الفيلسوف ونظام الحقيقة تعتبر أعمال أرسطو كما نقلتها الفلسفة العربية، منهجا في التربية، فالمدينة ونظام الحقيقة، كان خلاصُها عن طريق التربية كما عبر عن ذلك ميشال فوكو؛ فهناك نظام للحقيقة تتمظهر من خلاله إرادة الحقيقة. فالفارابي انتبه إلى أن أفلاطون في رسائله، كان ذا إرادة لإصلاح أشكال الحياة ومظاهرها والتي من خلالها تتمظهر الحقيقة كأسلوب حياة في المدينة. فالفيلسوف أفلاطون يدعو المواطنين في المدن، في زمنه، ويؤكد أن الإنسان الفاضل والباحث دوما عن الحقيقة هو في خطر دائم. ولهذا لا بد من إيجاد وسيلة من خلالها يصبح عدد كبير من المواطنين في حاجة إلى تغيير أنماط حياتهم وآرائهم من أجل تبني الحقيقة ونمط الحياة الفاضلة. ومن خلال نصائح أفلاطون، كان اهتمام الفارابي بذلك وقوله بأن لا يمكن عزل الفلسفة عن المدينة. فالفيلسوف ليس هو ذاك الناسِك الغارِق في تأملاته، لكنه يلْزمه الفرار من المدينة حينما تصبح حياته في خطر؛ فالحقيقة العارية تقتلُ. وتم تقديم مثال أفلاطون، حينما غادر المدينة، والتي أتاها بعد ذلك متنكرا في لباس مهرج وجوال بآلته الموسيقية بالليل، وحينما سأله الحرس: من أنتَ؟ أنا الزاهد فلان بكل سخرية.. وفي حالته تلك، فالتخفي هو خلاصه في المدينة دون أن يتخلى عن الحقيقة والدعوة إليها بطرق أخرى كمن يلبس لباس النساك أو المهرجين أو الموسيقيين من أجل القيام بمهمته. ومن خلال هذا المثال، يمكن كشف اندماج الشعري والخطابي مع المنطقي، فهذا التداخل يقدم لنا رهانات تربوية مهمة، فبهذه الممارسات للصور والتعابير المجازية، تضحى أدوات معرفية ذات قيمة عملية في المدينة. فالفارابي، أخذ بجد دور الخيال في تثبيت الهابيتوس في المدينة، ليست خيالا منفصلا عن العقل بل خيالًا يجعل من الفضائل الحقة محرِكا وانتقالا سريعا وسلسًا للرموز بالمدينة. ففي الفلسفة العملية، لم يتمكن الفلاسفة العرب من ولوج "السياسي" لأرسطو، بل شرحوا ونقلوا "جمهورية أفلاطون"؛ فالفيلسوف، حسب الفارابي، معول عليه أن يشارك في الصياغة المألوفة لآراء المدينة، من أجل أن تظهر الحقيقة في سياقها الطبيعي؛ وهذا هو التحدي الذي سيقدم عليه ويدعمه كل من ابن سينا وابن طفيل وابن رشد، وهو أن نجد توافقا وانسجاما بين الخطاب الخارجي المتاح للعامة والخطاب الداخلي -خطاب البرهان- بمعنى اتحاد الخطاب والمفهوم؛ كما كان الشعر الملحمي/ الغنائي القديم و صرامة تجريده المفاهيمي يدل على إزاحة التشعبات بين العلم و الشعر. فابن رشد، في شرحه الوسيط للجمهورية، يضيف تواصلا آخر بين الفيلسوف والإمام؛ الإمام باللغة العربية يَكونُ دوره المرشد والدليل -فهو يقود الصلاة والإمامة- وأفلاطون يعلمنا بأن المرشد لا يمكن أن يكون إلا فيلسوفا. فالفيلسوف / المشرع خصتْ فضائله من طرف أفلاطون ومن طرف جماعة المسلمين؛ فالفلسفة هي ذلك الفن الراقي الذي يحقق السعادة في الوقت ذاته بين الفيلسوف وغير الفيلسوف. ففي مجتمع سياسي، الفيلسوف لا يمكنه الفرار من المشاكل الصعبة بطبيعتها مع المواطنين غير الفلاسفة؛ فالإمام، الفيلسوف أو الحاكم الأول أو مستشار الأمير، كلها تدخل في قلب هذا الحقل الدلالي، يتموضع الفيلسوف في المدينة وفي تنظيمها؛ فالفارابي وابن رشد خاصة أَعطوْا إضاءة جديدة لهذا المفهوم الذي يتناغم فيه المعنى القضائي للمدينة بالمعنى الفلسفي. ففي كتاب "الملة" شرَّع الفارابي عمل "الحاكم الأول"، فهو