غارات إسرائيلية تخلف 19 قتيلا في غزة    توقعات أحوال الطقس ليوم السبت        بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة        الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    ما صفات المترجِم الناجح؟    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !        تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



راشد الغنوشي يتجسس على الشيخ مطيع


بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين
الحلقة العاشرة: شهادة الحق تَسُرُّ أقواما وتُسْخِطُ غيرَهم
كان مصطفى الطحان مكلفا إخوانيا بمراقبتي في الكويت طبقا لما يَفهم من دينه، أما توفيق الشاوي فكان في السعودية منسق محاولات تسويق ما يراد استدراجي إليه، وفي نفس الوقت كان مستشارا للخطيب والأميري في قضايا حماية النظام من معارضيه، ومن خلالهما مستشارا للقصر والأجهزة المغربية فيما يتعلق بضرورة اختطاف الحركة الإسلامية المغربية وتسخير بعض شظاياها، ومن قبل كان مستشارا للملك الحسن في عملية تأسيس أول برلمان مغربي ووضع أول دستور للمغرب في فجر الاستقلال.
في هذا الإطار عَيَّن الإخوان أول الأمر مصطفى الطحان مسؤولا عن منطقة شمال افريقيا وراشد الغنوشي ضابط اتصال لهم فيها، لذلك كان الطحان يرسل الغنوشي في رحلات تفقدية من أجل استجلاء الأوضاع بكل من الجزائر والمغرب، واقتراح الحلول والخطط الخاصة بالتعرف على الفصائل الإسلامية القائمة بها ومحاولة استقطابها، وفي هذا الاتجاه أرسل الطحان راشد الغنوشي إلى الجزائر عقب اعتقال محفوظ النحناح، فأجرى عددا من الاتصالات بالمجموعات الإسلامية على اختلاف مشاربها، ثم قدم للطحان تقريرا مكتوبا ومفصلا لرحلته في أكثر من خمسين صفحة اقترح عليه فيه أسماء تَخْلُف النحناح أثناء اعتقاله، وقد اطلعت على هذا التقرير عندما كانت الأيدي تتداوله في جمعية الإصلاح الاجتماعي بالكويت حيث مكتب الطحان، وأخذت منه نسخة عند كتابة مقالي الذي طالبت فيه بإطلاق سراح محفوظ النحناح ووقعته باسم: "أبو أحمد البيضاوي" ونشرته في مجلة المجتمع.
وفي الإطار نفسه كان مصطفى الطحان يرسل الغنوشي إلى المغرب، فيجتمع ببعض الشباب ينتقدني لديهم ويتهمني بالعنف والتطرف، وهو لايعرف عني عنفا ولا لينا، إلا ما برمجه عليه الخطيب والأميري، ويجري حوارات ودية مع صحف الإثارة والصحف الشيوعية المغربية التي تشتمني وتفتري علي، معرِّضا بي ومصرحا، وقدمه الخطيب للملك فاستقبله بمقتضى البرتوكول الملكي الذي يستقبل به رعاياه.
ولما حاول اختراق الحركة الإسلامية المغربية ووجد أبوابها موصدة في وجهه، لم يسعه إلا أن يزورني في مكة صحبة مصطفى الطحان الذي دبر لقاء بيننا في فندق الفتح، وأثناء الحديث شكا من انغلاق الحركة وعدم انفتاحها عليه، ولكني دفعت شكواه بحسن أدب، وذكرته بأن البيوت تؤتى من أبوابها، إلا أنه رفع صوته محتجا متأففا:(إلى متى تغلقون الجماعة في وجهنا) فأجبته:(عندما تكفون عن اعتبار المغرب ولاية تابعة لقرطاجنة الفينيقية أو لمملكة محمد علي باشا في مصر) فغضب وأرغى وأزبد ثم تدخل مصطفى الطحان لإصلاح ذات البين. من ثم لم يجر لقاء آخر بيني وبينه، إلا في زياراته المتوالية للقذافي حيث كان يتجنب لقائي في الفندق الذي يقيم به، مع أنه عندما رآني في ليبيا كان أول من بلَّغ المغاربةَ ذلك، واستغله لاختراق بعض الفصائل بالكذب علي وتكفيري، بمعونة الطحان الذي كتب ذلك بهتانا وزورا في نشيرة يصدرها.
