غارات إسرائيلية تخلف 19 قتيلا في غزة    توقعات أحوال الطقس ليوم السبت        بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة        الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    ما صفات المترجِم الناجح؟    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !        تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آفة الحزبية في الدعوة إلى الله


بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين
من ذاكرة العمل الإسلامي/ الحلقة التاسعة
آفة الحزبية:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}المؤمنون 53
لقد كنت ألجأ إلى الكويت بين الفترة والأخرى لانفتاحها على العالم ويسر الاتصال الهاتفي منها بالمغرب ولمتابعة محاكمة الأخ كمال والتنسيق مع المحامين حولها، إلا أن علاقة الشحناء بين بعض الإسلاميين فيها أضرت بي، لاسيما وقد كنت أخلص المودة لهم جميعا، وأحرص على معاملتهم بما ينبغي أن تكون عليه علاقة المؤمن بالمؤمن، ولكن الطائفية الحزبية كانت معششة في قلوب بعضهم وعقولهم، وكان الأخ محمد سرور زين العابدين مع جماعة أخرى سورية من درعا من ذوي الأخلاق البدوية الأصيلة يضيفونني أحيانا في مآدب يقيمونها للتخفيف والترويح عن النفس، فأحضر مجالسهم وأستأنس بحسن ضيافتهم، ولم أكن أعلم أنني مراقب وأن من يراقبني لا يرضى تلبيتي دعوات بعض الإسلاميين في الكويت، وبعد فترة صارحني بذلك مصطفى الطحان إذ قال:(ما كان من حقك أن تتصل بأعدائنا)، فوجئت بما قال وأجبت: (ومن هم أعداؤكم؟) فقال: (محمد سرور وشلته) قلت: (سبحان الله أنا لا أعلم إلا أن المؤمنين إخوة، وأن محمد سرور على خير من دينه) قال: (أنت حديث عهد بالبلد فلابد أن تستشيرنا في كل علاقاتك)، قلت: ( كيف عرفتم أنني أزور الأخ زين العابدين وجماعة درعا، هل تتجسسون علي؟) قال: (ولم لا؟ كان عمر يتجسس على الرعية حفاظا عليها)، قلت: (ومن منكم عمر رضي الله عنه فأبايعه؟ ثم ألم تعلم أنني أجنبي في هذا البلد ولا بيعة لي فيها لأميرها الحقيقي أحرى أن تكون لغيره؟ وهل تعلم أن تجسس عمر على الرعية لو ثبتت صحته قد تاب منه كما ورد في الرواية نفسها؟).
وقبل هذا الحوار بأقل من أسبوع، كان قد وردني خبر اعتقال الأخ عبد اللطيف عدنان رحمه الله ومجموعة من الشباب، فحزنت حزنا شديدا نسيت به أن أتناول طعاما اليوم كله، ثم أخذني الإرهاق النفسي إلى أن يغلبني النوم بعد صلاة المغرب فلم أستيقظ إلا بعيد الساعة الثانية عشرة ليلا، وقد أحسست بألم الجوع وشدة الحر، فصليت وخرجت أبحث عن مطعم أو دكان أشتري منه طعاما، فالتقيت بمصطفى الطحان عائدا يهم بصعود الدرج إلى بيته، وسأل: (إلى أين؟) فقلت: (أرهقتني حرارة الدكان فخرجت إلى الشارع ألتمس هواء ليليا رخوا)، ثم واصلت طريقي على امتداد الشارع أسير ببطء، وبعد حوالي عشرين دقيقة إذ لم أجد طعاما أشتريه التفتُّ راجعا فإذا بمصطفى الطحان لم يدخل بيته وإنما رجع إلى الشارع ووقف على ناصيته ثم أخذ يراقبني ويتتبع خطواتي، ولما أُحرِج بموقفه هذا أَخرَج من جيبه ورقة وأخذ يحاول قراءتها تحت مصباح الشارع، فلما وصلت إليه قال: (لقد أعجبتني رطوبة الجو أنا أيضا).
