شوارع القاهرة مكتظة بالراجلين والسيارات، وجدرانها تعج بالشعارات وعلى قمصان العديد من الشباب الذين يملئون الشوارع ويتجمعون في مواعيد معلومة في ميدان التحرير كتبت عبارة تلخص كل المرحلة "أنا بتنفس حرية"... هذه حصيلة السنتين الأخيرتين بتلخيص كبير... وأنا أتجول في ميدان التحرير استرعت انتباهي مسألتان: خيمة متميزة تحمل اسم "خيمة ليه" ثم سرعة تشكل التجمعات وتفرقها كأنها سحب تتجمع وتتفرق بحسب حركة الريح. كل شيء يقال هنا: تطورات الوضع والأخبار الواردة في الجرائد وما يتناقله الشارع. شباب يافع ذوو نظرات حادة، شابات أنيقات أكنَّ محجبات أم غير محجبات. بل إن الأناقة بادية اكثر على المحجبات منهن، كأن في ذلك استردادا ضمنيا لبعض ما يخفيه الحجاب من جاذبية. أما "خيمة ليه" فهي ملئى بالأسئلة المكتوبة على الملصقات، من البسيط حتى المعقد في جدول المصطلحات السياسية الجديد، المرافق للفوران المصري اليوم. "بازت" كلمة لم أكن أعرف معناها. سائق التاكسي القبطي الشاب يسألني من أي بلد أكون، وحين أجيبه أنا مغربي، يرد حالا: "خيرة الناس" وخيرة الناس هذه، للأمانة، كانت جواب كل مصري سأل نفس السؤال. أساله وهو يعيدني إلى الفندق على وادي النيل عن حال البلد فيجيب بالكلمة إياها: "بازت". ويمكن ترجمتها بالمغربية كالتالي "خسرات الوقت"... كل من سألته، بدون استثناء، كان له نفس الجواب. تشعر وأنت تستمع إلى الناس "الغلابة" بالصدمة الكبيرة التي كانت من نصيبهم. أكيد أن المناضلين والمثقفين والساسة الفضلاء كان لهم توجس مبكر من "صعود الموجة الإسلاموية" لكن عموم الشعب لم يعر كبير اهتمام للأمر، فالإسلامويون نالوا نصيبهم هم كذلك من القمع في السابق، فلماذا لا نصوت من أجلهم، خاصة وأن تشبثهم بالاسلام عنصر اطمئنان؟ المثير في الأمر هو السرعة التي يستيقظ بها الرأي العام اليوم من الغفلة. إنه أصبح يدرك أكثر من أي وقت مضى أن الديمقراطية ليست مجرد نمط اقتراع أو حملة انتخابية تؤدي إلى تأليه الفائز فيها، بل هي قيم أساسا. هتلر نفسه - يقول مرافقي – ألم يحكم بصناديق الاقتراع؟ "لا للإعلان الدستوري"، "يانجيب حقهم يا نموت زيهم"، "لا لحكم المرشد" شعارات على الجدران والناس لا يتوقفون عن الغدو والرواح. هذا الصباح فضلت الذهاب إلى ميدان التحرير مشيا على الأقدام. زحمة على الأرصفة وأنا أقترب من شارع طلعت حرب. المحلات تفتح أبوابها وليس هناك تزاحم على أبوابها. والزبناء قلائل، ما عدا في مكتبة مدبولي تقابلها مكتبة الشروق. أثمان الكتب مرتفعة نسبة لمتوسط الأجور، لكن المكتبات لها روادها. على صفحات الجرائد تطالعني العناوين بالمانشيت أبرزها: "استمرار الغضب في بور سعيد"، "كيف تقتلنا المرونة" مقال لعلاء الأسواني ، يبدؤه بحكاية متخيلة يبرز بها عملية الاحتيال الاخوانية الجارية اليوم في مصر على مصر، لكي يخلص للحديث عن أخطار المرونة الزائدة ونتائجها الوخيمة في تاريخ مصر الحديث. أما إبراهيم عيسى فيعنون افتتاحية "التحرير " ب"كذابو المشروع الإسلامي" ويهاجم الإخوانيين المصريين بلا هوادة ويصل – هو الأدرى بهم - إلى حد نعتهم بالأفظاظ الذين يسمون أنفسهم وعاظا والجهلة الذين يسمون أنفسهم علماء... أما جمال الغيطاني فيكتب مقالا مطولا عن "التصوف وروح مصر"، يذكر فيه على وجه الخصوص قدم المجتمع المصري واستمراره وكيف حاول المصريون إبقاء المضمون المصري القديم حيا على مر الأزمان والأديان والأنظمة، قبل أن يذكر دور وقيمة متصوفة مغاربة سكنوا مصر وبينهم سيدي عبد الرحمن البدوي/القرن السابع الهجري وعبد الرحيم القنائي كصوفي عظيم بسط ولايته على صعيد مصر كله. في هذا