بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين الحلقة الخامسة: من محاولة الاحتواء إلى محاولة التصفية والإقصاء يستطيع أي محتال أن يستغفل فاقد الذاكرة، فيجعل له أهلا غير أهله، وولدا غير ولده، وماضيا غير ماضيه، ويتخذه آلة صماء أو بهيمة عجماء بين يديه، إلا أن ما بني على باطل لا يثبت أبدا، وأولو العزم من الرجال مهما استُغْفِلوا لا يركنون إلى غفلتهم، ولا بد للحق أن يظهر وينتصر، لأنه حق أولا، ولأن أهل الحق لا يفرطون فيه ثانيا، ومهما حاول النصابون المعاصرون مواصلة عمل سلفهم في استغفال بعض أبناء الحركة الإسلامية فلا بد للوعي أن يستيقظ، ولا بد للرشد أن يُسترد، ولا بد لمحاولات التسخير والترويض أن تفقد مفعولها مهما حاولوا التعتيم والتضليل وتغيير طبيعة الحركة الإسلامية وتفتيت نواتها الصلبة. لقد كانت أولى خطوات النظام في هذا الاتجاه أن دعاني الخطيب إلى بيته بواسطة قريب لي هو الشيخ الفقيه محمد السني الحمداوي الذي كان من أوائل مؤسسي الحركة الوطنية في ثلاثينيات القرن الماضي، ومن الموقعين على وثيقة الاستقلال في 11 يناير سنة 1944، ومن المنفيين في أغبالونكردوس مع الشيخين المختار السوسي والشهيد عبد العزيز بن إدريس، ولأني كنت أعرف الخطيب جيدا في عهد الاستعمار منذ سنة 1952 عندما كان طبيبا عاما في عيادة فوق "كراج العلم" بطريق مديونه، جعلها حزب الاستقلال مجانا رهن إشارته، وكنت شابا في مقتبل العمر وعضوا في إحدى خلايا حزب الاستقلال السرية بدرب الكبير، وأعرف علاقاته وأعماله في عهد الاستقلال فقد اعتذرت عن قبول الدعوة، ورفضتها رفضا باتا، فغضب الشيخ الحمداوي ثم اشتد غضبه عندما صارحته برأيي في الخطيب. ظننت أن هذا الأمر قد انتهى، إلا أن الأخ إبراهيم كمال دعاني بعد بضعة أيام للغذاء في بيته، فلما حضرت وجدت عنده الشيخ الحمداوي، وكان الموضوع عودة إلى نفس الدعوة لمحاولة إقناعي بزيارة الخطيب اتقاء لشره أولا، وعملا على الاستفادة من علاقاته ثانيا، وبعد إلحاح شديد وتوسل بالعلاقة العائلية التي تربطني بالشيخ الحمداوي الذي يعد في مقام الوالد وافقت حياء، وكانت تلك أول خطوة غير موفقة في تاريخ الحركة. من ثم تكررت دعوات الخطيب لي في جلسات حضرها الأخ كمال، وأخرى لم يحضرها لانشغاله بوظيفته في التدريس وترددي أسبوعيا على الرباط لإلقاء محاضرات في مركز تكوين مفتشي التعليم، وعرفني الخطيب في هذه اللقاءات على عمر الأميري وعلى الدكتور توفيق الشاوي وصالح أبو رقيق من الإخوان المسلمين، وعلى رتل من أعوانه الذين يخدمونه في بيته وخارج بيته، وكان ممن يتردد عليه بمبرر استخدامه في الخير كل من الدكتور المهدي بن عبود، والدكتور إدريس الكتاني والشيخ الحمداوي، وكان هو يحاول الاستفادة منهم في مجال التحليل السياسي والفكري نظرا لبساطة ثقافته وضمور علمه في هذا المجال. في إحدى الجلسات سأل الخطيب عن مدى معرفتي بعلال الفاسي رحمه الله تعالى وعن رأيي فيه، وكانت جريدة العلم قد كتبت مقالات تشيد فيها بالحركة الإسلامية الوليدة، وكان الخطيب يحقد عليه ويحسده كثيرا لسابقته في حركة التحرير الوطني وللمكانة التي لديه في قلوب أحرار المغرب، وعلمه وتَرَفُّعِه عن التزلف للسلطة، فأجبت الخطيب مبتسما: "وهل تخفى عليك هذه المعرفة وأنت من أنت؟" فرد:" فعلا لقد بلغني أنك تتصل به"، قلت: "نعم، هو كنز تاريخ للحركة الوطنية، وكنز علم في الدين، ولقد تلقيت عنه سابقا دروسا في أصول الفقه، من هذه الزاوية أنظر إليه". من خلال هذا الحديث فهمت أن الخطيب بلغه آخر لقاء لي بالشيخ علال الفاسي، ليلة سفره الذي توفي فيه، وكان قد اتصل بي هاتفيا ورأى أن أزوره لتوديعه في مكتب حزب الاستقلال بالدارالبيضاء ولما لبيت الدعوة بصحبة الأخ كمال وجدت معه مستشارا للحسن الثاني هو الدكتور إبراهيم الدسوقي أباظة زوج الابنة الكبرى للموسيقار محمد عبد الوهاب ومن قدماء حزب الوفد المصري، فدار بيننا حوار جاد حول الوضع العام في المغرب تدينا وسياسة واقتصادا وتعليما، واقترحت عليه أن يكتب مذكراته فأجابني مازحا: وهل شخت لأكتبها، مازلت شاب القلب أزاحمكم أيها الشباب في جميع المجالات وضحك رحمه الله، وعند توديعه لنا قال: عند عودتي إن شاء الله نواصل الحديث فيما ينفع الأمة. إلا أنه رجع في تابوت بعد أن توفاه الله في الخارج. وفي جلسة أخرى كان معنا فيها الشيخ الحمداوي والدكتور المهدي بنعبود والدكتور إدريس الكتاني وجرى الحديث عن هيمنة التيار الشيوعي على مناهج التعليم، فوجئت بالخطيب يقول:" إن مشكلة التعليم ليس لها حل إلا بتعيين وزير للتعليم له خبرة مهنية وإسلامية يستطيع بها أن ينقذ أبناءنا ويطهر المناهج من الشيوعية، ثم قفز مباشرة ليسأل عمن يصلح لوزارة التعليم في رأينا، وبعد هنيهة وجه إلىَّ السؤال مباشرة: ما رأيك آ سي عبد الكريم؟ من يصلح لهذه المهمة في نظرك؟ فهمت المناورة فألقيت الكرة للدكتور المهدي وقلت: لن تجد خيرا من الدكتور المهدي بنعبود. فرد المهدي بأنه لا يستطيع القيام بهذه المهمة، وأعاد الخطيب السؤال: ومن غير الدكتور المهدي؟ قلت: الدكتور إدريس الكتاني أو الشيخ الحمداوي. فسارع الإثنان إلى الاعتذار بكبر السن وانشغالات أخرى. ثم ضحك الخطيب وعلق: لم يبق لدينا إلا الأخ عبد الكريم، فقلت: مبتسما: عبد الكريم أضعف الخلق عن تحمل هذه المسؤولية، وأشدهم نفورا من الاستوزار. من هذه الجلسة فهمت أن القوم يخططون لفصلي عن الحركة وشغلي بجبنة أتلهى بها لبعض الوقت، لا سيما وقد أشار الخطيب مرة إلى ضرورة تجميع الشباب المتدين والاستفادة منه، وكان يردد دائما في مجال مزاحه منتقدا الملك بقوله: "سيدنا لا يستخدم أحدا إلا إذا قطع رأسه وزرع بين كتفيه "قرعة" – يقطينة-، فإن نبتت "القرعة" وقبلها الجسم استخدمه"، ثم يضحك ويعقب: "حتى أنا شخصيا زرع لي "سيدنا" هذه "القرعة" فنبتت والحمد لله". لقد كان الخطيب يفكر في العمل السياسي بعقلية الجراح الذي يستأصل العضو المريض أو الزائد أو غير المرغوب فيه. وهو ما يفسر جميع تصرفاته في خدمة القصر منذ أول الاستقلال. وعندما نقلت الصحف نبأ ثورة طلاب الفنية العسكرية في مصر فوجئت بمكالمة من عمر بهاء الأميري يرى أن أزوره في بيته في اليوم التالي، فلبيت الدعوة، والتحق بنا الخطيب، وكان الموضوع اقتراحا منهما أن نعلن اعتصاما أمام السفارة المصرية تضامنا مع العسكريين الثوار، فلم أساير رغبتهما، لأنني لا علاقة لي بالأمر ولا أعرف أصحابه ولا أؤيد مثل هذه التصرفات. وفي نفس الاتجاه أخذني الخطيب والأميري لزيارة الشرقاوي صهر الملك مرتين أولاهما في قصره بالرباط والثانية في الصخيرات، ولزيارة حدو الشيكر وزير الداخلية في بيته مرة واحدة، وكنت أساير رغبتهما (الخطيب والأميري) في أن أرافقهما في هذه الزيارت محتفظا بكامل مناعتي العقدية والفكرية ووعيي السياسي، لأني كنت حريصا على معرفة هذه الأوساط وطريقة تفكير أهلها وعملهم وأهدافهم، لاسيما ولم يكن لي عهد بها. وتبين لي من خلال الحوار في هذه الزيارات كلها أنهم يودون معرفة طبيعة أفكاري وتوجهاتي وما أهدف إليه، ونفس الشيء كان يقوم به توفيق الشاوي الذي كان له جواز سفر مغربي مثل الأميري، كلما جاء إلى المغرب، يحرص على لقائي في بيت الأميري ويأخذني بسيارته إلى شالة بجانب البحر ليمطرني بأسئلة استكشافية عن كل ما يتعلق بالدعوة وأهدافها وأساليبها، وكنت أواجه محاولات الجميع هذه بالتجاهل والعفوية. وفي إحدى زياراتي للرباط التقيت بصديق لي من أصدقاء الصبا متخصص في الترجمة بالديوان الملكي هو الأخ حمان الداودي فدعاني لشرب كأس شاي في مكتبه، وهناك فوجئت به يفاتحني في أمر الدعوة بقوله: أرى أنه أسلم لك أن تكتب للملك رسالة ولاء وتخبره بتيارك، ثم تستأذنه في مواصلة العمل أو إيقافه وإلغائه، فأجبته بأنني أفكر في اقتراحه خلال الأيام القادمة، فأبدى استعداده لتبليغ الرسالة إلى الملك إذا كتبتها، وكان هذا الاقتراح منه تعبيرا واضحا عن نهج سائد في تعامل الملك مع جميع التنظيمات السياسية والثقافية والاجتماعية في المغرب، بحيث لا يمكن لأحد اتخاذ أي نشاط جمعوي مهما كان تافها إلا بإذن الملك ورضاه، وإلا كان خارجا على الطاعة يستحق التأديب. إلا أن الأحداث بدأت تتسارع عندما طلب مني الخطيب أن أكتب له تقريرا أدبيا يقدمه في بعض مؤتمرات حزبه فاعتذرت لكوني لا أعرف منهجه ولا مرتكزات ما يهدف إليه، فامتعض ولم يعلق. ثم عندما سألني مرة أثناء التفكير في المسيرة إلى الصحراء عن رأيي في القضية، صارحته بأن الدولة