هذا اللقاء هو ما شاغب عليَّ في فترة كنت فيها مقيما بفندق "بدر" قريبا من الحرم أمام باب الملك عبد العزيز أستعد لكتابة مرافعة الدفاع عن الأخ كمال، وقد رسمت لها تصميمها وحددت عناصرها، ثم أضيف إليه عائق آخر هو مجيء الأخت والخالة رحمها الله تعالى للحج فانشغلت بتعليمهما مناسك الحج والعمرة وتعريفهما بمعالم مكة المكرمة وما حولها، والاستئناس بهما وقد طالت غيبتي عنهما، ثم بعد حين وصلت أخت زوجتي رحمها الله تعالى مع زوجها، ثم جاء المحامي مأمون الفاسي مع شيخه في الطريقة الصوفية وفي نيتهما أن يقيما عندي، فانشغلت بالجميع عن كتابة المرافعة، وصار كل وقتي في خدمة ضيوفي، وإن تخلله أحيانا حديث عن المحاكمة المنتظرة وظروفها ومآلها وأساليب الدفاع فيها.
ثم بعد أيام التشريق وعودتنا من منى وقضاء فترة من الراحة لجميعنا، أرسلت الأخ المامون الفاسي مع شيخه الصوفي إلى المدينة المنورة بعد أن حجزت لهما مسكنا فيها وسيارة إليها، أما الأخت والخالة رحمها الله تعالى فقد كان موعد طائرتهما آخر شهر ذي الحجة ليلا، وأما أخت الزوجة وزوجها فكانت طائرة عودتها صباح الفاتح من محرم، لذلك سافرت بالخالة والأخت إلى جدة يوم رحلتهما وسهرت على القيام بإجراءات سفرهما ورعايتهما إلى منتصف الليل ثم أودعتهما الطائرة، وعدت إلى مكة في أشد حالات الإرهاق على الساعة الثالثة صباحا، أي قبيل صلاة الصبح بساعتين، ولم أكد أضع رأسي على الوسادة حتى جاء عديلي يريد أن أرافقه مع زوجته إلى الحرم كي يطوف طواف الوداع قبل الصلاة لنتجه إلى جدة بعدها مباشرة، فطلبت منه أن يسبقني إلى الحرم الشريف ويختم حجه بطواف الوداع ثم ألتحق به عند أذان الفجر. إلا أن النوم غلبني فلم أستيقظ إلا بعد الصلاة بحوالي نصف ساعة، فعجلت الوضوء والالتحاق بالحرم للصلاة ومرافقة عديلي وزوجته إلى جدة، إلا أن مفاجأة صاعقة لم تكن لأحد على بال ذهلت لها، أبواب الحرم الشريف مغلقة ربما لأول مرة في تاريخه، وصوت عنيف جهوري ينبعث من مكبرات الصوت في كل مكان منه، أنْصتُّ لما يقال، فإذا به دعوة إلى ثورة مسلحة ضد الدولة ونقد عنيف لمنهجها وتشنيع على المبتدعة والشيعة، وادعاء ظهور للمهدي المنتظر، وسيطرة تامة على الحرم من قبل بعض مسلحين.