الخضم وخلال يومين متتابعين، تحدثت الجرائد وبعض الشائعات عن احتمال تدخل الجيش في الحياة السياسية من جديد. نتجاذب أطراف الحديث في الموضوع والروائي المصري البارز سعيد الكفراوي يأخذني إلى متحف القاهرة بخطوات كلها شباب. اشترى التذكرة وودعني أمام الباب على أن نلتقي مساء. دخلت المتحف وتجولت خلال ما يزيد عن ساعتين وانتبهت إلى تماثيل الفراعنة وأنا أقف أمامها لا كما رأيتها في السينما أو المجلات. رأيت كيف تجلس الملكة سواء بسواء إلى جانب الملك بدون فرق تماما منذ 5000 سنة. تذكرت كلمات الكفراوي قبل أن أدخل المتحف: لا نريد تدخل الجيش بتاتا. ليتركوا القوى المدنية تواجه الارتداد الاسلاموي. نحن كفيلون بهم. المرحلة الناصرية، نعرف جميعا حصيلتها القمعية. ألم تقرأ كتاب "الأوردي" لسعد زهران؟ تبسمت وأنا أتذكر السنوات السوداء في المغرب، وحين ذهبت أودع ميدان التحرير، توقفت عند الفتاة غزالة واقتنيت منها "بينز "بثلاثة جنيهات عليه صورة عبد الناصر مع ذلك، وعندما طلبت من التاجر الشاب أن يأخذ لي صورة في ميدان التحرير رجوته أن يأخذ معي صورة عبد الناصر في البعيد... دخلنا باحة الأزهر وقت صلاة المغرب. أيكون نسيم المساء الرقيق أم ثقل القرون وتعاقب الأجيال هو ما أضفى على الموقف جلالا خاصا؟ شعرت بالامتنان للأيادي التي بنت الجامع على مر السنين. في المتجر المحاذي لميدان التحرير، قالت المرأة الخمسينية ذات العينين الخضراوين اللتان تشعان حياة من وراء الحجاب الأسود الذي يغطي كامل وجهها: لقد صدمنا الإخوان وخذلونا. لا أظن أن الأمر سيعمر طويلا... استمعت بانتباه خاص إلى هذه المرأة المتحجبة وتذكرت ما قرأته للينين يوما ما عن السرعة التي تتحرك بها الأمور والوعي خلال مراحل التحولات المجتمعية... عدت أدراجي ومررت للمرة العشرين وسط ساحة طلعت حرب ووقفت أتفرس في وجه المرأة الجالسة إلى جانب تفريشة الكتب القديمة منذ الصباح. لا زالت حيث تركتها متكئة على جدار واطئ. حييتها فردت التحية وتعرفت بسرعة عليَ أنا المغربي الذي اشترى منها في الصباح كتابا قديما عن أفضال التفاح. ابتسامة سوزان القبطية، بائعة الكتب القديمة في ميدان طلعت حرب، لا أنساها. دخلنا مرة أخرى إلى مكتبة مدبولي. طلبت كتبا وطلب الكفراوي كتاب "الأوردي" وأعطاني إياه. قضيت الليلة أقرأه ودمعت عيناي مرات ومرات. كتاب مفجع عن السجناء السياسيين خلال الستينات، تحت حكم الضباط الأحرار... أفهم أكثر سلوك المصريين وارتيابهم اليوم. أفهم إصرارهم على ألا يلدغوا مرة أخرى. يقولون: لا لحكم الجيش، وقد عرفوا جيدا لماذا. ومعهم الحق. ويقولون لا للحكم باسم احتكار الإسلام، وهم الآن يعرفون لماذا. ومعهم الحق. يقولون جهارا اليوم: نعم للدولة المدنية، نعم للوعي المدني. نعم للديمقراطية كقيم أولا ثم كمؤسسات، ثم بعد ذلك كمساطر أو أنماط اقتراع إن أردت، من باب تحصيل الحاصل... فعلا لقد تعرت الحيلة الاسلاموية ولن تنطلي على المصريين. تعرت الحيلة الإخوانية بسرعة لم يتصورها أحد، زاد الأمرَ دمُ شكري بلعيد المهدور في تونس نصاعة وفصاحة... وأنا أعود للفندق دارت في ذهني أفكار كثيرة. ربما نكون نحن في المغرب الاقصى مدينين لجيراننا بكوننا نستفيد مما يقع عندهم، فيكونون قد أدوا عنا ثمن التجربة المريرة كاملا، ونستفيد منها نحن بأقل التكاليف... أحضر نفسي كي أغادر القاهرة صباح اليوم الموالي، أودع الشوارع في بداية الليل وأقرأ على أبواب محلات بيع الملابس القديمة عبارة ترافق الأثمان المثبتة على الملابس، فتلخص الأمر كله اليوم في مصر: "ما فيش كلام"، وهو ما يمكن ترجمته إلى العربي الفصيح: لا مجال للمساومة...