أصبحت جماعة العدل والإحسان، برأي الكثيرين، مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالعمل من خلال حزب سياسي، وبالمشاركة المباشرة في اللعبة السياسية عبر الانتخابات التشريعية والجماعية. غدا هذا المطلب ملحا لعدة أسباب : • أولا : جماعة العدل والإحسان فاعل أساسي في المشهد السياسي وإن كان ذلك من خارج ''المؤسسات''، فهي أكبر تنظيم في المغرب من حيث أعضائها والمتعاطفين معها، تتميز بتنظيم محكم وانضباط المنتسبين إليها. • ثانيا : للجماعة منظومة فكرية كاملة تؤطر أطروحاتها في مجالات التربية والتنظيم والتغيير والحكم، فهي ملاذ فكري وأخلاقي للكثيرين، وهي قوة اقتراحية لم يستفد منها المغرب بعد، وهي خزان لطاقات هائلة تنتظر أن يفسح لها المجال. • ثالثا : أبانت الجماعة عن نضج كبير في مواقفها التي تجمع بين قوة الفكرة ونبذ العنف، بين استهجان الأفعال وحفظ إنسانية الفاعل بل وفضله، بين انتقاد الوضع القائم واحترام القانون. • رابعا : تؤمن الجماعة بأن لا مخرج للمغرب إلا بتضافر جهود كل الغيورين عليه، وتدعو إلى ميثاق جامع على مرأى ومسمع من الشعب، الكلمة الفصل فيه للشعب. المطلب واحد، هو دخول الجماعة المستعصية على التطويع سباق الانتخابات وحسابات المقاعد والمصالح. لكن دوافع المطالبين مختلفة. منهم من يريد فعلا أن يستفيد المغرب من طاقات العدل والإحسان الكثيرة والناضجة، فقد اجتمع لها رصيد ما يربو عن ثلاثين سنة. ومنهم من يريد أن يستدرجها للقفص ليقص أجنحتها باعتبارها المعارضة الحقيقية التي يحسب لها حساب. ومنهم من يروج للفكرة دون أن يعي ما يقول، وذلك بطلب من المخزن الذي يستطلع من حين لآخر رأي الجماعة والأطراف السياسية في الموضوع. من حيث المبدأ، لا ترفض الجماعة فكرة تأسيس حزب، لكنها تنبه في الوقت نفسه إلى أن الإشكالية في المغرب لا تقف عند الترخيص القانوني، بل تتعداه إلى الترخيص السياسي. فالمخزن لا يمكن أن يرخص لحزب إن لم يكن لديه ''ضمانات'' بأنه لن يكون مصدر متاعب، وبأنه سيظل طيعا، وبأنه لن يتعدى الخطوط الحمراء. وهو الأمر الذي ترى الجماعة أنه إملاء لشروط سالبة لحرية الرأي والفعل ولكرامة الأحزاب، فكيف يمكن للشعب أن يعلق آماله على حزب دخل اللعبة بعد تقديم تلك الضمانات/التنازلات ؟ بعد رحيل مرشد الجماعة الأستاذ عبد السلام ياسين، طفا مطلب ''حزب'' العدل والإحسان إلى الواجهة من جديد. لكن لا شيء يوحي بأن هذا المطلب قريب التحقق، فلا النظام تخلى عن موقفه المتشدد من الجماعة، ولا الجماعة مستعدة لاستجداء ''حزب'' تملى عليه الشروط وترسم له الخطوط سلفا. ففي الأيام التي تلت رحيل المرشد ما يكفي من الإشارات المتبادلة التي تفيد أن لا تغيير حصل في مواقف الجانبين. فمن جانبه، لم يحد المخزن عن سيرته الأولى وأكد استمرار الحصار الإعلامي والديني. إعلاميا، كان المخزن سباقا إلى تأكيد موقفه المبدئي الرافض لجماعة العدل والإحسان من خلال نعي الأستاذ عبد السلام ياسين في الإعلام الرسمي ممثلا في وكالة المغرب العربي للأنباء، والقناتين الأولى والثانية. وصف الكثيرون النعي بالجاف وربما القاسي. من حيث الشكل، جاء النعي في سبع وعشرين كلمة، وهو من أقصر النعايا التي بثتها