رجعت إلى الفندق وأديت فيه صلاة الصبح وكل همي أن أعثر على عديلي وزوجته وقد حوصرا في الحرم، كان الفندق فارغا، لأن كل نزلائه - بمن فيهم مديره وخدمه - محتجزون في الحرم، جلست في قاعة الاستقبال متسائلا عن الحدث وأسبابه ونتائجه مرة، وعن مصير ضيفيَّ مرة أخرى، وبعد شروق الشمس حضرت دورية عسكرية أمام الفندق فأجهز المسلحون على بعض جنودها من أعلى سطوح الحرم، وإذا بهاتف الاستقبال في الفندق يرن بإصرار فرفعت السماعة، وإذا بصوت يقول بحدة:(من أنت؟) قلت:(أحد نزلاء الفندق، وكل من فيه غيري محتجزون في الحرم، لكن من المتكلم؟) قال: (الملك خالد، ناد بسرعة الضابط فلان من الدورية التي أمام الفندق) فأسرعت بمناداته ثم ابتعدت عن مكتب الاستقبال وعدت إلى غرفتي أدعو الله لضيفيَّ بالسلامة. وفي الساعة العاشرة صباحا استطاع عديلي وزوجته الخروج من أحد أبواب الحرم الثانوية فجمعت لهما بسرعة حقائبهما وحجزت سيارة أجرة وانطلقت بهما إلى جدة، إلا أن طائرة رحلتهما كانت قد أقلعت، وكان لابد لي من بحث بين مكاتب شركات الطيران الأخرى عن مقعدين لهما، فلم أفلح في تدبير ذلك إلا ليلة اليوم الثاني للمحرم، في رحلات متقطعة إلى الأردن ثم إسبانيا ثم المغرب. ولا أنسى أن أخت الزوجة رحمها الله تعالى وجزاها خير الجزاء وهي خلفنا كانت تخاطب زوجها كل حين وتُسْمِعني:( انصح الشيخ بألا يعود إلى مكة مطلقا).
فعلا عملت بنصيحتها وأرسلت من يأتيني من الفندق بحقيبة ملابسي، ثم اتجهت إلى الرياض ونزلت في دار الضيافة الخاصة بالندوة الإسلامية العالمية، وهناك تفرغت لكتابة المرافعة في جو من الهدوء والانقطاع عن الشواغل والمشاغل، لقد عدت إلى المؤسسة التي أكن لها كل مودة برئيسها الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ وزير التعليم العالي رحمه الله تعالى وأمينها العام الدكتور عبد الحميد أبو سليمان، فكان استقبالي فيها أحسن استقبال، وبينت حاجتي إلى من يساعدني بطباعة ما أنوي تحريره من مرافعة الدفاع عن الأخ كمال، فانتدب الأخ كمال الهلباوي المدير الإداري في الندوة لذلك شابين من متقني العمل بالآلة الكاتبة، ثم اعتكفت على الكتابة والتحرير وواظب الشابان على الطباعة، وحال الانتهاء من ذلك استنسخت منها ثلاث نسخ بعثت بها مع أحد طلبتنا في الرياض إلى هيئة الدفاع بالمغرب على أن تُتِم الهيئة تنزيلها بما يناسب ظروف المحاكمة ومستجداتها.
ومن غرائب ما حدث في هذه الفترة أن أحد أبناء الأميري زارني مرة في دار ضيافة الندوة العالمية مساء، وأبدى المودة والاحترام، ولما لاحظ اعتكافي لكتابة المرافعة تحدث عن طقس ذلك اليوم وكان معتدلا واقترح أن نخرج إلى الشارع ترويحا عن النفس ومشيا على الأقدام فسايرته مجاملة وخرج معنا فرَّاش الندوة اليمني، إلا أن سيارة مرت بسرعة جنونية حتى إذا كانت قريبة منا أخرج أحد ركابها رأسه ويديه من نافذتها ثم رماني بعلبة "فانتا" مفتوحة سقطت بين رجلي بعد أن لوثت ملابسي، وظننت أن الحادثة تصرف عفوي من بعض المراهقين، فواصلت السير غير عابئ إلا أن السيارة نفسها عادت بسرعة أيضا ورماني أحد ركابها مسددا الرماية بعلبة أخرى غير مفتوحة أصابت ذراعي الذي تورم بها مدة طويلة، فودعت ابن الأميري معتذرا بالعمل على تنظيف ملابسي ثم عدت لمواصلة تحرير المرافعة.