وأذكر في تلك الفترة أيضا أنني كنت أسير في الطريق راجلا فإذا بعبد الله المطوع ( أبو بدر)يقف بسيارته ويدعوني للركوب ففعلت، وفي الطريق أخذ يشكو من مضايقات يتعرض لها، وأن أمير البلاد في جلسة له معه اتهم جماعته بأنها مخترقة، وفهمت من كلامه أنه يعنيني، فسألته: (هل يعني الأمير أنكم مخترقون بأعداء البلاد؟) فرد: (الاختراق أنواع وأصناف)، فسكتُّ ثم استأذنت للنزول من السيارة بدعوى أنني وصلت إلى المكان الذي أقصده.
ثم في جلسة لي مع أحد كبار الإخوان هو الأخ عبد الله العقيل وكان مديرا للشؤون الإدارية في وزارة الأوقاف بالكويت، إذا به يفاجئني بقوله: (ما رأيك إن أخذنا ضمانات من الملك الحسن الثاني هل تعود إلى المغرب؟) فقلت: (ومن يأخذ لنا هذه الضمانات؟) قال: (عمر الأميري) قلت :(الأميري نفسه إن غضب منه الملك هل له من ضمانات لنفسه؟)، ثم عقبت: (ولماذا لا يستخدم هذه الضمانات لإخراج الأخ كمال من السجن أولا؟، غفر الله لك يا عبد الله ) فسكَتَ ولم يعقب.
ثم لما عزم أمر السلطة المغربية على تصفية المحاكمة بعد أن طالت أكثر مما ينبغي وبعد أن توهمت أن (القرعة) التي استنبتت بين كتفي الحركة قد أينعت، اشتدت في الكويت محاولة اختبار نواياي وما قد أفعله إن اشتد التضييق بي في المنطقة، وصادف أن القذافي صرح في أمر القومية برأي مثير فطلب مني إسماعيل الشطي الذي عوض بدر القصار في رئاسة تحرير مجلة المجتمع أن أكتب افتتاحية للعدد الجديد تعليقا على هذا التصريح، فلما كتبت الافتتاحية ثارت لها ثائرة السفارة الليبية واحتجَّتْ وصدر أمر السلطة الكويتية بمصادرة العدد من الأسواق.
ثم إذا بأحد الإسلاميين القياديين في الكويت يتصل بي مباشرة ويقترح أن يزودني بجميع الملفات المتعلقة بالقذافي وأن أؤلف كتابا لبيان نقائضه، تطبع منه مئات آلاف النسخ، وأن هناك جهات غنية تشتري مني الكتاب بأعلى الأسعار ويبقى لي نصيب من المبيعات في جميع الأسواق، وأضمن بذلك ما يغطي حاجتي ويوفر لي ثروة لا بأس بها، فاعتذرت عن قبول العرض، وتساءل صاحبه عن السبب، فقلت له:( لا يهمك أن تعرف السبب، ولكن إذا حان وقت ذكره عرفته إن شاء الله).
وبعد أن التحق الأخ إسماعيل الشطي بالولايات المتحدة الأمريكية زارني أثناء أدائه العمرة بمكة ودعاني للمشاركة في مؤتمر للطلبة العرب المسلمين هناك، بإلقاء محاضرة حول الإسلام في إفريقيا، والمشاركة في ندوة دعوية مع الشيخين الغزالي وحسن أيوب رحمهما الله تعالى، فأبديت التحفظ في قبولها بحجة صعوبة الحصول على التأشيرة الأمريكية، فقال إنه سوف يدبر الأمر مع الأخ الدكتور عبد الله نصيف عميد إحدى الكليات في جدة، ولما رجع إلى أمريكا، فوجئت بعد حوالي أسبوع بمكالمة من الخطوط المغربية في جدة تخبرني بأن لدي عندها تذكرة سفر إلى الولايات المتحدة بواسطة الخطوط الملكية المغربية وسألت: (مع تغيير الطائرة في الدار البيضاء طبعا؟)، فقال موظف الخطوط: (نعم)، فلم أعلق بالرفض أو القبول، وبعد حين ذكروني بضرورة التعجيل باستلام التذكرة، ثم اتصل بي الدكتور عبد الله النصيف يطلب مني إرسال جواز سفري إليه ليقوم بإجراءات التأشيرة إلى أمريكا فاعتذرت عن تلبية الدعوة برمتها، وبعد يومين تقريبا اتصل بي إسماعيل الشطي هاتفيا من أمريكا ملحا على الحضور، ولما عاتبته على الحجز بالخطوط المغربية عن طريق الدار البيضاء اعتذر ووعد بأن يغير خطوط الرحلة فأصررت على رفض الدعوة.