قصرت كثيرا في تحريرها، وأهملت كثيرا شبابها المتحمسين الذين أطالوا طرق أبواب الدولة والأحزاب من أجل مساعدتهم على التحرير فلم يواجهوا إلا بالازدراء. وأن خيرا من ذلك استرداد قلوب اليائسين من أبناء الصحراء، أما قدح زناد المسيرة إن تقررت فلن يكون من نتائجها إلا استفزاز أبناء الصحراء واستنفار كوامن التحدي فيهم. وعندما بدأ التجميع للمسيرة واتصل بي عمر الأميري ليبلغني دعوة الحضور إلى أكادير، زاعما أن الخطيب والشرقاوي والشيكر والبصري ينتظرونني هناك، ثم أكد الخطيب الدعوة هاتفيا كانت قد بلغتني دعوة من الندوة العالمية للشباب الإسلامي في الرياض لحضور اجتماعها الدوري بحكم أنني عضو في أمانتها الدائمة. فترددت بين المشاركة في المسيرة وبين السفر إلى الرياض، لولا أن الشيخ الحمداوي تحركَتْ رَحِمُه لما يحاك لي فجاءني شبه مهرول يحذرني من السفر إلى أكادير لما ينتظرني في الطريق من مخاطر. فعرجت على السفارة السعودية يوم 12 ذي القعدة 1395 هجرية (موافق 15 نوفمبر 1975م تقريبا) وحصلت على تأشيرة مدتها ثلاثة أشهر وسافرت لحضور مؤتمر الندوة بعد حوالي يومين من نفس التاريخ. وكان ذلك مني أشد تمرد على سلطة الملك الحسن الثاني الذي لم يتعود على مثل هذه التصرفات. قد يعجب المرء العادي لسرعة تصديقي ما أخبرني به الشيخ الحمداوي، ولكن إذا عرف أن الشيخ الحمداوي تقشعر نفسه من جرائم القتل مطلقا لأن والده رحمه الله مات مقتولا، وعرف محاولات تصفيتي طيلة اشتغالي بالعمل الإسلامي في المغرب يزول عجبه، ذلك أنني تعرضت عدة مرات لمحاولة التصفية، منها أن مجهولين اثنين هاجماني في بيتي بعد منتصف الليل، وكنت مستيقظا أعد محاضرة لفرع النقابة الوطنية للتعليم بالبرنوصي (أو بورنازيل لا أذكر) بدعوة من الأخ عبد الرحمن العزوزي، فسمعت حركة غير عادية فتحت النافذة إثرها، فإذا أحد المهاجمين يتسور البيت ويقفز إلى حديقته والثاني يقف بسيارته أمام الباب ينتظره، ولما سألت الواقف عن سبب فعلهما أجابني بتحد: سوف تعرف ذلك عندما يصل إليك صاحبي، فما كان مني إلا أن أخرجت بندقية صيد خماسية كان الشيخ عبد اللطيف عدنان رئيس جمعية الصيادين المغاربة قد أهداها إلي، وأطلقت منها في الهواء رصاصة، ففر مسرعا ولم يظهر أثر للثاني الذي تسور البيت. وفي ليلة أخرى كنت في جلسة تربوية بشارع الفداء إلى منتصف الليل، ثم أخذت في نهايتها الأخ الأستاذ جامع بوكنو، لأوصله إلى بيته بشارع الحزام الكبير في أطراف الدارالبيضاء، وكان هو المسؤول عن القطاع العمالي ومنسقه لما يتمتع به من كفاءة علمية وورع وثقافة قانونية، ثم لأواصل السفر بعد ذلك إلى مجموعة من الصيادين ينتظرونني لأن موسم الصيد كان قد افتتح، وهو فرصة للتربية والتذكير، وأمام بيت الأخ جامع بوكنو وجدت سيارة بها أربعة رجال قد أغلقوا الطريق أمامي بالحجارة ووقفوا ينتظرونني بالعصي والسكاكين، ولما هممت بالعودة إلى الخلف حاصرتني سيارة رونو 4 بها خمسة رجال مزدحمين، فاتجهت إليهم بسرعة أوهمهم بأني سوف أصدمهم فانزاحوا من الطريق هلعا، ولما هم أصحاب السيارة الكبيرة بمطاردتي أخرجت البندقية أيضا من نافذة السيارة فهربوا بدورهم، ثم أنزلت الأخ بوكنو أمام بيته وانتظرت إلى أن دخله آمنا، وواصلت طريقي. وعندما رجعت مرة أخرى في فصل الربيع ليلا من مدينة ابن أحمد وكنت في رحلة صيد في ضواحيها صحبة أهلي وأبنائي الصغار وجدت طريق العودة ما بين مديونة والدارالبيضاء مغلقا بالحجارة أيضا وحوله من ينتظر وقوفي فأطلقت عدة رصاصات في الهواء ففروا. كما أن سيارتي التي كنت أتركها في حديقة البيت مكشوفة، كثيرا ما وجدت في الصباح عليها أثر الدماء بسبب محاولة بعض المتسللين فتحها أو تفتيشها أو..