ونظرا لكون الاتصالات الهاتفية في تلك الفترة كانت بطيئة ومعقدة ومراقبة بدقة نظرا لأحداث الحرم التي لم تكن قد صفيت بعد، رأيت أن أغادر المملكة إلى جهة تتيح لي الاتصال السهل بهيئة الدفاع وأعضاء الحركة والأهل، فطلبت من الأخ عبد الحميد أبو سليمان الحصول لي على تأشيرة خروج وعودة من السعودية فلبى طلبي جزاه الله خيرا، وحجزت تذكرة السفر إلى الكويت.
وفي ليلة السفر اقترح الأخ كمال الهلباوي أن نلتقي صباحا في المطار ليساعدني على الخروج تحسبا لأي طارئ في ظروف التعبئة الأمنية المعلنة حينئذ، ثم زارني الشيخ حمد واستضافني للعشاء على أن أبيت عنده ويأخذني صباحا بسيارته إلى المطار، فكان من كرمه وأريحيته في تلك الليلة أن آثر أن يواصل معي الحديث عن أوضاع الدعوة وآفاقها، وقضايا الأمة وآلامها حتى غلبه النوم على أريكة الصالون الذي نمت فيه. ثم بعد أن صلينا الصبح سويا في مسجد الحي، اقترح أن نتناول طعام الفطور عند الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ الذي عُيِّن فيما بعد مفتيا بعد وفاة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، فلما زرناه وجدناه قد أعد لنا مأدبة شهية ودسمة، وبعد حديث مستفيض عن الأحوال في الحرم وأخبار تطورات الفتنة الطارئة فيه دعا لنا بكل خير وودعناه للتوجه إلى المطار، حيث وجدنا الأخ كمال الهلباوي في انتظارنا وقد أتم جميع إجراءات السفر، ورافقني مع الأخ حمد الصليفيح إلى داخل الطائرة ثم ودعاني مشكورين.
وصلت إلى الكويت وأنا أفكر في احتمال اتخاذه ممرا فقط إلى أروبا إن لم يناسبني المقام فيه، وكان الجواز المغربي إليها حينئذ لا يحتاج إلى تأشيرة، فبادرت بالنزول في الفندق واسترحت فيه بقية اليوم والليلة كي أسترجع نشاطي الذهني، ثم زرت مكتب مجلة المجتمع فاستقبلني رئيس التحرير بالترحاب ودعا شابا مصريا يشتغل صحفيا عنده وطلب منه إجراء حوار معي ينشر في العدد المقبل حول أحداث الحرم الشريف، ولما أخذ الصحفي كراسة وفتح آلة تسجيل وهَمَّ بإلقاء أول سؤال قلت له:( قبل الأسئلة التي أعددتها، أرجو أن تفتتح هذا الحوار بهذه الكلمة ثم ضغطت على زر التسجيل وقلت:( أولا أود أن أسجل استنكاري للاعتداء على الحرم الشريف وترويع حجاجه ومعتمريه والركع السجود به...) فإذا بالصحفي ينتفض ويغلق التسجيل ويقول:(نسيت شيئا مهما، هل نؤجل الحوار إلى فرصة أخرى؟) قلت : (كما تشاء) ثم لم يراجعني مرة أخرى حول هذا الحوار.
نبهتني هذه المعاملة الغريبة إلى ما قد يكون معدا لي من مقالب ألفتها في المنطقة، فبادرت بإرسال برقية استنكار لما وقع في الحرم وتعزية في ضحايا الاعتداء عليه إلى الملك خالد، واحتفظت بإيصال الإرسال معي، وفي اليوم الثاني وأنا في مكتب مجلة المجتمع أتاني مصطفى الطحان ببرقية شكر جوابية من الملك خالد ثم علق ضاحكا:( لقد أتقنت لعب السياسة يا صاحبي) فبادلته ضحكه بابتسامة وقلت: (لو كنت ألعب لما رأيتني في هذه الفيافي مهاجرا).
