"إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وأن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم " عبد الرحمان بن خلدون مند سنتين كان لي شرف مجالسة عالم الاجتماع التونسي الدكتور محمود الذوادي بمقصف كلية الحقوق بسطات، كان ذلك بمناسبة محاضرة له حول الثورة التونسية ،أثناء دردشتي معه سألته ما إذا كانت الثورة التونسية حققت أهدافها المرجوة ،كنت أنتظر منه إجابة كبقية الإجابات التي اعتدت تلقيها من الكثيرين بأن يقول لي مثلا أن الثورة أطاحت ببنعلي وبالنظام البوليسي القمعي وبالتالي فقد حققت أهدافها ،لكن الدكتور الذوادي فاجأني بإجابته عندما قال لي إن الثورة لم تحقق شيئا إذا لم نسترجع استقلالنا اللغوي وذلك بأن ننتج العلوم بلغتنا العربية ،وأننا لن نتقدم ما لم نحقق سيادة لغوية ونقطع مع التبعية للآخر . ليست اللغة مجرد كلام، ولكنها وعاء حامل للهوية والثقافة وتاريخ الأمة ،وكذلك عنوان للسيادة والاستقلال. لقد كانت إزاحة اللغة العربية من المجال العام والإدارة هدفا ذا أولوية على أجندة المستعمر الفرنسي لذلك عمل على إقصائها وتهميشها، في مقابل التمكين للغته الاستعمارية من أجل إنتاج نخبة على مقاسه تدين له بالولاء في كل شيء بعد أن يتم شحنها بالقيم الفرنسية ، الشيء الذي خلق نوعا من الصراع داخل المجتمع الواحد بين دعاة المحافظة الذين حوصروا في القرويين وبقية المساجد وبين نخبة متغربة منحت كل الإمكانيات لتقوم بدور التلميذ النجيب في المحافظة على الوجود الاستعماري وحماية مصالحه بعد أن قام المغاربة البسطاء في الجبال والقرى بالتضحية وتقديم الشهداء لطرد المستعمر . أحلام كبيرة راودت الحركة الوطنية بعد الاستقلال كان من بينها محاولة مغربة الأطر وتعريب التعليم والإدارة ،هذه النوايا لم تتحول إلى إجراءات عملية بعد أن وظف اللوبي الفرانكفوني كل إمكانياته لإجهاضها وقتلها في المهد ،فاتضح بعد ذلك أن الأطر المغربية في حاجة إلى مغربة وأن مشروع تعريب التعليم وضعت له خطوطا حمراء لا ينبغي تجاوزها إطلاقا. اليوم تعيش اللغة العربية حالة من الاغتراب بين أهلها ،فمن طبيعة المغلوب أن يقلد الغالب في كل شيء بتعبير بن خلدون وبحسب الدكتور محمود الذوادي فنحن نعيش ما يسميه الاستقواء باللغة الأجنبية إذ أن كثيرا من المقلدين لا يجدون راحة نفسية حين يتحدثون بلغتهم الأم لذلك لا غرابة أن تنتشر "العرنسية" في المغرب وهي تعبر بشكل أو بآخر عن ضعف الثقة بالذات والاستلاب الجماعي الذي طال أغلب شرائح ومكونات المجتمع وعلى رأسها فئة المثقفين التي لا يحلوا لها الحديث إلا بلغة موليير . إنه لأمر مستغرب أن يستمر احتقار لغة الضاد من قبل بني جلدتنا في الوقت الذي تسعى فيه جميع الدول إلى حماية لغتها الوطنية واعتبارها عنوانا للسيادة ففي فرنسا لا يمكنك أن تحصل على الجنسية هناك إلا بعد التأكد من كونك أصبحت تتقن لغة موليير كما ينبغي ونفس الأمر ينطبق على إنجلترا وألمانيا ،كما أن رئيس فرنسا الأسبق جاك شيراك عبر عن مخاوفه من الغزو اللغوي الذي أصبحت تمثله اللغة الإنجليزية والتي تحمل معها كل القيم الأمريكية الاستهلاكية حيت دعا إلى إقامة تحالف ضدها من قبل كل الدول التي تعتمد لغات من أصل لاتيني إذ قال لدى افتتاحه لمنتدى حول "تحديات العولمة "بجامعة السوربون " إنه في مواجهة قوة نظام مهيمن ،يحق للآخرين حشد القوى لإرساء المساواة في الفرص وسماع أصواتهم " ودعا شيراك الناطقين بالإطالية من الإتحاد اللاتيني إلى الانضمام إلى منظمة الفرانكفونية ،ومجموعة الدول الناطقة بالبرتغالية ،والمنظمتين الناطقتين بالإسبانية للدول الأمريكية الأيبيرية والقمة الإيبرية الأمريكية ،وأضاف انه منى خلال منظماتنا الخمس ،تصبح هناك 79دولة وحكومة من كل القارات تمثل 2,1مليار رجل ،وامرأة يريدون الإبقاء على لغاتهم". هذا في فرنسا أما عندنا فلا تستحيي النخبة أن تتحدث بالفرنسية رغم وجود أدوات الترجمة وغيرها . لقد كان الدستور صريحا حول اللغة العربية حينما أشار في الفصل الخامس منه أنه"تظل اللغة العربية اللغة الرسمية للدولة ،كما أكد كذلك على ضرورة إحداث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية مهمته على وجه الخصوص حماية وتنمية اللغتين العربية والأمازيغية . الحقيقة أنه رغم ملاحظاتنا على هذا الفصل الذي لا يلبي في الحقيقة كل ما كان منتظرا حيت اكتفى بالنص على ضرورة حماية اللغة العربية وتنميتها في الوقت الذي كنا ننتظر أن ينص صراحة على أن تعمل الدولة على دعم البحث العلمي التقني وغيره باللغة العربية ،لكن للأسف الشديد نجد نفس الفصل يؤكد على ضرورة تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا باعتبارها وسائل للتواصل والتفاعل مع مجتمع المعرفة ،مما يعد ضمنيا إقصاء للغة العربية من مجتمع المعرفة . بالرغم من هذا نعتقد أن على الحكومة تنزيل مقتضيات الدستور وحماية اللغة العربية وتعريب الحياة العامة كبداية أولية للتصالح مع لغة الضاد و التحرر من عقدة التفوق الأجنبي التي سيطرت لعقود . نشير أخيرا أن المدخل لإعادة الاعتبار للغة العربية ليس قانونيا فحسب بل هو ثقافيا بالأساس وذلك بأن تعمل كل النخب الغيورة وجمعيات المجتمع المدني على تحبيب اللغة العربية للنشء واعتبارها مصدر فخر للهوية الوطنية . [email protected]