في ذكرى مولده: تذكير بأهم حقوق المصطفى على أمته إن حقوق النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم علينا كثيرة، وواجباتِه علينا عظيمة، لكنّ أعظمَ تلك الحقوق نلخصها في الأمور الآتية: 1- معرفته عليه السلام حق المعرفة: طلب معرفة أي شخص شرط في تمثله وتصور حقيقته وصفاته، لأن الجهل بالأشياء يفقد الإنسان تصورها وإدراك كنهها، ولذلك قيل: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره". ومن هنا كان واجبا على المسلمين أن يتعرفوا على نبيهم الذي أوجب الله عليهم محبته وطاعته واتباعه، فالمحبة شرطها العلم والمعرفة، ولا تصح المحبة مع الجهل بحقيقة المحبوب. وطلب معرفته صلى الله عليه وآله وسلم يتطلب الرجوع إلى الكتب التي اهتمت بجنابه الشريف، وجل علوم المسلمين لم تظهر إلا خدمة لكل ما يتصل بجنابه؛ فهؤلاء المحدثون اعتنوا بأقواله وأفعاله ونسبتها إليه؛ نافين عنه انتحال المبطلين، ومثبتين ما يصح منها نسبة إليه عليه السلام، وكتبهم مشهورة على رأسها موطأ مالك وصحيح البخاري وصحيح مسلم والكتب الستة. وهؤلاء الفقهاء همهم الأكبر استنباط الأحكام الشرعية العملية من الوحيين: القرآن والسنة اللذان جاء بهما النبي الأكرم، وكتبهم أشهر من أن تذكر، مثل مدونة ابن القاسم في المذهب المالكي، والمبسوط لمحمد بن الحسن الشيباني في المذهب الحنفي، والأم للإمام الشافعي في المذهب الشافعي، والمغني لابن قدامة المقدسي في الذهب الحنبلي، وغير ذلك. وهؤلاء أهل السير والمغازي كان هدفهم تصنيف كتب خاصة في تاريخ النبي وأحواله، فعرفت كتبهم بالسير والمغازي، مثل سيرة ابن اسحاق بعناية ابن هشام، ومغازي الواقدي. وهناك كتب متفرعة عن كتب السيرة وأخص منها، وهي كتب الشمائل التي تهتم بصفة أخص بأخلاق النبي وصفاته الكمالية وما يتصل بذلك من حقوقه الواجبة على أمته، مثل كتاب الشمائل المحمدية للترمذي، والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض. فهذه فنون وعلوم مختلفة التخصص متشعبة المشارب، ولكنها متفقة جميعها في العناية بجناب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ حفظا وتفهيما وضبطا وتقريبا. 2- محبته عليه السلام حق المحبة: الهدف الأول والأعظم من وجوب معرفة مقام النبي وفضائله وشمائله هو محبته، والمحبة قوة نفسية، بمقتضاها يفعل الإنسان الخير ويكون مستعدا لبذل الغالي والنفيس من أجل من يحب. وجلُّ تصرفات البشر مؤطرةٌ بقوتين: الحب والكره. وقولنا إن الحب أعظمُ الأهداف من معرفة فضل النبي وقدره صلى الله عليه وآله وسلم، ليس ادعاءً، وإنما الحب هو المحرك الأول لكل اتباع والتزام، إذ لا يعقل أن يتّبع المرءُ أحدا ويستنَّ بسنته ونهجه وهو لا يحبه ولا يقدره ولا يُجِلّه. فالحب هو الذي يخاطر المرء من أجله ويضحي بالغالي والنفيس في سبيل رضا محبوبه، ومن لم يكن يستحق هذه التضحيات لا يسمى محبوبا في عرف المحبين. وفي هذا المقام يقول القائل وهو يحث المؤمن على زيارة قبر المصطفى: زر من هويت وإن شطت بك الدار *** وحال مَن دونه حُجُب وأستار لا يمنعنّك بعده عن زيارته *** إن المحب لمن يهوى زوار ومحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقدمة على كل محبوب، ولن يصح حبُّ المسلمِ له حتى يكون النبي أحبَّ إليه من جميع الخلق، بل أحب إليه حتى من النفس التي بين جوانحه. فقد روى البخاري وغيره من طريق «عَبْد اللَّهِ بْن هِشَامٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ"، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الآنَ يَا عُمَرُ"». أي: الآن قد اكتملت محبتك. ومحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقصودة لذاتها، فهي في حد ذاتها طاعة وقربة من القربات، فالمحبة إذا كانت شديدةً تنفع المرءَ بشرط أن لا يأتي ما حرم الله وأن لا يفرط في الواجبات. فقد روى البخاري أيضا وغيره «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلاَةٍ وَلاَ صَوْمٍ وَلاَ صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"». 