لم يقل شارع/مشَرِّع بل "رئيس" وهو الذي يحكمُ انطلاقا من مبادئ، وتحليله يتوافق مع تجربة الفكر، فهو لم يعطِ أي مثالٍ من التاريخ بل التحليل المفاهيمي والتجربة الفكرية لا تزال تقول ب"التشريع"، "الشريعة" والتقدير، فعمل المُشرِع هو تقدير الأعمال في المدينة. ويبقى تطبيق القوانين نسبيا، وهذا شيء منطقي، تبعا لنسبية القانون ذاته والذي يمكن تغييره. فالتشريع يتوقفُ على الخوض في أعمال مدينة معينة وفي زمن معين وليس جميع المدن. ثم يأتي الخليفة بعد الحاكم الأول، وقد يُتم ما بدأه الحاكم أو قد يحكم بتقدير آخر حسب زمنه. فتغيير القانون وتكييفه مع السياق وامتثاله لزمنه ومكان تشريعه كلها خصائص لعمل الحاكمين الذين يأتون بعده، فالإخلاص للحاكم الأول يعني وضع القوانين في سياقها. فالهدف هو الفهم وليس التقليد، الإبداع والخلق وليس تقليداً لتقليدٍ كما يقول مونتيني؛ وهذا التعليل استعمله كالليلي(Gallilé) عندما كان يدافع عن نفسه في طرحه لذي اكتشفه: "لو رجع أرسطو بيننا الآن لاسْتَحسن عملي، لأن العناصر الجديدة المكتسبة بطرق الملاحظة عن طريق التليسكوب تدعو إلى سؤال براديغم مركزية الأرض". ويذكر الفارابي هنا حول "جمهورية أفلاطون" إلى وجود علامة نقص وخلل في المدن الإنسانية الذي هو وجود الطب والتشريع، فهناك شيء ما مريض في الجسم البشري وفي جسم المدينة والذي يتوجب علاجه – وهي مثالية أفلاطون بأن في المدينة الفاضلة لا حاجة للقاضي والطبيب -؛ كما يشير الفارابي إلى عمل القاضي وهو اجتهاده وقدرته على تأويل القانون الذي يستوجب معرفة حكيمة للغة المشرع الأول/الحاكم الأول واحترام صارم لأحكامه، فتأويل القانون يلزم كفاءة لغوية وأنتروبولوجية. الدين.. بين التاريخ والمفهوم يبحث هذا الجزء، سؤال التعارض بين الدين والفلسفة، وهو السؤال الذي أجج الفلاسفة كثيرا، وأخذ أبعادا كثيرة: لا يمكن اعتبار الفلسفة متعارضة مع الدين؛ لا يمكن اعتبار الفلاسفة في تعارض مع بعضهم البعض؛ يمكن نهج مبدأ اللاتعارض من أجل البحث عن الحقيقة. بعدما يتم تقديم الحجج لصالح هذا الطرح أو ذاك، فلا يمكن القول بامتثال الواحد للآخر، لكن يمكن طرح سؤال الأسبقية، هل الدين هو السابق الأول؟ هل الفلسفة هي الأولى؟ فالميتافيزيقا تعتبر الفلسفة الأولى، فهل هي سابقة على الدين؟ عبقرية الفارابي عالجت هذه النقطة بمنهج فريد، فقد استبدل المنهج القطعي بالمنهج القائم على الافتراض والذي يحلل النتائج الضرورية انطلاقا من الشروط الممكنة؛ فهو ينطلق من ثقافة ومن تاريخ محددين، بل من ترابط سلسلة المفاهيم. فقد استنتج بجلاء ووضوح واقع ظهور الإسلام الموحى به إلى أرض العرب في القرن السابع الميلادي، قبل الفلسفة اليونانية في القرن التاسع الميلادي، وهذا الحضور وإن كان مرتبطا بأسبقية نسبية، فهو تاريخيا محدد ومحتمل. ففي كتابه "الجزئيات"، بين الفارابي بأن الدين ينطلق من فلسفة مثالية، لكن مع هجرته من مكان إلى آخر، فقد تُلُقيَ على أنه دين مرتبط بالأشياء المخمنة/ التأملية، وهذا ما ينتج عنه بأن الكثير يعارضه بالفلسفة التي يُنظر إليها كغاصبة لمعرفة ما هو موجود بواسطة الدين. فأتباع الفلسفة، كانوا يتحفظون في اختلاطهم بأتباع الدين، فهم لا يتعارضون مع الدين نفسه بل مع الإيمان الذي يمارسه أتباع الدين، الشيء الذي جعل الدين في تعارض مع الفلسفة. فالدين، حينما يحل دون فلسفة، قد يجعل من الصور التي يحملها