يؤكد مؤلف كتاب "لماذا نقرأ الفلاسفة العرب؟"، منذ السطر الأول من مقدمته، على بيان الهدف منه، حيث يقول: "يروم هذا المؤلف أن يبين كيف أن الفلسفة العربية كما تمظهرت وعبرت عن نفسها بين القرنين الثامن والخامس عشر تشكل جزءا لا يتجزأ من تاريخ الإنسانية الفكري". الواقع أن الفلسفة العربية اتخذت شكل كلام قوامه الحجاج والاستدلال لا شكل كلام مصدره الوحي، فإنها اتجهت صوب أرسطو بوجه خاص تلتمس لديه من الأدوات ما تتوسل به في صحة مبرراتها ومسوغاتها الفلسفية. وقد لفت المؤلف الانتباه إلى هذه السمة الفريدة في الفلسفة العربية، حيث نراها تحتكم دوما إلى محكمة الشرع الإلهي عبر آليات الحجاج لتخضع لها الحقيقة. كيف ولماذا قراءة الفلاسفة العرب اليوم وبمرجعياتنا نحن؟ مرجعيات القيم المشتركة وحقوق الإنسان. فهذا الكتاب يقترح بيان أن الفلسفة العربية، كما هي حاضرة بين القرنين الثامن والخامس عشر، تشكل جزءا لا يتجزأ من تاريخ الإنسانية الفكري؛ فنجاح عملية نقل الفلسفة العربية إلى العالم الأوروبي يُشهد لها به بالرغم من إخفاء هويتها ومصدرها: حيث تستعمل اليوم الاستدلالات والبراهين الفلسفية للقرن الوسيط دون معرفة بأنها تشكلت عبر عشرات القرون بين قرطبة وبغداد، فيمكن الأخذ على سبيل المثال لا الحصر التمييز بين: الجوهر/الوجود، الماهية/الوجود الذي كان حاضرا في جميع فلسفات القرنين السابع عشر والثامن عشر، والذي عمل عليه ونظره الفيلسوف ابن سينا خلال القرن ال11م بقراءته لميتافيزيقا أرسطو ! فالفلسفة العربية، كما الفلسفة الصينية وغيرها من الفلسفات، هي واحدة من سبل الولوج إلى تاريخ الحقيقة التي تتقاسمه الإنسانية جمعاء؛ فاختلاف المسالك إلى التاريخ لا يعني أنها غير قابلة للقياس أو قابلة للتعذر. وكما قال مونتينيMontaigne " أن نقابل بين الثقافات دون مساواتها أو جعلها مساوية لبعضها البعض، لا يجعل الواحدة تحد من الأخرى بل هناك عيش مشترك ولغة متقاسمة". فالفلسفة باللغة العربية قد عرفت في القرون الوسطى تقدما لا مثيل له، ونقول الفلسفة بلغة عربية، ولم نقل ببساطة فلسفة عربية، لأن مجموعة من الفلاسفة من أصول فارسية كابن سيناAvicenne، الرازيAl-Razi، أو من آسيا الوسطى كالفارابي Al-Farabi. فحسب الفيلسوف الوسيطي Jean Jolivet "بأن الفلسفة قد ولدت مرتين في الإسلام: أولا- بالشكل التيولوجي الأصيل(الكلام)، وثانيا- بالتيار الفلسفي الذي تغذى في جزء كبير منه على المصادر اليونانية" وهذا التيار الأخير اصطلح عليه بالعربية: فلسفة. وأسماء هؤلاء الفلاسفة بقيت معروفة مع عبورها إلى اللاتينية: ابن رشد، ابن سينا، ابن باجة.. وهذه اللحظة/الولادة الثانية هي أكثر حضورا وتميزا حيث انطلقت من المصادر اليونانية ولم تبحث عن حماية الدين، بل انبثقت بشكل صريح كفلسفة وريثة التراث اليوناني الوثني؛ لكنها كانت تبحث عن مبرراتها في الشريعة، ومن هنا كان التمييز إذن بين التيولوجيا والدين، بين اللاهوت والدين. الفلسفة العربية: تراث إنساني كان العصر الوسيط يشتهر بأنه عصر مظلم، العصور المظلمة القاتمة، ومع ذلك فهذا العصر كان غنيا من حيث التخمينات الميتافيزيقية والمنطقية والتي أثرت أعمال الفلاسفة الآن. فالفيلسوف البريطاني "وايتهيدWhitehead" يقر مثلا في كتابه "وظيفة العقل"، "لو لاحظنا خلال عصر النهضة، فطيلة القرون السابقة، تم شحذ آلة العقل عن طريق تلك المشاهد الفلسفية التخمينية"؛ وكان قبله مونتينيMontaigne قد أشار إلى أعمال