، وكان لدي كلب حراسة شديد وصموت من أصل بدوي، يعضهم ولا ينبح عليهم فيفرون تاركين أثر دمائهم على السيارة. لقد صدَّقْتُ حقيقةَ ما أخبرني به الشيخ الحمداوي فتخلفت عن حضور الإعداد للمسيرة في أكادير، وتأكد لي أنني نجوت بنفسي عندما هاتفت زوجتي في أواخر شهر ديسمبر 1975، فوجدت أن رجال الشرطة قد هاجموا البيت وفتشوه وصادروا وثائقي الشخصية ( دفتر الحالة المدنية ورخصة السياقة، ورخصة الصيد وبندقيتي الصيد، وشهاداتي العلمية ودفتر الشيكات المصرفية) وأنهم استنطقوا الزوجة واعتقلوا الابن محمد وأهانوا الوالدة المريضة رحمها الله تعالى عندما ترجتهم ألا يؤذوه، ثم انطلقوا إلى قرية أخوالي فاعتقلوا خالَيَّ محمدا ومصطفى، وحققوا مع غيرهم، ثم إلى الزاوية التاغية مسقط رأسي حيث دار القرآن الكريم، وكنت قد حاولت تنظيمها وتطوير برامج التدريس فيها فحققوا مع طلبتها ثم أمروهم بمغادرتها نهائيا. ثم عادوا إلى البيت ليجددوا استنطاق الوالدة والزوجة ويأمرونهما بأن تخبراني بأن الابن محمدا رهينة عندهم إلى حين عودتي، ولما أخذ أفراد من العائلة والدتي إلى الزاوية للابتعاد بها عن مركز التوتر زارها أيضا رجال الدرك الملكي محققين ومستنطقين، ولما اشتد عليها المرض وأوصى الأطباء بإرسالها إلى أروبا للعلاج رفضت وزارة الداخلية إعطاءها جواز سفر على رغم موافقة اللجنة الطبية في وزارة الصحة على رأي طبيبها المعالج، وعلى رغم رسالة الاستعطاف التي كتبها رئيس تحرير مجلة المجتمع جزاه الله خيرا إلى الملك ونشرها في نفس المجلة، ثم أسلمت رحمها الله الروح إلى بارئها بما شنته عليها السلطة المغربية من إرهاب وتعذيب نفسي وجسدي وعاطفي. ثم بلغني بعد ذلك أن الأخ الأستاذ إبراهيم كمال قد اعتقل وعذب، واعتقلت زوجته رحمها الله وعذبت، وعبث البوليس ببيته ولم يسلم من التمزيق والتكسير والوطء بالأرجل مصحف أو كتاب أو فراش أو آنية، فقمت في مجلتي البلاغ والمجتمع الكويتيتن وبمساعدة الأخ بدر القصار والأخوين عبد الله شبيب ومحمد سرور زين العابدين جزاهم الله خيرا بكشف ما يعانيه وتعانيه أسرته وإثارة حملة صحفية عالمية ناجحة للتضامن معه. كانت هذه الحملة على أسرتي وعلى الأخ الأستاذ كمال وأسرته وعلى الأخوال والأعمام في بادية ابن أحمد وزاويتها القرآنية وتلامذتها بسبب ما لفق لنا من تهمة يراد بها ترويضنا على الانسلاخ من مبادئنا والانخراط فيما تريده لنا الدولة، هي تهمة التحريض على قتل عمر بنجلون، بواسطة جماعة زعمت الأجهزة أنها برئاسة شخص يدعى عبد العزيز النعماني، صرح الملك لعبد الرحيم بوعبيد زعيم الاتحاد الاشتراكي أنه معتقل لدى الشرطة، ولكن حيل بينه وبين أن يقدم للقضاء، وبقي طليقا حرا يتجول في شوارع الدارالبيضاء ثم طالبا في مركز تكوين الأساتذة بمكناس كما نشرت ذلك الصحف المغربية، ثم ظهر في باريس وله أتباع وزعوا بعد حين منشورا يصرحون فيه بأن تنظيم النعماني تنظيم قائم بنفسه منذ سنة 1970، ثم منشورا آخر به أشنع الشتائم المقذعة في حقي وحق الشبيبة، وزعوه في مساجد فرنسا وبلجيكا وهولندا وكان من جملة من قام بتوزيعه في أحد المساجد البلجيكية المسمى عبد القادر بلعيرج زعيم التنظيم المسلح المشهور، ثم بعد حين وزعوا منشورا آخر يدعون فيه أن البوليس المغربي اختطفه من فرنسا، ثم صرح بعض من اعتقل من جماعتهم أنه لم يختطف وإنما قتل في بعض معسكرات التدريب في لبنان، ثم أعلن البوليس المغربي أن آخرين اعتقلوا من جماعته اعترفوا بأن بعض أصهاره قد قتلوه في فرنسا، لكن من دون أن يذكروا موقف البوليس الفرنسى مِنْ قتله على التراب الفرنسى، أو هل أجري بحث في جريمة القتل هذه وفي كيفية تنفيذها، أو يذكروا كيف تم دفنه وأين ومتى، وما مصير قَتَلَتِه إن كان فعلا مقتولا، وما حقيقة ما تسرب من أنه حي يرزق وأن البوليس المغربي أعطاه هوية رسمية باسم غير اسمه ومهد له سبل المعيشة الهنيئة في مكان ما، وفي كل الأحوال تأكد لجميع الملاحظين أن البوليس المغربي والبوليس الفرنسي على اطلاع تام بحاله ومصيره ويتكتمان على الأمر لمصلحة استخباراتية معينة..!! ثم بعد ثلاثين سنة تتحدث هيئة الإنصاف والمصالحة وهي هيئة شكلها الملك نفسه سنة 2003 وأنهت مهمتها سنة 2005، معتمدة على ما توفر لها من وثائق وقرائن بعد تَقَصٍّ منها مطول ومدقق، عن علاقةٍ وثيقةٍ للمدعو النعماني بجهاز أمني مغربي رسمي، وتورطٍ لهذا الجهاز في الجريمة، ومسؤوليةِ الدولة عن ذلك. وهو ما نشرته الصحف المغربية والعالمية وعلى رأسها صحيفة القدس العربي بتاريخ 2008-07-16. وذاك ما يؤكد أن هذه القضية اتخذت غطاء لموقف الدولة المعادي لي وللأخ إبراهيم كمال، بعد ظهور تأثير الحركة الإسلامية في الساحة ورفضنا الدخول تحت عباءة المخزن، وأن محاولة ربطنا بهذه الجريمة مجرد