مفاهيم، غير أن الفارابي يبين أن هذه الصور ليست لها استقلاليتها الذاتية بنفسها، فقيمتها الدلالية تَأتي من الأشياء التأملية التي أقامتها الفلسفة بالبرهان. فحينما تَحُل الفلسفة ببلد قد أقام فيه الإسلام قبلاً، قد يقع غالبا، وهذا طارئ حقيقي متصل بأمزجة الناس وطبيعة الحكم، بأنها تستقبل بشكل سَيِّئ. فهذا التعارض بين الدين والفلسفة هو نتاج تاريخي طارئٍ، فداخل الدين، يمكن التمييز بين ما ينتمي للتاريخ وما ينتمي للمفهوم. فمفهوم الدين، في صيغته النظرية، هو كوسمولوجيا (علم تكون العالم)، فنحن ننفي اليوم الدور الملحمي/الكوني للدين حينما نوجزه في تنظيم للأفعال الإنسانية يعني في الأنتروبولوجيا (علم الإنسان)؛ لكنه تعريف للآراء حسب الفارابي، بالمعنى الذي يجعله يضمُ قضايا نظرية تلزم تسلسل الكائنات الروحية وبداية العالم. فإذا كانت دراسة الفيزياء أو الميتافيزيقا يمكن تعليلها بالنص القرآني كما يدعي ابن رشد، فهذا يتطلب أن يتضمن النص الأول المواضعات النسبية للمبدأ الأول لبداية تكون العالم. فنحن لسنا بصدد الأسبقية التاريخية، بل يتعلق الأمر بالأسبقية المنطقية؛ أو بالأسبقية الأسطورية التاريخية والتي بها يتعلق شعب ما بأصوله. ومن هذا المنطلق، فمكان الإنسان في هذه المدينة يعتمد على مكانه في هذا العالم. فالفارابي لم يتكلمْ عن الإسلام خاصة، بل الملة بصفة عامة، فليس الإنسان هو الأول بل الله، العالم، ثم الأشياء المرتبة فيه والإنسان يأخذ فيها مكانه ويضعه أولا في علاقته بالكون، فعمل الفارابي يتأسس على فهمٍ وتغيرٍ أنتروبولوجي. فإذا كان فن الحكم ينطلق من إدارة الذات نحو إدارة وحكم الآخرين وذلك بتبَني مفهوم الحصافة والرأي والحيطة والحذر؛ فإن أعمال الفقهاء وبعض الفلاسفة العرب تدعو أكثر إلى تتبع استراتيجية في استعمال كلمة "حكمة"، فهذه الاستراتيجية تدعو إلى إعطاء مصطلح الشريعة ألوانا معرفيةً متعددةً، فليس للشريعة إذن أي مناعةٍ داخليةٍ؛ فالدين يتدخل كلحظة مفاهيمية من خلال نقله من سياق إلى آخر فإنه يتغير بتغيرات المكان والزمان. التزام إزاء الحقيقة: بين تاريخ الحقيقة وازدواجيتها الثقة الموضوعة في العقل بكونه واهبا للنور والحقيقة هو ما يفسر الأشياء بحقيقتها دون النظر إن كانت هذه الحقيقة من طرف جماعة أو أخرى. فبالتزامنا لهذا المبدأ الكوني للحقيقة كما انسجامها وتناسقها يمكن التعرف عليها من بين ممارسات مختلفة للفكر دينية كانت أم فلسفية، سواء جاءت من اليونان أو من العرب. فالفيلسوف الكندي، انطلق منذ البداية في رسالته "في الفلسفة الأولى" بالنظر إلى الميتافيزيقا في مناظراته من أجل البحث عن الحقيقةِ وإصابة الحقِ ويرى أنها علم الحقيقة الأولى. والرأي الأساس الذي قدَّمه أنه من جهة لا يمكن التفريق بين البحث عن الحقيقة وتاريخ الحقيقة، ومن جهة أخرى أن أي أمة أو إنسان لا يمكنه كسب الحقيقة لوحده ومن هنا ضرورة الاعتراف بجزئية اكتسابها. وتكلم الكندي عن الحقيقي بأنه أفق منظم، يحرك الأحكام الإنسانية، فاكتساب الحقيقة أيا كانت هي مهمة رئيسية، لكنها تصبح مهمة صعبة المنال بأشكال السلطة والتي تجعل من نفسها مختصة بالحقيقة بشكل حصري. فالفيلسوف الكندي استهدف علماء الدين الذين يدعون امتلاك الحقيقة والذين يرفضون على الميتافيزيقا الحق في جعلها موضوعا للتفكير في الخطاب الديني. فالكلام عن الواحد، الملك أو السلطان، يكون من طرف الفلاسفة كما من الأنبياء الصادقين على حد سواءٍ، هم الذين علَّمونا التعرف على ألوهية الله الواحد وعبادته؛ والفلسفة بهذا تعتبر كعلم الأشياء في حقيقتها. فالاستمرارية التاريخية بين الأنبياء والفلاسفة تجيب عن منهج الدفاع وتعليل التفكير الفلسفي، فليس هناك وظيفة مزدوجة بين الدين والفلسفة وليس هناك تعارض بينهما. فيجب أن نعلِّل دراستنا وتعليقنا على أرسطو حول قدم الكون دون الرجوع إلى شكوكه. فالكندي أو غيره من الفلاسفة اللاحقين عليه، عمِلوا باستماتة من أجل جعل الفلسفة كحكمة، لكنها حكمة لا تجترُ ما يقوله اليونانيون القدامى، فهو يرفض الخوض في علوم الدين أو العلوم الرياضية انطلاقا من خطاب الإقناع. فهناك بعدٌ بين الإيمان والقناعة الأخلاقية وبين الإيمان الذي يرتكز البرهان، فالميتافيزيقا والرياضيات تستوجب البرهان. فلم ينظر الفيلسوف فيمن يعتمد في تأمله على الإدراك أو يتجه نحو الإقناع أو الشهادات المنقولة أو عن الإحساس والشعور، لكن حسبه لا يمكن البحث عن الإقناع في العلوم الرياضية أو العلوم الدينية بالتمثل والشعور ولا في العلوم الطبيعية بتجميع الأفكار أو في البلاغة بالبرهان ولا في المبادئ البرهانية بالتعليل. فالمدركات والصور والشهادات والمحسوسات، هذا المجال كله هو مجال الخطابة والخطاب ولا يرقى إلى المفاهيم والعلل والبراهين. فالبلاغة تصبح سفسطة عند الإقناع المتعجل، فإن من يقنع من أول وهلة فهو في تعارضٍ مع المبادئ الأولى للبرهان؛ ففي رسائله حول العقل، كان الفارابي ينتقد بشكل مباشر الذين يخلطون بين هذين المبدأين: الإقناع الفوري والبرهان الفوري، مثل كلامهم: هذا ما يقره العقل.. هذا ما ينْفيه العقل.. هذا ما يتفق مع العقل.. منذ أول وهلة. وابن رشد يُقِر صحة المعرفة والعلم مقدمةً على أصل هذا العلم نفسه، فحينما ننحر أضحية، لا نسأل عن أصل السكين بل هل ينحر جيدا.. سؤال المنهج وليس الأصل. وبالعودة إلى الكندي، حينما يؤكد على التمييز بين المنهج في ما يخص كليات الإنسان حول المدركات الحسية، فالعقل يرى الأشياء على حقيقتها، والمدركات العقلية تصبح كونية، ومن خلاله يتوضَّح المبدأ الأول في كل برهان و المبادئ الأولى لأسس العلم. فلكل برهان تعليل إلى ما لا نهاية، فالعقل لا يدرك أي شيء آخر دون أن يعرف أولاً الأسس والمبادئ الأولى لأي علمٍ. فابن رشد أعطى ثلاثة أشكال لمعرفة الحقيقة، البلاغية والجدلية والبرهانية، ومن أجل ذلك استثمر معرفته الفلسفية والدينية واللغوية الفائقة في إثبات أن الدين لا يقتصر على الدعوة إلى دراسة الفلسفة فحسب، بل إنه يوجبها أيضا، ذلك لأن دعوته إلى التفكير في الموجودات كما يتبين ذلك بوضوح في القرآن تستلزم استخدام الآلة المثلى للتفكير السليم، وهي المنطق، الذي اتخذ أسمى أشكاله في القياس العقلي. فقضية المعرفتين، أو المعرفة المزدوجة الفلسفية والدينية، حسب "ليو ستروس" Léo Strauss، الذي نفى إشكالية الازدواجية المعرفية لدى ابن رشد واستبدلها بأشكال أخرى للخوض في الحقيقة لدى هذا الفيلسوف. فهذه القضية، يقول ستروس، لم تظهر حصرا مع ابن رشد أو مع سلفه. وخلافا لذلك نجد في الفلسفة الإسلامية استعمالا كبيرا نسبيا للتمييز بين معرفة الظاهر المبنية على الحجة البلاغية ومعرفة الظواهر المبنية على الحجج البرهانية. وعليه يمكن اعتبار ابن رشد والفلاسفة العرب قد دافعوا كل من جانبه عن المعرفة الفلسفية والمعرفة الدينية.