أرسطو وشروحاتها والتعليقات عليها، كانت عاملا على صقل العقل وإعماله، وهذه التعليقات التي ابتدأت في العصر اليوناني قد توبعت في العصر الوسيط مع التراث العربي واليهودي. فالمحقق/المتميز، من طرف المدرسيين اللاتينيين، هو ابن رشد بحقAverroès، الفيلسوف المسلم الذي ولد في قرطبة 1126م، قارئ أرسطو، طبيب وقاضي، الأب الروحي لأوربا- حسب تعبير آلان دو ليبيرا- وهو الفيلسوف الذي انبثقت على يديه ولادة الوجه المثقف كما تم اعتماده في أوروبا. نتكلم هنا، عن كلمة "وايتهيد": تخمينات (Spéculation) فهي تعني خصوصا المعرفة المنطقية الميتافيزيقية، فأعمال أرسطو المنطقية قد منحت تعليقات وشروحات فلسفية تتخذ طابع الإجماع من طرف الفلاسفة العرب، فيمكن استعمالها دون المساس برؤية العالم كما نقلتها ميتافيزيقا أرسطو، حول الأسئلة الأساسية لقدم أو حدوث العالم. وهذا يعترف به مثلا الفيلسوف وعالم الدين الغزالي نهاية القرن الحادي عشر (11م)، والذي لم يكن متساهلا قط مع الأرسطوطاليين، فالعمليات التي يقوم بها الفيلسوف فهي كما جاء بها المنطق الأرسطي: الفهم عبر مدارك العقل الحكم بالإيجاب أو النفي ثم أخيرا، التعقل، عن طريق تعارض الأسئلة الجدلية مع التحديدات العلمية. فعند استعراض المؤلفات الإنسانية خلال القرن العاشر(10م) نجد أبا حيان التوحيدي أو مسكويه، أو من خلال أعمال الفلاسفة وتعليقاتهم، الحضور الدائم لكلمة "علم" بالعربية؛ فالعالم فرانز روزنتال (Franz Rosental) قد أثار الانتباه إلى هذه النقطة: علم: هو الكلمة الأكثر استعمالا في الإسلام، وقد أعطت للحضارة الإسلامية شكلها المتميز والمركب، فليس هناك مفهوم آخر أكثر درجة منه، بل هو مفهوم أكثر إجرائية في تحديد حضارة المسلمين في جميع مظاهرها، كما هو شأن المفاهيم والمصطلحات العالمة في الحياة الدينية للمسلمين ككلمة التوحيد أو الدين. فليس هناك مجال في حياة المسلم الفكرية أو الدينية أو السياسية أو في حياته اليومية يخلو من موقف من العلم أو المعرفة كشيء له قيمة قصوى للإنسان المسلم؛ فهو شيء مسموع ومقروء ومتكلم؛ غير أن الدين المقروء والمسموع لا يعتبر البنية الوحيدة لحقل التفكير. فكما يقول Paul Veyne "فأي مجتمع وأية ثقافة، بتشكلها وتعارضها لم تتأسس على مذهب واحد؛ فبتضافر مجموعة العوامل وتشاكلها المختلط تتكون حضارة ما والجزء الذي يبدو ظاهرا فيها هو الدين، أي المبادئ المعلنة؛ لأن هذا الجزء هو المسموع والمقروء لغويا لحضارة ما، فالجزء الذي يقفز إلى العين وإلى الأذن يمكن تخصيصه وتسميته". وبما أننا نذكر الدين، فإن الفلسفة قد دخلت إلى العالم الإسلامي تحت تسمية "الحكمة". فبداية يبدو الأمر تكرارا وحشوا بالنظر إلى تعريف الفلسفة عند الإغريق "حب الحكمة" – فيلسوف "محب الحكمة". لكن حقيقة لا يتعلق الأمر بتكرار زائد عن الحاجة بل منهجية واضحة، لأن اسم "الحكيم" هو من أسماء الله في القرآن. فالكلام عن الفلسفة بأنها "حكمة" عند المسلمين هو من أجل إلغاء أصلها الإغريقي الوثني وجعلها ممارسة مشروعة من طرف الدين (صفة الشرعية الدينية)، فكثير من الفلاسفة المسلمين لم يترددوا في استعمال كلمة "حكمة - حكيم" كعناوين لمؤلفاتهم مع معرفتهم بالفلسفة، فهذا الفارابي (الجمع بين رأي الحكيمين: أفلاطون وأرسطو)، وابن رشد (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال)، ومسكويه في القرن العاشر الميلادي (الحكمة الخالدة) والتي قال عنه Jean Jolivet في القرن