إبعاد لنا عن الساحة ليهيمن المخزن على الحركة أو يستلحق بها بعض أعوانه تمهيدا لاختطافها، وهو ما تم باعتقال أحدنا وتهجير الثاني، ومرور سبع وثلاثين سنة على مطاردتي في الآفاق، ومحاصرتي في كل بلد ألجأ إليه، ومحاولات تصفيتي الجسدية، ومصادرة كل وثائقي الرسمية، ومنعي حتى من بطاقة التعريف الوطنية وجواز السفر لحد الآن، بل صار الحصول على جواز السفر محرما بأمر من السلطات العليا على كل من يحمل الإسم العائلي"مطيع" بما فيهم زوجتي وأبنائي وإخوتي وأصهاري، وجميع أقاربي حوالي ثلاثين سنة؛ مع أنني والأخ كمال لا علاقة لنا بالقضية ولا بمن خططوا لها أو أمروا بها أو نفذوها. وهي شرعا وقانونا ومنطقا في كل الأحوال محصورة بين الفاعلين وبين الأجهزة الرسمية وبين الضحية وأوليائه، كما شرحنا ذلك بتفصيل في كتاب المؤامرة على الشبيبة الإسلامية المنشور في موقعها على الأنترنيت، والمتاح لكل من يريد مزيد الاطلاع على تفاصيل المحاكمة غير العادلة وما حيك لنا من تلفيق ومكر وما سخر له القضاء المغربي الفاقد لكل مصداقية أو استقلال. وبعد أن تم استقراري في الرياض كنت محط تكريم من الشيخ حسن آل الشيخ وزير التعليم العالي ورئيس الندوة العالمية للشباب الإسلامي رحمه الله، والأمين العام للندوة الدكتور عبد الحميد أبو سليمان، ثم آثرت أن أقيم فترة في مكةالمكرمة لجوها الإيماني الرحب، ولألتقي ببعض الإخوة المسؤولين في الحركة الراغبين في لقائي، وهناك زارني سرا الشيخ عبد اللطيف عدنان فنسقت معه أمر الدعوة وكلفته بمتابعتها، واتفقت معه على أن يتصل بالجمعيات الطلابية العالمية والمنظمات الإسلامية لطلب نصرتها وحثها على اتخاذ مواقف مناصرة لقضيتنا ومكاتبة الدولة في ذلك، فقام بالمهمة خير قيام ووفقه الله تعالى أتم توفيق، وكان الأخ عبد الله المطوع رحمه الله تعالى رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي والأخ عبد الواحد أمان والأخوان بدر القصار رئيس تحرير مجلة المجتمع ومحمد سرور زين العابدين سكرتير التحرير في نفس المجلة أسبق الناس إلى النصرة. ثم اتصلت عاجلا بأخوين كريمين في باكستان جزاهما الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء هما المرحوم الشيخ خليل الحامدي رحمه الله وكان كاتبا خاصا للشيخ أبي الأعلى المودودي رحمه الله تعالى ومترجما لأعماله، وأمير الجماعة الإسلامية الباكستانية حينئذ الشيخ ميان محمد طفيل فطرحا قضية اعتقال الأخ إبراهيم كمال وما لحق بي من ظلم المتابعة والتهجير على مؤتمر المحامين في باكستان وألقى كل منهما في المؤتمرين كلمات مؤثرة حول الموضوع فأرسل المؤتمر برقية احتجاج إلى الملك، وتطوع منهم للدفاع في القضية أكثر من عشرين محاميا باكستانيا، كما تطوع أيضا من مصر كل من الدكتور سيد عبد العزيز هندي رئيس محكمة مصر السابق، والمستشار الدكتور شوكت التوني، ومن الكويت كل من الأستاذين مبارك المطوع وجاسم التناك، إلا أن الدولة المغربية منعتهم من المشاركة في الدفاع، وعارضت مجرد حضورهم جلسات المحاكمة. كما كان لها اليد الطولى مع اليساريين المغاربة في تحريض المحامين المغاربة على مقاطعة محاكمة الأخ إبراهيم والامتناع عن الدفاع عنه، فلم يقبل منهم هذه المهمة إلا ثلاثة محامين، فشنت عليهم حملات ظالمة من قبل خصوم الدعوة الإسلامية ومناصري الحكومة علينا، مما فضح حالة مهنة المحاماة أثناء سيطرة اليسار وتحالفه مع الاستبداد، وحالة افتقاد القضاء لاستقلاله افتقادا تاما ظهر أثره جليا في سير المحاكمة، إذ استمرت خمس سنوات كاملة جرت خلالها مفاوضات معي في السعودية والكويت كي أرضخ لشروطهم، فلم يفصل فيها إلا بعد أن يئسوا من النيل من عقيدتي وتأكدوا من صلابة موقفي وحرصي على حماية الدعوة الإسلامية مما يراد لها من المسخ والتسخير. وهناك أيضا في مكةالمكرمة زارني الدكتور الخطيب وأكد لي أن الملك استشاط غضبا لعدم حضورى في المسيرة، وأنني لو كنت حضرت لسارت الأمور في مسار آخر، وأن القضية سوف تحل والأخ إبراهيم كمال سوف يخرج من السجن إذا عرفتُ كيف أتصرف في التعامل مع الدولة، وأستثمر ما قدمته للبلاد من شباب في جميع القطاعات الحساسة الضرورية لتقدمها، ومع أنني لم أفهم جيدا ما يقصده بقوله هذا، فقد علقت