يقول المؤرخون إن العصر الوسيط عصر الميتافيزيقا؛ فالبحث عن التقاطع مع العقل، والتأمل في السياق الكوني، وطريقة معالجة السؤال الديني من أجل تتبع مسار فلسفي متماسك، كل هذا التمازج هو بالفعل مُشْبع ب"أسلوب ميتافيزيقي". من المعتاد أن نقول إن هناك قطيعة معرفية قوية بين الفلسفة العربية في العصور الوسطى كما يتم وصفها والدراسات التي أجراها ابن خلدون في القرن الرابع عشر؛ فمن خلال مقاربته "الفيزياء الاجتماعية"، بتأصيل أوغست كونت (Auguste Comte) في القرن التاسع عشر بعد ذلك، كان مفكرنا المغاربي يكرِّس فكره للخروج من العصر اللاهوتي إلى رحابة فكرية جديدة ومنهج مغاير في فهم بنية المجتمع العربي. لا يمكن رغما عنا تفنيد أهمية الحقل الجديد للدراسة الذي جاء به ابن خلدون: المدينة ونتائجها على مر الحضارات برؤية تاريخية مغايرة لما درجت عليه علوم العرب.. وبوضعنا لأهمية خلق وإنتاج هذه المفاهيم بتوضيح ما أخذه عن فلاسفة القرون الوسطى العرب، خصوصا ابن باجة وابن طفيل وابن رشد، فهو بذلك يتطرق إلى منهجه حول حتمية التاريخ والتغيير، التي طُبقتْ في تاريخ العلوم في الفيزياء بعد ذلك عند بيير دوهيم (Pierre Duhem) بداية القرن العشرين، ونظرية القطيعة الابستيمولوجية عند غاستون باشلار؛ فهذه النظرة المتشككة والمستمرة سنحاول تسليط الضوء حولها عند ابن خلدون. منهجيا، في العصر الوسيط لم يكن سوى التأمل بطابعه الحدسي، وهو تخمين يتعارض مع الملاحظة، بل التخمين كما هو محدَّد يسبق الملاحظة ولا يتعارض معها. فابن خلدون كان قارئا جيدا لشروح المنطق الأرسطي، والفلاسفة العرب وسعوا من دائرة المنطق الأرسطي في فن الخطابة والشعر، فن الإقناع من جهة وفن صناعة الصورة البلاغية والشعرية من جهة أخرى. كما تتجسد عبقرية ابن خلدون في الجمع بين المفاهيم السياسية (كان على اطلاع على جمهورية أفلاطون) والخطابة من أجل خلق نمط جديد للدراسة، ألا وهو العمران أو التمدن، من خلال الجمع بين فن الإقناع (الخطابة) وفن تحريك الأفعال الإرادية (السياسة)؛ وهذا الاتصال بين نمطين مختلفين منهجيا هو الذي يؤصل عمله، فالأول ينهل من المنطق والثاني من السياسة، حيث لم يخرج عن قاعدة المناطقة الأوائل أمثال الفارابي وابن رشد. وهذا الحقل الجديد أي "التمدن" أو "التحضر" تم وضعه ضمن حركية التاريخ ويُقَدَّم تحت مسمى الحضارة. يقدم ابن خلدون طابعه المستحدث: "واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص وليس من علم الخطابة، إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه، ولا هو أيضا من علم السياسة المدنية؛ إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه، فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين يشبهانه وكأنه علم مستنبط النشأة" (المقدمة). فالفارابي، كما ابن سينا بعده، أثارا البعد العملي للخطابة في المدينة، التي تهدف إلى الإقناع للوهلة الأولى (بادئ الرأي المشترك) كما تتفق مع هابيتوس (Habitus) المدينة، ومن الجمهور الذي تستعصي عليه الأسئلة الجدلية ومسائل الاختلاف، وأسوأ من ذلك أنه لا يمكنه الوصول إلى المسائل البرهانية؛ فالخطابة تسود بطولها وعرضها في الجمهور- العامة – ما يختلف عليه الأمر في وقتنا الحاضر.. فهذا الفن يرتكز على حجب كل الاحتمالات والإمكانيات المختلفة عن تلك التي تسنها السلطة السياسية، وهذا الحجب يهدف إلى الحفاظ على السلطة القائمة، كما أشار إلى ذلك الفارابي: "اكتسب الجدل والخطابة أهمية قصوى من حيث أنهما يتيحان التحقق من آراء المواطنين حول الدين، وفحص هذه الآراء والدفاع عنها وزرعها بقوة في نفوسهم، وإنقاذها، إذا ما حدث ذلك، من كل تضليل للأتباع والتصدي لكل من يرغب في ذلك". وقد نتساءل عن حقيقة فلاسفة العصور الوسطى، مع تبنيهم للفكر الأرسططالي الذي يثبت أن الإنسان في جوهره كائن سياسي، ألم يقوموا بتحليل عميق لنشأة وتكون المجتمعات الإنسانية في بنياتها وتشكلها؟ وإن كانت محاولاتهم قد قامت على ثلاثة أنماط مختلفة؛ وهي كما أشار الفارابي نمط الفيلسوف "تراسيماك السوفسطائي" أو "ثراسيماخوس" (Thrasymaque) – في القرن الخامس قبل الميلاد- حيث كان أكثر من سقراط في تكوين الشباب والعامة وتعليم عدد كبير منهم في المدينة، في حين كانت الطريقة السقراطية تتجه نحو الخاصة بقدرته الجدلية الكبيرة للكشف عن العدالة والفضيلة والمحبة. أما الفيلسوف ابن باجة فكان تقديره بأنها صدفة أو حادث طارئ أن يكون الفيلسوف الحكيم في المدينة منفصلا عن الجمهور؛ فكلاهما يدرك أنه إذا كان قدر الإنسان العيش في المدينة فقط فمن المحتمل أن تتحول العزلة إلى سُمٍّ مفيدٍ مثل كل دواءٍ للجسم المريض. وضمنيا يمكن نقد مجتمع ما، بتعبير الفارابي، فالفيلسوف "حيوان هجين"، وحش ضار خصوصا حينما تصبح أفكاره تشكل خطرا على حياته في المدينة وكأنه جسم غريب بها. أما ابن طفيل فطوَّر تصورا آخر كما فعل توماس مور (Thomas Moore) في القرن السادس عشر، وهو التقاطع بين الانعزالية واليوتوبيا للفيلسوف، وذلك لتقديم نقد جذري للعيش المشترك بقناعة واحترام النصوص المقدسة؛ بل لا ينبغي الاستياء من فشل الحكيم في نقل حكمته وفلسفته لأنه لا يحسن فعل ذلك كما كان سقراط في طريقته مع الخاصة،، وافتقاره أو بالأحرى استنكافه عن النهج الذي تبنَّاه تراسيماك (ثراسيماخوس) مع العامة. فالتآمر السياسي يختبئ دوما وراء قوة السرد والخطابة التي تستقوي به وتتدثر باليوتوبيا والراديكالية والتعصب، بل هي إدانة صريحة لمجتمع الخوف والتعسف. سوف يعكس ابن خلدون المنظور الذي سيطرت عليه سلطة الخطابة، وسيسعى إلى إعادة موضوع الفعل الجماعي إلى ديناميته، حيث يعمدُ إلى تحريك هذا الفعل، وبقيامه بذلك، لا يعطي الحق لجوهر السلطة السياسية، بل فهم أصولها وأنسابها لفهم قواها الخفية غير المعلنة. إن تغيير اللغة أمر مؤكد: فمفاهيم الجوهر والأعراض والحوادث تم التخلص من قوتها الميتافيزيقية، بل قيد الاستخدام وفقًا لمجال تطبيق جديد: المجال التاريخي. ويتعلق الأمر في هذا الصدد بتولي مسؤولية حوادث التاريخ والسعي إلى جعلها جلية وواضحة أمام العقل. إن هذه المعرفة الجديدة المطبقة، أي التمدن والحضارة، تشترك مع الخطاب الاهتمام بتداول الإشارات والرموز الاجتماعية التي تجعل السلوك البشري مفهومًا: فقواعد هذا التداول تجعل من الممكن تفسير الطريقة التي يتعامل بها الناس مع السلطة السياسية؛ وبهذا ينقل ابن خلدون ما يشار إليه عادةً بشكل من أشكال التعالي اللاتاريخي، إلى مجال التاريخ. ويمكننا الحديث هنا عن "نظام الخطاب" بتعبير ميشال فوكو(Michel Foucault): "لا ينبغي أن يؤخذ الخطاب على أنه مجموعة من الأشياء التي يقولها المرء، ولا كطريقة لقولها، فهو بنفس القدر في ما لا يقوله المرء؛ أو الذي يتميز بالرموز والإشارات والمواقف وطرق الوجود وأنماط السلوك والترتيبات المكانية. فالخطاب هو مجموعة المعاني القسرية والإجبارية التي تمر عبر العلاقات الاجتماعية". الفن الآخر الذي تقترب منه المعرفة الحضارية لابن خلدون، وبتمييز عنه، هو فن السياسة بصفته فن تنظيم الحياة في المدينة؛ إذ إن له مصلحة في هذه المعرفة الجديدة التي يدعو إليها. ولكن فن السياسة والحكم ظل لفترة طويلة محصوراً في تاريخ السلالات الحاكمة وليس تاريخ جميع أشكال