قال تعالى في كتابه العزيز:} لقد جاءكم رسول من اَنفُسكم عزيز عليه ما عنتُّم، حريص عليكم، بالمومنين رؤوف رحيم{ التوبة: 129 يستقبل المسلمون في هذه الأيام من ربيع الأول ذكرى المولد النبوي الشريف -على صاحبه وآل بيته أفضل الصلاة وأجل التسليم- وهي مناسبة جليلة تربط الحاضر بالماضي وتُوحد شتات الأمة الإسلامية المقسمة إلى طوائف ودول وقوميات، توحدهم جميعا نحو ميلاد النور الذي أضاءت له السماء والأرض، فسطع نوره على الكون كله، مُعلنا عن ختْم الأنوار وتوحيد الأسرار ونسخ كل الشرائع والملل والنحل. وذكرى ميلاد خير الأنام مناسبة مهمة للتذكير بمجموعة من الأمور، وعلى رأس ذلك أمران: - الأمر الأول: وجوب معرفة قدر النبي العظيم وفضله وسيرته؛ لأن المعرفة شرط في المحبة وشرط في الاتباع والتسنن بسنته. - الأمر الثاني وجوب معرفة حقوقه -عليه الصلاة والسلام- على أمته وما فرضه الله علينا تجاهه. وفي هذه السطور المختصرة سوف أقف عند حقوقه -عليه الصلاة والسلام- على المسلمين، لأن معرفة ذلك في وقتنا أصبح أولى وأوْكد، نظرا لغفلة الكثير من المسلمين عن معرفة بعض هذه الواجبات الشرعية، ونظرا لقلة الكلام عن هذه الحقوق النبوية في مثل هذه المناسبات مقارنة بالكلام عن فضله وصفاته وسيرته وشمائله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه أهم الحقوق الواجبة على الأمة تجاه نبيّها صلى الله عليه وآله وسلم: 1 - حقُّه عليه السلام في وجوب محبته: إن الهدف الأول والأعظمَ من معرفة مقام النبي وفضائله وشمائله هو الوصول إلى محبته. والمحبة قوة نفسيّة, بمقتضاها يفعل الإنسان الخير ويكون مستعدا لبذل الغالي والنفيس من أجل من يحب. وجلُّ تصرفات البشر مؤطرةٌ بقوتين: الحب والكره؛ فالحب يقود إلى الاتباع والإحسان إلى المحبوب، والكُره يقود إلى البغض والإساءة إلى المكروه. وقولنا إن الحب أعظمُ الأهداف من معرفة فضل النبي وقدره ليس ادعاءً، وإنما الحب هو المحرك الأول لكل اتباع والتزام, إذ لا يُعقل أن يتّبع المرءُ أحدا ويستنَّ بسنته ونهجه وهو لا يحبه ولا يقدره ولا يُجِلّه. والحب هو الذي يخاطر المرء من أجله ويضحي بالغالي والنفيس في سبيل رضا محبوبه. ومن لا يستحق هذه التضحيات لا يسمى محبوبا في عرف المحبين، وفي هذا يقول القائل وهو يحُثّ المؤمن على محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وزيارة قبره: زُرْ من هَويتَ وإن شَطَّت بك الدارُ وحال مَن دونه حُجُب وأستار لا يمنعنَّك بعدٌ من زيارته إن المُحب لمن يهواه زوَّار ومحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقدمة على كل محبة, ولن يصح حبُّ المسلمِ له حتى يكون النبي أحبَّ إليه من جميع الخلق, بل أحب إليه حتى من النفس التي بين جوانحه. فقد روى الإمام البخاري وغيره من طريق «عبد الله بن هشام، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"، أي: الآن قد اكتملت محبتك يا عمر. ومحبة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مقصودة لذاتها, فهي في حد ذاتها طاعة وقربة من القربات, فالمحبة إذا كانت شديدةً تنفع المرء، بشرط أن يصاحبها اتباع مشروع. فقد روى الإمام البخاري وغيره «عن أنس بن مالك: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "ما أعددت لها؟" قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: "أنت مع من أحببت"». 