قائلا: لم أقم إلا بواجبي كما فرضته علي وظيفتي في التعليم، وعقيدتي في الدعوة إلى الله تعالى. ثم بعد حين أرسل إلي أحمد بنسودة مدير الديوان الملكي في إحدى ليالي رمضان أحد موظفي رابطة العالم الإسلامي يدعوني للقاء به في الحرم فلبيت الدعوة وطمأنني بأن الفرج قريب، وأنه بمجرد عودته سوف يسلم زوجتي وأولادي جوازات سفرهم لزيارتي وتطميني، وما علي إلا أن أرسل برقية ولاء للملك وآمر الشباب باتخاذ إجراءات عاجلة لتأسيس حزب يحافظ على ثوابت البلاد، ثم ودعني بتلاوة قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران 200، ولم يوف بأي وعد من وعوده إلى أن توفاه الله. وفي تلك الأثناء فوجئت بالدكتور عبد الحميد أبو سليمان يتصل بي هاتفيا ويخبرني بأن الشيخ محمد الحمداوي قدم مكة وهو مقيم مع زوجته في فندق الأنتركونتننتال ومصِرٌّ على أن يلقاني لأمر هام، فأسرعت بزيارته، فوجدته صحيا في أسوأ حالاته، وبمجرد ما عانقته أجهش في البكاء وهو يردد "سامحني يا ولدي" يرددها ولا يكف عن ترديدها حتى شرق بدموعه، وأنا أبذل الجهد في تهدئته، ثم سألته: فيما أسامحك وأنت لم تسئ إليَّ؟ قال سامحني فقط هذا مطلبي لديك، قلت له سامحتك مسامحة لا رجعة فيها مهما كنت قد أخطأت في حقي فاهدأ واسترح، ثم فهمت أن مرضه يقتضي أن أتركه للراحة فودعته. وفي صباح اليوم الثاني وجدته في الحرم الشريف مع الدكتور عبد السلام الهراس وقد عزما على العودة إلى المغرب، فانتحيت بالهراس وسألته عن أسرة الأخ كمال، فذكر أنه لا يعرف عنها شيئا، فعاتبته عتابا خفيفا على ذلك لكونه كان صديقا له، فرد علي بعنف: "لماذا أهتم بأسرته، وهل كان يستشيرنا في دعوته، دعه ودع أسرته لمصيرهم". فاعتذرت له عن إثارة هذا الموضوع، ثم ودعتهما معا. وعندما زارني الشيخ عبد اللطيف عدنان مرة ثانية وسألته عن الشيخ الحمداوي - وكان يخدمه في مرضه - أخبرني بأن طلبه المسامحة كان لشعوره بالتقصير في نصرتي بعد خروجي للهجرة كما سمع منه مرة، وأن صحته تدهورت بعد عودته من مكة ، وأن الخطيب اتصل به هاتفيا ودعاه إلى قصره بالرباط فاعتذر، فأخبره بأن الدكتور توفيق الشاوي في ضيافته ويريد رؤيته، فأصر على الاعتذار، فقال الخطيب: "إذن نزورك معا"، فأجاب الحمداوي:"لا ..لا يزرني أحد منكما". ثم عندما نظم الاتحاد الاشتراكي حفل تكريم للشيخ الحمداوي – وكان قد هاجمه في جريدته هجوما متحاملا ومقذعا متهما إياه بالضلوع في قضية بنجلون - امتنع عن حضور التكريم، وتمت حفلة التكريم في غيابه وبحضور عبد الرحمن اليوسفي الأمين العام للاتحاد الاشتراكي رئيس الحكومة. وعندما حضرته الوفاة أوصى الشيخ عبد اللطيف عدنان بأن يعجل بدفنه قبل أن يحضر تشييعه الكبراء والوزراء ومن لا يبيض وجهه عند الله تشييعهم له، ولكن عبد الرحمن اليوسفي سمع الخبر واتصل بالشيخ عبد اللطيف يسأله عن موعد الدفن، فأجابه بأننا في المقبرة، ولا داعي للحضور، فاكتفى اليوسفي بزيارة العائلة وتعزيتها. وخلال وجودي في الكويت بينما كنت في جناح لمجلة المجتمع بجمعية الإصلاح الاجتماعي فوجئت بمكالمة من المغرب يقول صاحبها إنه من وزارة الداخلية المغربية وسيحولني إلى مكتب الوزير وكان على الخط بعد التحويل الوزير إدريس البصري يقول بعد التحية إنه ينوي إرسال مبعوث إليَّ في الكويت قريبا فهل ظروفي تسمح بمقابلته؟ وكان جوابي الموافقة على ذلك إن كانت النية تتجه للإصلاح ورفع الظلم. وبعد حوالي أسبوع تقريبا اتصل بي على هاتف جمعية الإصلاح الاجتماعي الحسين جميل الرجل الأول فيما عرف بقسم حماية التراب الوطني DST ، وقال إنه ينتظرني في صالون فندق هيلتون، فاستشرت الأخ والصديق محمد سرور زين العابدين وكان حينئذ سكرتير تحرير مجلة المجتمع، فأبى إلا أن يرسل من يراقب لقائي به من بعيد تحسبا لأي غدر أو خيانة. وفعلا تم اللقاء، وكان فيه الحسين جميل جم الأدب، حرص أولا على أن يبين لي أن الوزير كان ينوي إرسال"بنحبريط" السكرتير الأول في وزارة الداخلية ولكنه آثر في النهاية إرسال الحسين جميل لما له من معرفة بملف القضية، ودار الحوار حول شروط يشترطها النظام لعودتي على رأسها أن أؤسس حزبا يدور في فلك السلطة. وخلال وجودي أيضا في الكويت عملت على طبع مئات من صورة مكبرة للأخ كمال في بعض المطابع العامة، وسربتها للمغرب ليوزعها ويعلقها بعض الشباب في المؤسسات التعليمية تذكيرا بقضيته ومطالبة بإطلاق سراحه فقاموا بذلك خير قيام. وعندما عين الدكتور أحمد رمزي رحمه الله وزيرا للأوقاف وترأس وفد الحجيج المغاربة إلى مكةالمكرمة، ورجعت إلى مكة لأداء مناسك الحج فوجئت بالوزير يطرق باب غرفتي في الفندق، فرحبت به أيما ترحيب، لاسيما وقد كانت بيننا علاقة صداقة إنسانية منذ سنة 1962 بمراكش ونضالية عميقة في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعد أن انتقلنا سوية إلى الدارالبيضاء، وفي درج الحديث معه اعتذر عن عدم استطاعته الشفاعة لدى الملك قائلا:" إن علاقتنا بالملك محدودة جدا ومحكومة بحالاته المزاجية، فعندما يكون وجهه مكفهرا ويثار موضوع شخص يكرهه ينطلق كافة الحاضرين في شتمه والتشنيع عليه واتهامه، وعندما تكون أسارير وجهه منشرحة يجرؤ بعضهم على الاسترحام لمن يجري الحديث حوله". فضكحت ورددت عليه: أنا يا أخي لا أحرج أحدا منكم بأي شفاعة لدى الملك. ثم واصل حديثه فقال:" استطعت فقط أن أفاتح إدريس البصري في أمرك، فقال: نحن على استعداد لحل مشكلة مطيع إذا ما استفدنا منه، ولو بأن يتعهد بتحويل رجاله إلى حزب سياسي يدعم الدولة في مواجهة أعداء الإسلام، فأجبته:" وهل يستطيع رجل مطارد في مكة ومحجور على أهله في المغرب أن يساعد غيره؟ لو كنت أملك لنفسي نفعا لقدمته لها أولا وقبلكم. ثم ودعني وانصرف، وبعد يومين التقيت به في مطعم فندق الفتح بمكة أيضا، مع الدكتور المهدي بنعبود فتبادلنا أطراف حديث عام، وعلق المهدي بنعبود مخاطبا أحمد رمزي قائلا:" الأخ عبد الكريم سبيكة ذهبية ولكن إمساكها متعذر وحارق". وأثناء وجودي بمكة علمت باعتقال الأخ عبد السلام ياسين وكانت بيني وبينه في مراكش علاقة وطيدة من سنة 1953 أنوي التطرق لها في هذه المذكرات مستقبلا إن شاء الله تعالى، فقمت بواجب نصرته حين أتيحت لي فرصة طلبت فيها من الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله تعالى أن يتدخل لصالحه فلبى طلبي وكتب رسالة في الموضوع إلى ملك المغرب. وبعد حين انتدب الشيخ ابن باز مفتي المملكة العربية السعودية رحمه الله تعالى وفدا للتوسط مكونا من الدكاترة جمال برزنجي وهشام الطالب والتيجاني أبو جديرى، وكلهم من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وزودهم برسالة منه إلى الملك، ولكن الرسالة لم تصل إلى الملك، لأن لجهات معينة خارجية مصلحة في عدم عودتي، ولأن الخطيب أقنعهم بضرورة بقائي بعيدا، ولا أدري فحوى التقرير الجوابي الذي قدموه لمن أرسلهم. ثم اقترح عليَّ الشيخ حسن آل الشيخ رحمه الله تعالى أن يرسل وفدا إلى الملك في قضيتي وقضية اعتقال الأخ إبراهيم كمال، فانتدب وفدا من قياديين في الإخوان المسلمين هما صالح أبو رقيق وهارون المجددي وحملهما رسالة إلى الملك، إلا أن الخطيب أقنعهما بعد وصولهما إلى المغرب بأن مصلحة الدعوة الإسلامية تقتضي ألا يسلماها للملك وألا أعود إلى المغرب وأن أسلوبي ووجودي يربكان نشاطه، فكتب صالح أبو رقيق متبنيا رأي الخطيب تقريرا للأجهزة الأمنية السعودية يسير في اتجاه التضييق عليَّ في السعودية أطلعني على جزء منه الدكتور أحمد توتنجي الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي. وكان الحامل على هذا الموقف من"أبو رقيق والمجددي" أن مصلحة النظام المغربي ومصلحة بعض إخوان مصر حينئذ ومصلحة الخطيب جمعتهم على ضرورة اتخاذ الحركة الإسلامية المغربية ميراثا يقتسمونه، بعد إبعاد الأخ كمال في السجن، وإبعادي بالهجرة، ووضعي تحت المراقبة الدقيقة في المشرق إلى حد أن رسائل زوجتي التي ترسلها إليَّ على صندوق بريد الأخ مصطفى محمد الطحان وهو من كبار قياديي تنظيم الإخوان المسلمين في الكويت لا يسلمها لي إلا بعد أن يفتحها ويخبرني شفويا ببعض مضمونها ويحتفظ بها مفتوحة عنده أياما ثم يسلمها لي بعد ذلك مع أن مسكني كان يقع أسفل العمارة التي يسكنها، وذلك ما تم فعلا، إذ بعد أن مرت خمس سنوات ويئسوا من تغيير موقفي وترويضي، وبعد أن تمت في بيت الخطيب بيعة مجموعة من المستلحقين بحركتنا للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين على يد صالح