على مدى عقود، رهن التيار الإسلامي أتباعه بمواقف ومقولات، فحنّط أدمغتهم بها حتى لا تفكر بمنطق مغاير أو تفكك المنطق الداخلي لتلك المواقف والمقولات. هذا الارتهان جر كوارث خطيرة على الشعوب عموما والعربية/الإسلامية على وجه التحديد. مقولات جعلت من القضية الفلسطينية مفتاح تقدم الشعوب وتحررها، ثم جعلت من العداء لإسرائيل الشرط الأساس والوحيد لانتزاع حق الفلسطينيين في إقامة دولته المستقلة. لقد جرب الفلسطينيون ومعهم كل العرب العداء والحروب ضد إسرائيل؛ كما ظلوا متمترسين خلف "اللاءات الثلاث" منذ 1967، ولم يجنوا غير فقدان مزيد من أرض فلسطين واستنبات عشرات المستوطنات. فمنطق العداء والعناد حوّل القضية الفلسطينية إلى أصل تجاري تتنافس وتتصارع لاحتكاره أنظمة ومنظمات وحركات وأحزاب، لا هي فلسطينية ولا هي مجاورة لفلسطين. اتجاه انتهى إلى الإفلاس بعد عقود من الاتجار بالقضية الفلسطينية، ورغم ذلك لا يزال يعاند الواقعَ والتاريخَ والسياسةَ، وينصب نفسه وصيا على الفلسطينيين كما لو أنهم قاصرون ومحجورون. لقد جعلوا من القضية الفلسطينية "قميص عثمان"، كل طرف يستغله، ليس للدفاع عن فلسطين وشعب فلسطين، ولكن لمآرب أخرى. فعلها الخميني من قبل، لما أعلن أن "الطريق إلى القدس تمر عبر بغداد"، وتفعلها اليوم تركيا وقطر وكل الأطراف الداعمة للتنظيمات الإرهابية عبر تخريب الدول العربية وتقتيل شعوبها باسم تحرير فلسطين ومحاربة الصهيونية. فالتنظيمات الإرهابية المدعومة من هذه الدول تقتل شعوب موزمبيق والكونغو والصومال ونيجيريا ومالي والكاميرون، وتنفذ العمليات الإرهابية في فرنسا وبلجيكا وإسبانيا وسويسرا والشيشان وبريطانيا باسم تحرير فلسطين، وقد تركوا جميعهم أرض فلسطين ولم يجرؤ أحد منهم ومن داعميهم على التوجه إلى هناك، أرض فلسطين، ليفي بما يرفعه من شعارات ومنها "بالروح بالدم نفديك يا فلسطين". لن يستطيع أحد من الإسلاميين أو التكفيريين أو داعميهم أن يُقنع الشعب الفلسطيني وبقية الشعوب العربية/الإسلامية بأن مئات من الشباب الفلسطيني، تركوا أرضهم ووطنهم تحت الاحتلال الإسرائيلي، والتحقوا بالتنظيمات الإرهابية في العراق وسوريا لتخريب دولها وسبي نسائها وقتل ذكورها دفاعا عن فلسطين وقتالا في سبيل تحريرها من المغتصبين. فماذا قدّم كل هؤلاء الذين يتاجرون بالقضية الفلسطينية ويرفضون كل الحلول والتسويات الممكنة ولو من باب "ما لا يُخذ كله لا يُترك جله"، ويصرون على خدمة المخططات الإسرائيلية من حيث يدرون أو لا يدرون؟ لقد جرّب دعاة المقاطعة هذا الخيار، فلم يزد القضية الفلسطينية إلا تعقيدا وضياعا. وسيكون من باب الحكمة تغيير الوسائل وزاوية النظر إلى القضية التي لن تخسر أكثر مما خسرته من قبل. فلو بقيت مصر ترفع "اللاءات الثلاث" وضحية مقولات ومواقف العداء والعناد، لظلت سيناء تحت السيطرة الإسرائيلية. فمكسب تحرير الأرض والاعتراف الدولي بالسيادة عليها يعلو كل المكاسب. وهذا الذي يتغافل عنه دعاة المقاطعة، بحيث يرهنون استكمال الوحدة الترابية أو تحقيق المصالح العليا للأوطان بتحرير فلسطين. إن المغالطة التي يروجه لها دعاة المقاطعة تقوم على اتهام الدول التي أقامت علاقات سياسية/دبلوماسية مع إسرائيل بالتخلي عن القضية الفلسطينية و"خيانتها". والأمر ليس كذلك؛ إذ خدمة القضية الفلسطينية لا تقتضي بالضرورة المقاطعة والعداء لإسرائيل. ولنأخذ مواقف عدد من الدول الغربية المناصرة للفلسطينيين، فهي تقيم علاقات مع إسرائيل وفي نفس الوقت لم تتخل عن الفلسطينيين. وبحكم أن المغرب يوجد في نفس الوضعية، فمن الظلم اتهامه "بالخيانة" دون سند أو دليل؛ علما أن جلالة الملك لا يفتأ يؤكد على وفاء المغرب بكل التزاماته نحو الفلسطينيين، وأنه يضع القضية الفلسطينية في نفس المستوى مع القضية الوطنية الأولى (الصحراء المغربية). فالمغرب لم يعلن أنه نفض يديه من القضية الفلسطينية أو أعطى الفلسطينيين ظهره، بل دعمه ثابت ومتواصل. وقد لا يبالغ المرء إذا قال لو أمّن الفلسطينيون المغرب على قضيتهم، وهم العارفون بحجم الدعم الذي يقدمه، لتوقفت معاناتهم وتحقق حلمهم في إقامة وطن مستقل لهم. لكن الأطراف المتاجرة بالقضية الفلسطينية لن تترك للفلسطينيين حرية اتخاذ القرار؛ والدليل نسفهم لاتفاقية أوسلو التي كانت آخر فرصة تنهي الصراع الفلسطيني /الإسرائيلي. اليوم، وقد أعاد المغرب ربط علاقاته مع إسرائيل في ظل حكومة يقودها حزب العدالة والتنمية المعروف بالمناهضة الشديد لكل تطبيع أو ربط أية علاقة سياسية أو دبلوماسية أو تجارية مع إسرائيل؛ بل إن أمينه العام هو من وقع الإعلان المشترك بين المغرب وأمريكا وإسرائيل، ستكون مناسبة للبيجيديين للاستفادة من الدروس، ومنها أن مصالح الشعوب مُقدَّمَة على المبادئ والعقائد. وأمامنا الشعوب الأوروبية التي وحّدتها مصالحها رغم ما بينها من اختلافات في العقائد؛ بينما الشعوب العربية/الإسلامية لم تزدها العقائد والمذاهب غير الاقتتال والصراع والتطاحن لدرجة أن خطر إيران مثلا على دول الخليج أشد مما يمكن أن تمثله إسرائيل. وكذلك خطر تركيا على العراق وسوريا وليبيا لم يبلغه خطر إسرائيل. بل إن التطبيع مع إسرائيل سيكون أجدى وأفيد لدول المنطقة من أية علاقة مع إيران أو تركيا. اسألوا الإمارات العربية المتحدة التي تحتل إيران جزرها، أو اليمن الذي تمده إيران بأدوات الحوثيين، أو مصر التي تتآمر تركيا على أمنها ووحدة ترابها، أو البحرين التي تتربص بها إيران. والمغرب ليس استثناء، فقد ظل هدفا لمخططات إيران لولا قوة الدولة ويقظة الأجهزة الأمنية. لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين. لعله درس آخر قد يستخلصه البيجيديون.