الوسيط "تجمع وصايا الأقدمين من الفرس والهند والإغريق ليتذكر بها العلماء ما تقدم لهم من الحكم والعلوم، من دون أن تكون هذه الحكم والوصايا جدلية كما هي فلسفة الفارابي وابن سينا وابن رشد لتميزهم بالجدل الفلسفي. الفلسفة العربية: صورة نمطية هناك صورة نمطية للفلسفة العربية كما هي مقدمة من طرف الفلاسفة المسلمين، على أنها نسخة قاتمة للفلسفة الإغريقية، ومن جهة أخرى بأن الشريعة هي العنصر الخاص والمميز للثقافة العربية الإسلامية. فحسب إرنست رينان: لدى الطوائف الدينية يمكن البحث عن التعدد والتنوع والتفرد وعبقرية العرب". ففي مجال الفكر الإسلامي ليست هناك إضافات وإبداع لدى العرب حسب "رينان "E.Renan، وتراثهم الفلسفي لا يجعلهم ضمن التاريخ المشترك للإنسانية، وبأن الشريعة لا تاريخية، وأن الفلسفة العربية لا تلبث أن تكون مقلدة وبأنها مَعْبر ومحرك من الفلسفة الإغريقية من أثينا إلى باريس وأوكسفورد وبادوا. فإرنست رينان، في كتابه "ابن رشد والرشدية" وفي مراسلاته مع جمال الدين الأفغاني، يعتبر مسؤولا في جانب كبير في تأكيد هذه الصورة النمطية السلبية، حيث كان اهتمامه بابن رشد من أجل تطوير منهجه التاريخي؛ فهو يؤكد أن المحدثين الغربيين في عصره لم يأخذوا عن ابن رشد أو عن العرب أو حتى من القرون الوسطى، وهذا حكم فيه كثير من التهميش في مساهمة الفلسفة العربية في الإرث الفلسفي الإنساني. ما فتئ رينان يزج بابن رشد في الصراع بين العقل والتعصب الديني، ويقر بأن تاريخ المسلمين كرس التعصب على حساب أنوار العقل والعقلانية، وبأن العقل قد انتهى في العالم العربي الإسلامي ولم يعد إلا بحملة نابوليون على مصر. فحسب ابن رشد Averroès، المعرفة العقلية التي ترتقي بمنزلتها الفلسفية هي المنهج نفسه الذي يعتبره القرآن، النص الذي يتكلم دوما عن "الكتاب والحكمة". فالقرآن في مواضع كثيرة يذكر ذلك، فإذا كانت الفلسفة حكمة فهي في اتصال دائم بالقرآن. فالنص القرآني يحثنا عن البحث في هذه المعرفة العقلية للقرآن والارتقاء بشكلها العقلاني، يعني حسب المنطق والقياس الجدلي والمنطق البرهاني لدى أرسطو. فهو-القرآن- يلزمنا بمعرفة هذا الشكل المتكامل والرفع من منزلته، والبرهان والتأويل هما خاصتان ل"الراسخون في العلم" حسب ابن رشد. فالإيمان الذي ينشأ عن البرهان يأتي سويا مع المعرفة التأويلية وعلم التأويل والتفسير – الذين لهم إيمان بالنص دون تبخيس للعقل. فهذا موسى بن ميمون، دون أن يكون بمعرفة تامة لأعمال ابن رشد، وهو معاصره تقريبا يقول: "حب الله يجب بمعرفته، والشريعة تدعو إلى فهم وتأويل الحقائق التي تتكلم عنها، ومن تم فهي تأمرنا ضمناً بمعرفة العالم". فالشريعة تبتغي كمال الإنسان، وهذا يمر عبر المعرفة العقلية لله وبممارسة العلوم المنطقية والميتافيزيقا والفيزياء التي تمثل جزءا من هذا القانون. إن الأعمال الحديثة حول ابن رشد وعموما حول الفلسفة العربية عبر الترجمة الدقيقة اعترفت بإبداع وجدة هذه الفلسفة من حيث الأسلوب والطريقة للشروحات والتعليقات والتلخيصات في أنماطها الثلاثة: المختصر دون الدخول في الحجج والبراهين الجزئية، والاختصار المتوسط الذي يعتمد صياغة النص بالفهم اليوناني، ثم التعليق الأكبر والذي يعتمد تركيبا أوسع مع استحضار التفسيرات والتأويلات، وكل هذا نجده مع ابن رشد حول سؤال العقل كما يؤوله أرسطو، ومع الفارابي حول فن الحكم وكيف أنه جاء بتغييرات حساسة لأفلاطون، والشارح والمعلق فهو خالق للفلسفة.