وسائل الإعلام الرسمي. من حيث المضمون، وصف النعي جماعة العدل والإحسان بغير المرخص لها، ولم يتضمن ترحما على الراحل باعتباره مسلما، ولم يواكبه إظهار أي من صوره. بالإضافة إلى ذلك، غضت وسائل الإعلام تلك الطرف عن الجنازة المهيبة. فاكتفت وكالة المغرب العربي للأنباء بقصاصة من ست وستين كلمة، بثتها القناة الأولى كاملة، ولم تبث القناة الثانية إلا نصفها. ناهيك عن الربورتاج الذي أغفل الآلاف التي شيعت الراحل وأظهر باب مقبرة الشهداء التي لم تتسع للمشيعيين فارغة إلا من بعض المارة. دينيا، لم يرق المخزن إلى مستوى ''خصمه'' حتى بعد موته. رغم مواقفه القوية غير المداهنة، كان الراحل عبد السلام ياسين قد خاطب الملك الحسن الثاني رحمه الله في ''رسالة الإسلام أو الطوفان'' والملك محمدا السادس في ''مذكرة إلى من يهمه الأمر'' بلطف واحترام كبيرين. وهو الذي لم يأذن بالدعاء على من ظلمه وظلم الجماعة، وحتى حينما كانت الجماعة تدعو لم تدع تلك الأدعية التي تنحو منحى الانتقام والإهلاك، بل نحت منحى رفع الظلم فقط، ولطالما ترحم عبد السلام ياسين على الحسن الثاني، ودعى أصحابه ليفعلوا. مناسبة هذا الكلام أن خطيب الجمعة لم يشر إلى الميت ولم يدع له في دعاء ختم خطبة الجمعة، وذلك سلوك لا يقبله إسلام الرحمة. ثم أمعن المخزن في حصاره الديني لما رفض الترخيص بحجز قبر لزوجة الراحل التي أحبت أن تدفن جوار زوجها بعد وفاتها. ولمعرفة مدى تغير مواقف الجماعة بعد رحيل مرشدها العام، لابد من تتبع خرجاتها الإعلامية. لا نقف عند الجنازة وحفلات التأبين، إذ لا يسقيم أن نحملها حمولة سياسية في ظل هيبة الموت وقيمة المتوفى. لكن أولى الإشارات القوية صدرت عن الجماعة خلال الندوة الصحفية التي نظمتها بمناسبة انعقاد مجلس شوراها. لقد دعا بيان مجلس الشورى إلى التأسيس لمغرب ''الاختيار الحر للحاكمين ومحاسبتهم، والتداول الحقيقي على الحكم، والفصل بين السلط'' وإلى ''استثمار أجواء الربيع العربي'' و ''رسم خارطة طريق لمناهضة الاستبداد''. وحمل تصريح الأمين العام الجديد للجماعة نفس الإشارات. ففي أول ظهور إعلامي له بعد انتخابه أمينا عاما للجماعة، بعث الأستاذ محمد عبادي إشارات قوية معبرة عن موقف الجماعة من النظام. فتحدث بشكل غير مباشر عن بغض الظلم والطغيان والفساد والاستبداد، ودعا الفضلاء والغيورين على البلد إلى صياغة ميثاق جامع هدفه مقاومة الظلم والفساد وبناء مغرب الكرامة والحرية. لكن الإشارة الأقوى هي التي ختم بها كلامه حين تحدث عن الخلافة فقال ''نريد الحكم الراشد'' وإن اختلفت الأشكال والمسميات. وفي ذلك إشارة إلى حكم الخلفاء الراشدين الذين كانت فترة حكمهم ''خلافة على منهاج النبوة''، وهي الخلافة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعودتها بعد الملك العاض والملك الجبري. لقد وضعت كلمة حزب بين مزدوجتين لأنها لا توحي بنفس المعنى، بل هي حمالة معنيين اثنين. فالسلطة تريد حزبا على المقاس، يأتمر بأمرها ويقف عند نواهيها، بل ويكون بوقا للدعاية لها وصدى لشعاراتها. في المقابل لا تقنع العدل والإحسان بحزب تحت الوصاية مهمته التصفيق وتزيين المشهد السياسي دون أن تكون له القدرة على التغيير والبناء.