الحياة المشتركة، وهذه المعرفة لا تكفي إن لم تأخذ في الاعتبار تطور المجتمعات. إن تاريخ العصور الأولى للإسلام، لاسيما هجرة النبي إلى المدينةالمنورة، حدث دون بناء أسطوري أو قدسي، بل ملحمة هذه الهجرة هي نفسها موضوع تاريخ؛ فالطوارئ التاريخية، وكل موازين القوى الطارئة تعتبر من مكونات التاريخ: "التاريخ فن يكون فيه العلماء والعامة من الناس في نفس المستوى"، وابن خلدون يتحدث عن التاريخ كمحكمة جديدة بموجبها تكون سلطة النخبة نسبية، بين العلماء وغير العلماء، فالدين الإسلامي يتكلم عن خلاص كل الناس. فنُّ الحكم وفي وصف كيف تحيا وتموت السلطة، مجموعة من العلماء كابن خلدون تبنواً شروط الممارسة لذلك. فالتحكم والهيمنة قد تنتج خلسةْ وفي غفلة من الجميع ولا تحتاج دوما إلى بهرجة من أجل تمظهرها. فعند سقوط الخليفة يقوم الوزراء بالمحافظة على أسماء الولاء والخضوع التي وضعها لهم الخلفاء (شرف الدولة، عضد الدولة، ركن الدولة...) ويمتنعون بالتالي عن أخذها من الخليفة المغتصب؛ وهو احترام لمؤسسة السلطة، ويحرصون على عدم تحمل صفات خاصة كما هو حال المغتصبين. فكما هو الشأن عند ابن خلدون أو الفارابي كذلك فخصوصية الهيمنة لخلفاء الإسلام لم تحدد بمبررات معينة.. وبعيدا عن أي تعهد بالتبرير فإن تحليل فنون الحكم يجعل من الممكن استبعاد كل الحيثيات الإيديولوجية أو التاريخية؛ فالفارابي يوضح لما نسميه عادة وبطريقة دفاعية "جاهلية"، وعلى نقيض مع الإسلام، بأنه لا يميز تحديدا فترة ما قبل الإسلام، بل هذا المصطلح لا يصلح إلا للأنظمة الفاسدة كيفما كانت. لذلك فالهيمنة ليست غاية في ذاتها، فالسؤال الذي يعاد طرحه دوما من طرف كتابنا: ماذا يقع للسلطة السياسية مع الهيمنة؟ كيف تتمظهر؟ وحول هذا السؤال نجد تمفصل مجال السلطة والحكم، حكم الذات وحكم الآخرين؛ فإذا كان رجال السياسة في حاجة إلى جغرافية للروح بالمعنى الأنتروبولوجي العام فيجب عليهم لزاما معرفة ذواتهم. فإحدى الرهانات هي مواجهة سلطة الحاشية التي تخفي على الخليفة أمراضه فضلا عن إخفائها عن المجتمع الذي يحكمه. والباراديغم الطبي في هذه الحالة يكون حاضرا بقوة في هذه النصوص، فالأورام المتوارية متى ظهرت تتسع درجة قبحها وبشاعتها ودون علاجها علاجا جذريا تستديم وتتكرر، فكما يقول الفارابي: يتعلق الأمر بتشخيص المرض ثم إقناع المريض (الأمير) بتغيير نمط الحياة. وهذا الأمر يمكن أن يكون على انفراد وبالحيطة اللازمة لأن الفضيلة لا تكون إلا بشروط مخصوصة، لأن ما يخص هذا الشخص أو هذه المدينة قد لا يكون بالضرورة كونيا. ففن الحكم في المدينة تتدخل ضمنه أجهزة ومقومات واسعة منها: الحكمة والثقة، السلوك السوي، الوقاية، الإنصاف، الأخذ والعطاء. فالكتاب الذين قدموا نصائح للخليفة أو الأمير غالبا ما كانوا في مصاف الأعوان السياسيين المرموقين كمستشارين، كما هو حال ابن المقفع، أو ممثلين للفقهاء كما هو الحال للماوردي؛ وقد أصروا على الثقة اللازمة لتدعيم الروابط الاجتماعية؛ كما قاموا أحيانًا بتشكيل السؤال الحاسم للعدالة والتوزيع العادل من خلال استدعاء آراء أرسطو، وهو مرجع رئيس في جميع العصور العربية إبان العصور الوسطى. كما يتم أيضًا إدراج المكر والإخفاء في العقلانية الأداتية أو الوظيفية من أجل الوصول إلى مآرب السلطة؛ لكن هذا الحجب ليس دائمًا أكذوبة، إنه بالأحرى فستان الاحتفال لهذه الحقيقة التي لا يمكن سماعها بلغة التجريد الصارمة. فالحقيقة العارية تقتل. ترجمة خاصة لفصول من كتاب المفكر علي بن مخلوف "لماذا نقرأ الفلاسفة العرب. الإرث المنسي مطبعة ميشيل ألبان، فرنسا 2015. ترجمة وتعريب: محمد الحوات