وفي اليوم الثالث رأيت أن أزور مقر مجلة البلاغ الكويتية لأشكر مديرها الشيخ عبدالرحمن الولايتي وأسرة التحرير فيها لما بذلوه من جهد في الدفاع عن الحركة الإسلامية المغربية، ورئيس التحرير فيها العالم الفاضل الشيخ عبد الله شبيب، صاحب الأسلوب السلس الرصين ومواقف النصرة بدون منٍّ أو أذى، كما كان أيضا من المحررين في المجلة شاب مصري ذو ثقافة متينة ووعي سياسي عميق وأسلوب كتابة أنيق رشيق يدعى صالح الورداني طالما كتب مقالات فيها مناصرة للشبيبة الإسلامية ونقدا للنظام المغربي، إلا أن المسكين كان دائما محبطا من واقع معيشته في الكويت، لأن بعض الإسلاميين فيها - كما كان يدعي - خذلوه وعاملوه معاملة الموالي، فلم يساعدوه على الحصول على إقامة رسمية، ولم يخصصوا له راتبا مقابل عمله إلا سبعين دينارا لا تكفي لسكنه أو طعامه، ولما سألت عنه قيل إنه ترك البلاد، ثم بعد سنوات زرت إحدى المكتبات في طرابلس بليبيا فإذا بمجلد ضخم من تأليفه يباع فيها، تصفحته فوجدته دعوة صريحة للتشيع في مصر وحقدا جارفا على أهل السنة، وإثارة لفتنة يعلم الله مآلها، فلم أزد على أن قلت: (لا حول ولا قوة إلا بالله، كم فتىً ضيَّعه أهلُه).
وفي اليوم الرابع زارني في الفندق أحد القياديين من الإخوان وأخذني بسيارته إلى ملحق أسفل عمارة هو عبارة عن شقة من غرفة ومطبخ وحمام أعطاني مفتاحها وقال: (أرى أن تسكن هذه الشقة فهي خير من الفندق)، ولما ألقيت نظرة فاحصة على أركانها لا حظت أنها نظيفة ولكنها غير آمنة، لأن النصف الأسفل من جدرانها آجر، والنصف الأعلى كله زجاج هش شفاف، فأخذت منه المفتاح مسايرة له وشكرته، ثم أعادني إلى الفندق.
وفي مساء نفس اليوم زارني الأخ محمد رشيد العويد وهو صحفي في مجلة المجتمع ثم اقترح علي أن أقيم عنده في بيته ما دام عزبا ووحيدا، وألح على أن يأخذني معه في نفس الليلة فغادرت الفندق وذهبت معه تمويها على نيتي مغادرة البلاد، من غير أن أخبره بخبر الشقة التي وضعت رهن إشارتي.
إلا أنني بعد صلاة صبح تلك الليلة فوجئت به يقول لي: (سمعت أن الأخ فلان وضع رهن إشارتك شقة)، قلت: (نعم)، قال: (ما رأيك أن نذهب إليها هذا الصباح لنغسل ملابسنا لأن غسالة بيتي معطلة)، قلت ولم تكن لدي أي ملابس متسخة: (لا مانع)، قال: (فاجمع ملابسك لنذهب هذا الصباح) قلت: (ملابسي مجموعة في حقيبتي)، ولما توجهنا إلى سيارته لم يحمل معه شيئا من ملابسه فسألته: (وأين ملابسك التي تنوي غسلها؟) قال: (سأجمعها بعد الظهر وآتي بها إليك). ثم أخذني إلى الشقة وقال: (هل ترافقني إلى مكتب المجلة نشرب شايا أم تبقى هنا)، فقلت: (بل أرافقك إلى مكتب المجلة لأطالع الصحف اليومية). ثم لما استوى بنا المقام في مكتبه وشربنا شاي الصباح استأذنته في أن أخرج إلى الشارع أستروح نسيم الصباح به، وبعد أن أبتعدت قليلا أخذت سيارة أجرة إلى إحدى وكالات السفر وسألت عن أقرب رحلة إلى روما فقيل لي: (لدينا رحلة في نفس اليوم على الساعة الثانية عشرة ظهرا فهل تستطيع أن تدركها؟) قلت:( نعم )، وحجزت تذكرة سفر لتلك الرحلة، ثم ركبت سيارة أجرة إلى الشقة وأخذت حقيبة ملابسى وتوجهت إلى المطار، وقبل إقلاع الطائرة بنصف ساعة كنت على متنها، وعند غروب شمس نفس اليوم كنت في فندق "فيا ديل كورسو" في قلب العاصمة روما متمثلا بقول المتنبي:
فقد نظرتك حتى حان مُرْتَحَلي وذا الوداعُ (فلا) أهلاً لما شئتا
كان أول ما قمت به في روما أن اتصلت بالشيخ عبد اللطيف عدنان رحمه الله تعالى لأستطلع مستجدات محاكمة الأخ إبراهيم كمال، فألح في السؤال عن سلامتي، ولما أجبته ضاحكا ومُعرِّضا بما جبل عليه من لين ورحمة وطيبة قلب: (أراك تسألني كما لو كانت الوالدة رحمها الله تعالى تسأل)، قال :(أنت تضحك وأكبادنا تكاد تتفطر، اتصل بأهلك أولا وطمئنهم)، ولما اتصلت بزوجتي إذا بأبنائي من حولها يجاذبونها سماعة الهاتف، ويبكون، وأول ما سمعت صوتي أجهشت في البكاء وهي تحمد الله تعالى وتقول:(أين أنت؟) فقلت لها: (خرجت من السعودية إلى الكويت في أحسن أحوالي، لله الحمد، ماذا أزعجكم؟ ألم تخبرك أختك وزوجها عندما رجعا من الحج؟) قالت: (بلى، ولكن زار بيتنا أيضا عميد الاستخبارات محمد الروداني عنان، وكلمني من خلف الباب سائلا عنك، فقلت له: (هو بين السعودية والكويت دائما) فقال:(هل اتصل بكم هاتفيا هذه الأيام؟) قلت: (نعم) قال: (متى؟) قلت: (قبل يومين أو ثلاثة) قال:(إذن فما وصلنا من أخبار غير صحيح، لقد نشرت بعض الصحف أنه وجد مقتولا في الحرم الشريف فكُلِّفتُ باستيضاح الأمر، الحمد لله على السلامة) ثم انصرف.
كان محمد عنان الروداني هو الرجل الثاني في مصلحة حماية التراب الوطني (D.S.T)، بعد الحسين جميل، وكانت زوجته تلميذة لي وأختا للمقاومين الشهيدين أحمد الشرايبي وعبد الرحمن الشرايبي، ولزوجة الفقيه الشيخ أبو الشتاء الجامعي، ولذلك عامل أسرتي عندما كلف بالسؤال عني بمنتهى الاحترام والتوقير.
وكانت صحف الاتحاد الاشتراكي قد حاولت توظيف أحداث الحرم على الصعيد الوطني في حربها على الحركة الإسلامية فنشرت أول الأمر شامتة ومتشفية أنني وجدت مقتولا في أحداث الحرم، ثم بعد حين عندما اعتقل مسلحو الحرم وأعلنت السلطات السعودية نبأ إعدامهم مقترنا بأسمائهم كتبت جريدة نفس الحزب متسائلة عن سبب عدم ورود اسمي بين القتلى ولا بين الذين أعدموا.
وبعد، فهذا جزء يسير من شهادتي على هذه الفترة، قد أعود له أو لغيره إن شاء الله تعالى بالتفصيل أو المواصلة والتتميم، وإنما هو في جوهره شهادة حق، وكل شهادة يُسَرُّ بها فريق ويَغضَب لها فريق، والحق يُسعد أقواما ويُسخط غيرهم، وإرضاء الجميع غاية لا تدرك.
ولئن كنت قد أطلت أو أثقلت فقد ألجأني إلى ذلك الحرصُ على إيقاظٍ من غفلة، وتعميقٍ لتجربة، وتذكيرٍ {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ق 37، ولا أقول لمن سُرَّ أو سخط وداعا، فقد يكون لي - إن شاء الله تعالى - عَوْدٌ أحمدُ يُرْضي قوما ويَغيظُ غيرهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.