3- طاعته عليه السلام: إن طاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر لازم عن محبته، إذ التمسكُ بمنهجه ولزومُ طاعته لا يكونان إلا عن محبته، فالعلاقة بين المحبة والطاعة هي علاقة تلازمية، لا تصح إحداهما بدون الأخرى أبدا. والدليل على ذلك قوله تعالى في محكم التنزيل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} [آل عمران:31]، فقد رتب سبحانه وتعالى الاتباعَ والطاعة على المحبة، وجعل من صحة المحبة: الطاعة، ورد على من ادعى الحب وهو يخالف محبوبه في الاتباع. وعلى هذا، فإن أي شخص ادعى المحبة وهو يخالف المنهج النبوي السني في هديه وسننه ومقاصده فهو في الحقيقة مبتدع وليس متبعا، ومخالف وليس موافقا، ومدعيا تعوزه البينة والحجة، لأن "البنة على المدعي"، وهي الاتباع هنا. وعن هذا الانفصال في التصور والعمل يقول القائل: تعصي الإلهَ وأنت تظهر حبه *** هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع ومن علامة حب المؤمن لنبيه وطاعته له أنه لا يُقَدِّم أحدا أو شيئا أمام أمره عليه السلام، قال تعال:{يا أيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} [الحجرات: 1]. ومن علامة محبته صلى الله عليه وسلم كثرة ذكره؛ لأنه «من أحب شيئا أكثر من ذكره»، كما قال الإمام القاضي عياض. 4- تعظيم أمره وتوقيره عليه السلام: وهذا التوقير والتعظيم قدر زائد عن الطاعة والإيمان، إذ أن بعض الصحابة كان مؤمنا بالنبي عليه السلام ومحبا له، ولكن كان يتصرف معه أحيانا بعفوية كما يتصرف مع باقي الناس، فجاء القرآن يرشد المسلمين بأن يحتاطوا في تصرفاتهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل حذرهم من إغضابه والتقدم أمامه ولو في القول. ومن الآيات الدالة على هذا المعنى قوله تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتومنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه} [الفتح:9]، وقال سبحانه: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} [النور:63]، وقال أيضا: {يا أيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيء ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات:2]، وهذه الآية الأخيرة ظاهرة التشديد في الاحتياط في مخاطبة النبي والتعامل معه حتى أنها حذرت من إحباط العمل دون أن يشعر المؤمن بذلك. ولما كانت مخاطبة النبي تحفها هذه الرهبة والجلال والوقار، علم أن مقامه مقام جلال ووقار. وكان سبب نزول هذه الآية أن أبا بكر وعمر تناقاشا في إمرة بني تميم في حضور النبي صلى الله عليه وسلم، فارتفعت أصواتهما عند النبي، فنزل قوله تعال:{يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} الآية. فكان عمر بعد هذا إذا حدث النبيَّ صلى الله عليه وسلم بحديثٍ لم يسمعه حتى يستفهمه. حرصا منه رضي الله عنه على امتثال أمر هذه الآية. ونحن الآن لا نختلف عن زمن النبوة في وجوب توقير النبي وعدم رفع الصوت عليه، فقد أجمعت الأمة على أن الرد إلى قوله عليه السلام في حياته مثلُه مثلُ الرد إلى أقواله وسيرته وأفعاله بعد مماته؛ لأن التوقير كما يكون لشخصه الشريف، يكون أيضا لكلامه وسنته. ومن صور التوقير له عليه السلام: انقطاع المجادلة والمماراة والكلام عند سماع كلامه وحديثه، لأن العبرة في كلامه وتوجيهاته وما يخرج من فيه، وليس العبرة بشخصه الشريف فقط. 5- تعزيره عليه السلام: وقد ورد في الآية السابقة الأمرُ بتعزير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتعزير في اللغة يرِد بمعاني كثيرةٍ منها: النصرة، فيكون المطلوب منا أن ننصر النبي عليه السلام