2 - حقه عليه السلام في وجوب طاعته: إن طاعة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر لازم عن محبته, إذ التمسكُ بمنهجه ولزومُ طاعته لا يكونان إلا عن محبته, فالعلاقة بين المحبة والطاعة علاقة تلازمية, لا تصح إحداهما بدون الأخرى أبدا. والدليل على ذلك قوله تعالى في محكم التنزيل:} قل اِن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم {آل عمران: 31، فقد رتب سبحانه وتعالى المحبة على الاتباع والطاعة, وجعل من شرط صحة المحبة: الطاعة, وردّ على من ادّعى الحب وهو يخالف محبوبه في الاتباع. وعلى هذا, فإن أي شخص ادعى المحبة وهو يخالف المنهج النبوي في هدْيه وسننه ومقاصده فهو في الحقيقة مبتدع وليس متّبِعا, ومخالف وليس موافقا. وعن هذا الانفصال في التصور والعمل يقول القائل: تعصي الإلهَ وأنت تظهر حبه هذا لعمري في الفِعال بديعُ لو كان حبُّك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيعُ ومن علامة حب المؤمن لنبيه وطاعته له -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه لا يُقَدِّم أحدا أو شيئا أمام أمره عليه السلام, فقد قال تعال: }يا أيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم { الحجرات: 1. 3 - حقه عليه السلام في وجوب ذكره والصلاة والسلام عليه: ومن علامة محبته صلى الله عليه وسلم كثرة ذكره, لأنه «من أحب شيئا أكثر من ذكره» كما قال الإمام القاضي عياض في "الشفاء". وقد فرض الله على المسلمين ذكره حيث أمرهم بالصلاة عليه والتسليم في قوله تعالى: }إن الله وملائكته يصلون على النبيء يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما{ الأحزاب: 56، وقد أجمعت المذاهب الفقهية على وجوب الصلاة والسلام عليه فرضا مرة في العمر على الأقل، واختلفوا في تكرار الصلاة والسلام عليه -صلى الله عليه وآله وسلم- وخاصة في التشهد في الصلاة؛ هل هو على سبيل الوجوب أم على سبيل الندب؟ والمختار عند الجمهور أن الصلاة عليه في الصلاة سنة مؤكدة وليس فرضا إلا مرة واحدة في العمر للآية السابقة، وذهبت بعض المذاهب منهم الحنابلة إلى أن الصلاة عليه في الصلاة فرض، ومن تركها بطلت صلاته. يُنظر على سبيل المثال: "مختصر الخرقي" و"المغني" لابن قدامة 4 - حقه في وجوب تعظيم أمره وتوقيره: وهذا التوقير والتعظيم قدر زائد على الطاعة, وسببه أن بعض الصحابة كان مؤمنا بالنبي عليه السلام ومحبا له ولكن كان يتصرف معه أحيانا بعفويّة كما يتصرف مع باقي الناس, فجاء القرآن يأمر المسلمين بأن يحتاطوا في تصرفاتهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم, بل حذرهم من إغضابه والتقدم أمامه ولو في القول، وأوجب عليهم تعظيمه وتوقيره. وهذا التعظيم والتوقير لقدره عليه السلام ورد في القرآن الكريم بعدة صور في عدة سور منها: - قوله تعالى: }إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتومنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه{ الفتح: 8-9 - قوله سبحانه: }لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا{ النور: 61 - قوله عز وجل: }يا أيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيء ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون{ الحجرات: 2 وهذه الآية الأخيرة ظاهرة التشديد على الاحتياط في مخاطبة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-والتعامل معه، حتى إنها حذرت من إحباط عمل المسلم دون أن يشعر بذلك. ولما كانت مخاطبة النبي تحفها هذه الرهبة والجلال والوقار؛ عُلم أن مقامه مقام جلال ووقار. وكان سبب نزول هذه الآية الأخيرة (كما يذكر المفسرون وعلى رأسهم الإمام الطبري في تفسيره) أن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- تناقاشا في إمْرة بني تميم في حضور النبي صلى الله عليه وسلم، فارتفعت أصواتهما عند النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فنزل قوله تعال: }يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي...{ الآية. فكان عمر بن الخطاب بعد هذا إذا حدّث النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بحديثٍ لم يسمعه حتى يستفهمه، حرصا منه -رضي الله عنه- على امتثال أمر هذه الآية. ونحن الآن لا نختلف عن زمن النبوة في وجوب توقير النبي وعدم رفع الصوت عليه, فقد أجمعت الأمة على أن الردّ إلى قوله -عليه الصلاة والسلام- في حياته مثلُه مثلُ الرد إلى أقواله وسيرته وأفعاله بعد مماته, لأن التوقير كما يكون لشخصه الشريف يكون أيضا لكلامه وسنته. ومن صور التوقير له عليه السلام: انقطاع المجادلة والمماراة والكلام عند سماع كلامه وحديثه, فالعبرة في كلامه وتوجيهاته وما يخرج من فيه, وليس العبرة بشخصه الشريف فقط. 5 - حقه في وجوب تعزيره ونصرته: وقد ورد في آية الحجرات الأمرُ بتعزير النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، والتعزير في اللغة يرِد بمعاني كثيرةٍ منها: النصرة, فيكون المطلوب منا أن ننصر النبي عليه السلام عندما يقتضي الأمر ذلك. وقد كثر الكلام عن وجوب نصرة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في زماننا هذا, وهذا أمر حسن، بل مطلوب من كل مسلم شرعا أن ينصر نبيه بالقدر الذي يستطيعه ويتقنه, لكنْ ينبغي لنا أن نركز على الأمور الحقيقية في النصرة, وأول هذه الأمور: التمسك بشريعته وسنته, والعملُ على نشر سيرته وتوجيهاته, ثم بعد ذلك الدفاع عن جنابه الشريف ضد من ينتقص منه دفاعا يكون أساسه العلم, وأركانه الدفع بالتي هي أحسن, وسقفه الصفح والعفو, وهذا في الأصل توجيه من القرآن الكريم لنا نحن المسلمين, فقد جاء في كتاب الله تعالى: }لتُبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعُن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور{آل عمران: 186، فالله تعالى في هذه الآية الكريمة يخبرنا أننا سوف نتلقى الأذى الكثيرَ من اليهود والنصارى (أهل الكتاب) ومن باقي الأمم الأخرى غير المسلمة, ويحثنا في المقابل على الصبر والتقوى لأن ذلك من عزم الأمور وأحكمها. وإذا نظرنا إلى تاريخ الأمة الإسلامية نجد أنه كلما أوذي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أو انتُقص من الإسلام فصبَر المسلمون على الأذى وقابلوا السيئة بالحسنة؛ إلا وازداد الإسلام انتشارا وقوة, وبالعكس, كلما قابل المسلمون السيئة بمثلها إلا وكثرت الأحقاد والمكائد على الإسلام وداره، ووقع النفور من المسلمين. فديننا قوته الحقيقية ليست في المواجهة بل في الاحتواء, وليست في المنابذة بل في التقارب, وليس في التنافر ولكن في التحاور والبلاغ. لأن الإسلام هو دين جميع البشر, فوجب على حامل لوائه أن يوصله لجميع البشر بصورة محبّبة وجميلة وواضحة مع الصبر على تحمل المشاقّ وتقديم التضحيات في سبيل إيصال هذه الصورة الصحيحة. وختاما أقول: إن حقوق المصطفى عليه السلام تكاد لا تنحصر, خاصة إذا علمنا أن فيها الواجب والمندوب, وعلى حسب منزلة المؤمن وقوة إيمانه تزداد في حقه هذه الحقوق وتعظُم في عينه هذه الواجبات، ومهما أراد المسلم أن يوفّيَ حقه -عليه الصلاة والسلام- ما استطاع إلى ذلك سبيلا، كيف ذلك وقد قال الله تعالى في حقه: }وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم {لقلم: 3-4 فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا، وجعلنا من حُفّاظ حقوقه ومن محبيه.