاهة.ويقال: عفّ عن المحارم والأطماع الدّنيّة، يعفّ عفّة وعفّا وعفافة وعفافا فهو عفيف، وتعفّف أي تكلّف العفّة. والعفاف أيضا: هو الكفّ عن الحرام والسّؤال من النّاس. والاستعفاف: طلب العفاف، وهذا معنى قول اللّه تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً (النور/ 33) أي ليضبط نفسه بمثل الصّوم فإنّه وجاء، وكذلك في الحديث:«ومن يستعفف يعفّه اللّه».كما تعني العفة التقليل من الشيء قال الرّاغب: أصل العفّة الاقتصار على تناول الشّيء القليل الجاري مجرى العفافة (أي البقيّة من الشّيء) والاستعفاف طلب العفّة.
والاستعفاف أيضا: الصّبر والنّزاهة عن الشّيء ومنه الحديث: «اللّهمّ إنّي أسألك العفاف والغنى».
وقيل: العفيفة من النّساء السّيّدة الخيّرة. وقيل هي عفّة الفرج، ونسوة عفائف، ورجل عفيف أيضا معناه عفّ عن المسألة والحرص، وقيل في وصف قوم: أعفّة الفقر. أي إنّهم إذا افتقروا لم يفشوا المسألة القبيحة.
واصطلاحا: قال الكفويّ: العفّة هي الكفّ عمّا لا يحلّ .وقال الجرجانيّ- رحمه اللّه تعالى-: العفّة: هي هيئة للقوّة الشّهويّة متوسّطة بين الفجور الّذي هو إفراط هذه القوّة والخمود الّذي هو تفريطه. فالعفيف من يباشر الأمور على وفق الشّرع والمروءة .
وقال الجاحظ: هي ضبط النّفس عن الشّهوات وقصرها على الاكتفاء بما يقيم أود الجسد ويحفظ صحّته فقط، واجتناب السّرف في جميع الملذّات وقصد الاعتدال، وأن يكون ما يقتصر عليه من الشّهوات على الوجه المستحبّ المتّفق على ارتضائه وفي أوقات الحاجة الّتي لا غنى عنها، وعلى القدر الّذي لا يحتاج إلى أكثر منه، ولا يحرس النّفس والقوّة أقلّ منه، وهذه الحال هي غاية العفّة .
ولا يكون الإنسان تامّ العفّة حتّى يكون عفيف اليد واللّسان والسّمع والبصر، فمن عدمها في اللّسان كان لسانه مرتعا للسّخرية، والتّجسّس والغيبة والهمز والنّميمة والتّنابز بالألقاب، ومن عدمها في البصر: مدّ العين إلى المحارم وزينة الحياة الدّنيا المولّدة للشّهوات الرّديئة، ومن عدمها في السّمع: أصغى إلى المسموعات القبيحة. ومن عدمها في يده مدها إلى الحرام وأكل أموال الناس بالباطل، وعماد العفّة في هذه الجوارح كلّها ألا يطلقها صاحبها في شيء ممّا يختصّ بكلّ واحد منها إلّا فيما يسوّغه الشّرع والعقل .
العفة طريق الكرامة
عند حديثنا عن مظاهر التّكريم في دين الله تحدثنا عن تكريم اللّه للإنسان، وتكريم الإنسان لأخيه الإنسان، وأرجأنا الحديث عن تكريم الإنسان لنفسه لنربطه بالعفة باعتبارها مدخلا مهم من مداخل الكرامة. ففي تراثنا كما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته من الشعر الجاهلي: ومَنْ لا يُكَرِّمْ نفْسَه لا يُكَرَّم .والسؤال كيف يكرم الإنسان نفسه وما مدخل العفة في ذلك.
لا كرامة بغير علم ومعرفة:
إنّ الإنسان إذا علم أنّه مكرّم من اللّه عزّ وجلّ، وأنّ من تكريم اللّه له قربه منه ومعيّته له فإنّ أبسط مظاهر تكريمه لنفسه أن يعمل عقله وقلبه وجوارحه بأن يتفكّر ويتأمّل ويتدبّر في ملكوت اللّه عزّ وجلّ ونعمه الّتي لا تعدّ ولا تحصى، فهو يقبل على العلم والمعرفة حتّى يكون أهلا لتكريم اللّه له، كما أنه يلقى من النّاس التّكريم والثّناء العطر لما يرون من فضله ونفعه فيفوز بخيري الدنيا والآخرة.
العبادة والطاعة للخالق وحده سبيلان لتحقيق الكرامة إزاء باقي المخلوقات:
من تكريم الإنسان نفسه أن يزكّيها بالعبادة ويطهّرها بالطّاعة، وإذا فعل ذلك كان أهلا لمعيّة اللّه عزّ وجلّ، فيوقن بأنّ اللّه عزّ وجلّ رقيب عليه مطّلع على سرّه وعلانيته فيعمل بإخلاص وحياء وخوف وخشية ويعبد ربه بأقواله وأفعاله كأنّه يراه، ويجتهد في الفوز بمعيّة نصر الله وتأييده. ويكرم نفسه بملازمة الذّكر والدّعاء فيفوز بالسكينة والطمأنينة فتتحقق له السعادة الباطنية ويشعر بالكرامة، فلا يستذله شيء في هذه الدنيا ولا من مخلوقات الله لأنه سيد في الكون عبد لله.