أبو رقيق، واعتُمِدوا قيادةً من طرف الدولة وأجهزة الاستخبارات الأمنية، قررت السلطة تصفية القضية قضائيا، فأطلق سراح الأخ كمال وسط حملات من التشويش والترهيب والإشاعات والأكاذيب. وقبل ذلك في مكة أيضا تعرفت على الشيخ المنتصر الكتاني رحمه الله تعالى، وكان عضوا في رابطة العالم الإسلامي وواعظا في الحرم الشريف، فتوثقت بيننا عرى الصداقة وكان كل مرة يرسل إليَّ أحد أبنائه إلى الفندق يدعوني لمجالسته في بيته، فنخوض معا في قضايا الوطن والأمة ويحدثني عن ذكرياته وتجاربه السابقة في عمره المديد، إلا أنه في أحدى الزيارات فاجأني بما لم أكن أنتظره أو أفكر فيه، إذ ذكر لي أن سفير المغرب في جدة الأستاذ الناصري صديق له، ويزوره في بيته كلما جاء مكة معتمرا، وأنه في آخر زيارة له أخبره بغضب الملك الشديد على عبد الكريم مطيع، فتساءلت: " لعل ذلك لعدم حضوري المسيرة الخضراء؟"، فقال: "الأمر أخطر من ذلك"، قلت: "وما عسى أن يكون هذا الأمر وليس لدي أي موقف ضد المؤسسة الملكية؟". فرد قائلا: "سوف أستأذن وأجيبك بعد يومين أو ثلاثة". إلا أنه في اليوم الموالي زارني أحد أبنائه وأخذني بسيارته إلى بيتهم فوجدت الشيخ المنتصر الكتاني في انتظاري، ثم أخبرني بأن الملك يتهمني بالاتصال بكبار ضباط الجيش للتأثير على ولائهم للمملكة، وأن السفير الناصري هو من أخبره بذلك، واقترح أن أكتب رسالة ولاء ووفاء للملك أتبرأ فيها مما نسب إلي. صعقت للنبأ، وسارعت إلى استنكار هذه التهمة، ولكنني اقترحت على الشيخ الكتاني أن يجمعني في بيته بالسفير الناصري لأستوضح الأمر أولا، فأبى إلا أن أكتب الرسالة أولا ويوصلها بنفسه إلى السفير ثم بعد ذلك يجمع بيننا. فطلبت منه مهلة للتفكير، خشية أن يكون الأمر بتنسيق مع الأجهزة السعودية. في اليوم التالي ذهبت لصلاة المغرب في الحرم، وكنت مواظبا عليها تحت المكبرية صحبة رفقة من الأخيار منهم الشيخ محمد محمود الصواف، ومحمد قطب، وبعد الصلاة أسررت للشيخ الصواف بالأمر واستشرته، فقال: لا داعي للاهتمام بالأمر، فالسفير الناصري صديق لي، وأنا أزوره كلما كنت في جدة، وسوف أزوره خلال يومين إن شاء الله وأحدثه في الموضوع. وبعد يومين تقريبا اتصل بي الشيخ الصواف وقال: إن السفير الناصري يسلم عليك، وسوف يصلي معنا المغرب ليلة الجمعة في المكان المعهود بالحرم الشريف. وعند مغرب يوم الخميس وصل السفير الناصري فسلم علينا بكل أدب، ثم عقب الصلاة انتحى بي ناحية قصية من الحرم، وكان أول ما فاتحني به أن اعتذر عن الاستفراد بي لكون واجبات الوفاء للمهنة والوطنية تقتضي ألا نشرك الأجانب فيها مهما علا قدرهم، فوافقته الرأي، ثم سألته عما ذكره لي الشيخ الكتاني مستنكرا تلفيق هذه التهمة الجديدة، فقال:هذه قضية تجاوزناها حاليا، لكن هناك قضية أخرى متعلقة بالحملة الصحفية على المغرب في منطقة الشرق العربي (السعودية والخليج)، وهي منطقة حساسة بالنسبة للمغرب في المجال الاقتصادي، وكل الأصابع تشير إلى أنك وراءها، وهذا يعقد قضيتك فأرجو أن تساعدنا على إيقاف هذه الحملة، لأنك وطني قبل كل شيء والدولة تقدر محبتك للوطن ودفاعك عنه أيام الاستعمار. فكان ردي أنني لم أساهم في أي حملة صحفية ضد المغرب، أما الصحافة الإسلامية فأمرها عقدي تلقائي يخص واجب التضامن والنصرة بين المسلمين ولم أحرضهم على ذلك، ولكني أستطيع إن وعدتموني بحل المشكلة المعلقة أن أرجو منهم إيقافها إن اقتنعوا بأننا تلقينا منك وعدا بذلك. فوافق ووافقت، وختم حديثه مستفهما بقوله:" يا أخي، لماذا لم تؤسس حزبا من أول الأمر فترتاح؟ ثم ودعني. والتزمت ولم تلتزم الدولة. لم يعجبني صرف السفير للنظر عن الحديث حول التهمة الجديدة المسربة إليَّ رسميا بواسطة الشيخ المنتصر الكتاني، فحاولت الرجوع بذاكرتي إلى الوراء علها تسعفني بما يوضح الأمر... لأن الأجهزة لا تعبث في تكتمها ولا في تسريباتها ولا في تصريحاتها...واسترجعت أحداثا ماضية علها تأخذ بيدي إلى استقصاء خلفيات هذه التهمة الجديدة، تهمة تحريض كبار الضباط العسكريين التي استترت بالتهمة الأولى وهي التحريض على القتل، من أجل محاولة قطع رأس الحركة الإسلامية الوليدة واستنبات يقطينة (قرعة) لها بديلا عن الرأس حسب مصطلح الخطيب. وللحدث بقية...