رحل عنا الأستاذ عبد السلام ياسين إلى دار البقاء. وبموته تنتهي مرحلة مفصلية في تاريخ جماعة "العدل والإحسان"، يمكن أن نسميها بمرحلة التأسيس والبناء، لكن نهاية المؤسس والمرشد لا تعني نهاية الجماعة بالتأكيد، لأن الرصيد التنظيمي الذي راكمه " العدلاويون" أكبر وأقوى من أن يتأثر بوفاة ياسين أو غيره... غير أن رحيل "الإمام"، كما يحلو لأتباعه أن ينادوه، لابد أن يرخي بظلاله على مستقبل الجماعة. فهل سيشهد هذا التنظيم تغييرا على مستوى أدبياته الفكرية ومواقفه السياسية؟. وما طبيعة العلاقة المنتظرة بين العدل والإحسان والدولة المغربية؟. من المؤكد أن القيادة المقبلة للجماعة لن تحيد كثيرا عن التراث الفكري للمرشد الراحل. ذلك أن شخص عبد السلام ياسين ظل حاضرا باستمرار في وجدان وعقول الأتباع الذين لا يناقشون تصورات الزعيم وقراراته، حتى ولو كانت مجرد أضغاث أحلام... لقد تميز هذا الرجل بشخصية كاريزمية جعلته يختزل الجماعة في شخصه. ويبدو أن ماضيه التصوفي أهله ليتبوأ مكانة عالية في قلوب أتباعه، رغم أن غالبيتهم العظمى لم يطلعوا على فكره. واستطاع أن يجعل من "العدل والإحسان" زاوية تخضع للعلاقة ذاتها التي تربط بين الشيخ والمريد، لكنها زاوية " سياسية" هذه المرة. وبدخول الجماعة غمار السياسة تحققت نقلة نوعية في مسار الإسلام الحركي ببلادنا. حيث أصبح عبد السلام ياسين يوصف بأنه المعارض الأول للملكية في المغرب. لذلك، وارتباطا بسؤال مصير الجماعة، سيظل المرشد الراحل "الغائب الحاضر" في أي مشروع مستقبلي. في آخر ظهور إعلامي للأستاذ عبد السلام ياسين بتاريخ 10 يوليوز 2011، دعا أنصاره إلى " الزحف على الملك العاض". وهذا يعني أنه كان يهيئ للخطوة التالية التي تعرف في أدبيات الجماعة ب"الخلافة الراشدة" التي تأتي بعد ما يسمى ب" الحكم الجبري"، ذلك أن لسان حال المرشد كان يردد باستمرار أن الخلافة قادمة لا محالة. لكنه لم يحدد طبيعة هذا الزحف، أو لنقل إنه لم يحدد كيفية القيام به، مع أن المفهوم يرتبط بالقوة أكثر من أية طريقة أخرى. لذلك فإن استخدام لفظ "الزحف" من طرف المرشد في هذا المقام لا يبدو منسجما مع أفكار الجماعة وسلوكات أتباعها التي تؤكد على سلميتها... غير أن ما يثير الإنتباه بعد وفاة الشيخ ياسين هو مضمون وصيته تحديدا. وإذا كانت الوصية في الثقافة الإسلامية تكتسي أهمية خاصة، ويحرص المستوصون على تنفيذها والعمل بها، فإن عبد السلام ياسين اختار أن يتوجه في وصيته تلك إلى أفراد الجماعة وإلى كل " مؤمن أو مؤمنة يسمعانها مسجلة أو يقرآنها مسطورة"، لذلك بدت الوصية (المسجلة منذ عشر سنوات) خالية من أي نفس سياسي، وقد ضمنها الشيخ مجموعة من النصائح والإرشادات على هدي سنة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. فما الذي سيحتفظ به أتباع الجماعة؟. هل سيستجيبون لياسين السياسي أم لياسين الدعوي؟. الواقع أن الجماعة أصبحت مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالحسم في طبيعة الحضور الذي ترتضيه لنفسها في المشهد المغربي. فعلى المستوى السياسي لا تتوفر الجماعة على أي برنامج واضح المعالم لشكل الدولة التي تبشر بها المغاربة. والتشبث بأوهام الخلافة على طريقة " المهدي المنتظر" لن يغير شيئا على مستوى علاقة العدل والإحسان بالدولة. إذ لا يبدو في الأفق ما يشير لأي تغيير في الموقف الرسمي، وهذا ما بدا واضحا على الأقل من طريقة تعاطي القصر والحكومة مع جنازة الشيخ عبد السلام ياسين. لذلك فإن المستقبل السياسي لهذا التنظيم المحظور يتوقف على مدى استعداد القيادة الجديدة لإعادة النظر في مواقفها وأساليب اشتغالها. وبغير انخراطها في "مراجعة فكرية" ذاتية سيظل الطموح السياسي للجماعة محدودا وغير مؤثر على المدى المنظور. وستظل لعبة شد الحبل مستمرة بين التنظيم والمخزن. لذلك سيبقى منطق الدعوة أكثر تعبيرا عن حال الجماعة. وذلك ما يبدو أن عبد السلام ياسين نفسه كان مقتنعا به استنادا إلى منطوق وصيته التي حرص على تقديمها بلغة الوعظ والإٍرشاد والنصح التي تميز أدبيات الخطاب الدعوي بشكل عام. ولأن الوصية هي آخر عهد المرء بالدنيا، فإن إخراجها بالشكل الذي اختاره الشيخ الراحل لا يخلو من دلالات وإشارات على أتباع الجماعة التقاطها في المرحلة المقبلة.