التعفف وحفظ النفس وصيانتها طرق معبدة لتحصيل الكرامة:
يكرم الإنسان نفسه بحفظها من المحرمات وبسلوك التعفف والتطهر وصونها عن كلّ ما يدنّسها أو يشينها من الموبقات المهلكة مثل الزّنا واللّواط والخمر والميسر، ونحو ذلك ممّا يذلّ النّفس وينتقص من كرامتها وعزّتها، فضلا عمّا يؤذي الجسد والعقل من المخدّرات وما في حكمها، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (الشمس/ 9- 10)، يقول ابن تيميّة- رحمه اللّه-: «قد أفلح من كبّرها وأعلاها بالطّاعة، وخسر من أخفاها وحقّرها وصغّرها بمعصية اللّه- عزّ وجلّ-، فالطّاعة والبرّ تكبر النّفس وتعزّها وتعليها حتّى تصير أشرف شيء وأكبره، وأزكاه وأعلاه، ويكون ذلك بالإيمان بآيات اللّه وسننه الكونيّة وآياته العلميّة، فبالتّفكّر والتّدبّر لهذه الآيات، وبالفهم والتّعقّل لآيات القرآن تزكو النّفس وتسمو وتعلو على مدارج هذه الكمالات حتّى تكون مع الأبرار « »،
فعبد الشهوة لا كرامة له بل هو أذل من عبد الرق كما يقال، لأنه قد يأتي من الأفعال الشنيعة ما يستحيي منه هو نفسه عند لحظة يقظة ضميره، ويشعر بالذل أمام نفسه فضلا عن محيطه إذا جاهر بذلك وشاع، ومن مقاصد الدين تحرير الإنسان حتى من داعية هواه.
ففي غض البصر مثلا استعلاء على النفس الأمارة بالسوء، وإغلاق لمنافذ الفتنة والغواية، ودليل صادق على قوة العزيمة، وفي ذلك ما فيه من أسباب الكرامة. وفي الحديث "يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة ، ما ترَك عبدٌ شيئًا لا يترُكُه إلَّا للَّهِ إلَّا عوَّضَه اللَّهُ منهُ ما هوَ خيرٌ لهُ في دينِه ودنياهُ"
وفي البعد عن فاحشة الزنا شعور خاص بالكرامة وبأنك من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله وخصوصا لمن تعرض للإغواء الشديد والإغراء الرهيب، فيرى نفسه في كوكبة طاهرة كريمة يقودها الكريم بن الكريم ابن الكريم يوسف الصديق عليه السلام، والذي جوزي على صبره على عنف الإغراء بتاج الكرامة في الدنيا والآخرة.
الأخذ بأسباب الرزق والتعفف عن السؤال من طرق الكرامة:
ومن تكريم الإنسان نفسه صونها عن ذلّ سؤال الخلق، بالسعي في طلب الرّزق والرضى بما قسم اللّه له من الرّزق الحلال، فإذا سعى وكدح ورزق ما قدّر اللّه له أصبحت نفسه عزيزة بإيمانها، قويّة بعزّتها، لا تغرّها الدّنيا ولا يعميها الطّمع حيث آمنت بقوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ (الحديد/ 20) واعتقدت بأنّ النّجاح والرّزق بيد اللّه عزّ وجلّ، فلم يستعبدها شيء فتزداد رقيا في مراتب الكرامة.
والخلاصة أن العفة والتعفف والاكتفاء بالجائز والمباح في عالم الغرائز والشهوات، شهوات الجنس والمال والكلام والسماع، والتعفف عن حرمات الآخرين في دينهم وأعراضهم وأموالهم، كل ذلك من سبل تكريم الذات وتحريرها من مختلف أشكال العبودية ولو كانت عبودية الدرهم والدينار والفرج ولذة الكلام والهوى ليضاف إلى تكريم الله للإنسان بالعبادة والخلافة والعمارة، كما يضاف إلى تكريم الإنسان لأخيه الإنسان من خلال سلوك الأفراد وقوانين المؤسسات ونظام الحقوق والواجبات وقيم الرحمة والعدل والحرية والمسؤولية، لتكتمل حلقة التكريم والكرامة ويتحقق موعود ربنا " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً" وننجو من الشيطان وحزبه ممن يسعون لأن نرد إلى "أسفل سافلين".
==
هوامش:
بخصوص تغير معنى ومضمون الكرامة في اللغة المعاصرة، فالذي يتغير في بعض الكلمات الخالدة العدالة الحرية الكرامة :هو المضمون الذي نعنيه، فقد تعني العدالة في عصر فكري معين أن يقتص المظلوم من ظالمه متى أستطاع ذلك بشخصه ثم يتغير العصر فتصبح العدالة أن يقف بين الطرفين قاضي محايد، وهكذا في سائر المعاني.
انظر:الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، محمد مورسي:الموضوع الأصلى: http://www.sef.ps/vb/multka169252/#ixzz2LokY3JY0
انظر:روزين يرصد تطور مفهوم الكرامة عند الفلاسفة، موقع http://www.almustagbal.com/archives/53748
بخصوص الكرامة والغرائز:كل غريزه على حده يلاحظ ان سيطره الانسان عليها تحتاج الى قوه وصبر واراده وقد يكون هناك ما يسمى بنقطه الانهيار التي ينهار الانسان امامها ويضحي بكرامته او جزء منها للحصول على الشهوة او إشباع الغريزة.
انظر:موسوعة نضرة النعيم في أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.