عندما يقتضي الأمر ذلك. وقد كثر الكلام عن وجوب نصرة النبي في زماننا هذا، وهذا أمر حسن، بل مطلوب من كل مسلم شرعا أن ينصر نبيه بالقدر الذي يستطيعه ويتقنه، لكنْ ينبغي لنا أن نركز على الأمور الحقيقية في النصرة، وأُولى تلك المظاهر: التمسك بشريعته وسنته، والعملُ على نشر سيرته وتوجيهاته، ثم بعد ذلك الدفاع عن جنابه الشريف ضد من ينتقص منه دفاعا يكون أساسه العلم، وأركانه الدفع بالتي هي أحسن، وسقفه الصفح والعفو. وهذا في الأصل توجيه من القرآن الكريم لنا نحن المسلمين؛ فقد جاء في كتاب الله تعالى في أواخر سورة آل عمران: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور} [آل عمران:186]، فالله تعالى في هذه الآية الكريمة يخبرنا أننا سوف نتلقى الأذى الكثيرَ من اليهود والنصارى (أهل الكتاب)، ومن باقي الأمم الأخرى غير المسلة، ويحثنا في المقابل على الصبر والتقوى؛ لأن ذلك من عزم الأمور وأحكمها. وإذا نظرنا إلى تاريخ الأمة الإسلامية نجد أنه كلما أوذي النبي أو الإسلام فصبَر المسلمون على الأذى وقابلوا السيئة بالحسنة إلا وازداد الإسلام انتشارا وقوة، وبالعكس؛ كلما قابل المسلمون السيئة بمثلها إلا وكثرت الأحقاد والمكائد على الإسلام وداره، ووقع النفور من المسلمين. فديننا قوته الحقيقية ليست في المواجهة بل في الاحتواء، وليست في المنابذة بل في التقارب، وليست في التنافر ولكن في التحاور والبلاغ. لأن الإسلام هو دين جميع البشر، فوجب على حامل لوائه أن يوصله لجميع البشر بصورة محببة وجميلة مع الصبر على تحمل المشاق، والتضحيات في سبيل إيصال هذه الصورة الصحيحة. 6- الصلاة والسلام عليه وعلى آله: من الأمور التي أوجبها الشرع علينا نحن المسلمين ان نصلي ونسلم على النبي وآله، هذا الأمر يجب عند ذكر اسمه عليه السلام خاصة. فقد جاء في الحديث: «قال لي جبرائيل عليه السلام... رغم أنف عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت: آمين»، الحديث. والصلاة على النبي ينبغي أن تُقرن بالصلاة على آله، لأنها الصلاة الكاملة، وقد علمنا عليه الصلاة والسلام كيف نصلي ونسلم عليه. فقد سأل الصحابة رسول الله بقولهم: «يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإن الله قد علمنا كيف نسلم عليكم؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد"». فهذه هي الصلاة التي ينبغي أن نتقرب بها إلى الله، وهي الصلاة الكاملة. وق فرط الكثير من المسلمين اليوم في هذه الصلاة واقتصر عليها فقط في التشهد الأخير من الصلوات. فينبغي دائما أن نقرن اسم النبي مع آله في الصلاة والسلام عليه ولا نكتفي بالصلاة عليه فقط. 7- محبة آل بيته والتودد إليهم: من حقوق النبي على أمته التودد لقرابته ومحبتهم والدعاء لهم، فقد أوصانا القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} [الشورى:23]. ومن علامة نفاق الإنسان أن يبغض آل البيت وقرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الود والاحترام مشروط طبعا باتباع سنة النبي وبالصلاح والاستقامة، أما إذا كان مدعي النسب الشريف غير صالح فلا نقدر ولا نحترم فيه إلا جهة نسبه فقط. وصاحب النسب الشريف ليس كغيره؛ إذ في معصيته إثم مضاعف؛ الأول إثم المعصية، والثاني إثم عدم احترام النسب الشريف. وقد خص الله تعالى أهل بيت النبي بأحكام خاصة أخرى، أشهرها تخصيصهم بسهم من أسهم الغنيمة في الحرب، قال تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى...} الآية، [الأنفال:41] وختاما أقول: إن حقوق المصطفى عليه السلام تكاد لا تنحصر، خاصة إذا علمنا أن فيها الواجب والمندوب، وعلى حسب منزلة المؤمن وقوة إيمانه تزداد في حقه هذه الحقوق وتعظم في عينه هذه الواجبات. وكفاه شرفا وتعظيما قل ربه تعالى فيه: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم:1]