لذلك فضلت مداومة الاستقرار في مكة المكرمة والإقلال من زيارة الكويت إلا للضرورة، وكم كان يؤلمني في مكة المكرمة أنني انقطعت عن خدمة الدعوة الإسلامية في بلدي، ولا يسمح لي بذلك في أرض المهجر، إلا أن الله منَّ عليَّ بأن فتح لي بابين أساهم بهما بجهد المقل في هذا المجال، أولهما عندما زارني الشيخ عبد اللطيف عدنان وشكا إليَّ أمر فتية فقراء من الحركة طردوا لأسباب عدة من دراستهم بالمدارس الإعدادية والفصول الثانوية الأولى، وهم بذلك عرضة للضياع علميا واقتصاديا، ولما سألته عن عددهم استكثر العدد وقدر أن الحالات العاجلة تتجاوز عشرين حالة على أقل تقدير، فلما عاد الشيخ عدنان إلى المغرب سافرت إلى الرياض وعرضت الحالة على الشيخ حمد الصليفيح فقال:( أبشر، أبشر ياشيخ فليس لنا أن نتخلى عن المسلمين) ثم أخذني إلى عميد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي فقدمني له ورحب بي خير ترحيب، ولما عرضت عليه الأمر قال: (الأمر بسيط، نسجلهم في المعهد الديني ليحصلوا على الثانوية العامة أولا، ثم يلتحقون بالجامعة)، ثم أحالنا على الشيخ خالد العجيمي ليتم لنا إجراءات التسجيل، وأعطاه الإذن بقبول كل من يأتي من قبلي.
وعندما اجتمعنا بالأخ خالد العجيمي كان أكثر حماسا للأمر وأخذ أسماء الدفعة الأولى من الطلبة، ومعلومات عن أعمارهم ومستواهم الدراسي ثم قال:(سوف أبعث إليهم بتذاكر السفر وتأشيرة القدوم إلى المملكة خلال أسبوع تقريبا)، ولما لاحظت أنني لم أقدم أي وثيقة تثبت مستواهم الدراسي أو أعمارهم، ابتسم وقال: (يكفينا في الأمر شهادة رجل مثلكم) فشكرته واستأذنته في استخدام هاتفه إلى المغرب للاتصال بالشيخ عبد اللطيف رحمه الله لأزف إليه الخبر، فأخذ مني سماعة التلفون وقال للشيخ عبد اللطيف: (معاهدنا مفتوحة لطلبتكم ولو كانوا ألفا، كلما تعذرت مواصلة الدراسة على أحد من طلبتكم ابعثوه إلينا).
من تلك اللحظة فتح لي باب يخفف عني ما أشعر به من عجز عن خدمة إخواني وتلامذتي في المغرب، وكنت كلما وصل إلى المملكة فوج منهم أستقبله وآخذه إلى المعهد فأسهر على تخصيص غرفة مكيفة له، وفراش وطيئ ومنحة مزجية. كل ذلك بفضل الله أولا ثم بفضل أريحية الشيوخ حمد الصليفيح وعبد الله بن عبد المحسن التركي وخالد العجيمي الذين أنقذ الله بهم عشرات الشباب المغربي من الجهل والفقر. ولئن انقطعت أخبارهم عني بعد تخرجهم فإنني أحسب عملهم دائما إن شاء الله في سبيل الله كما قال صلى الله عليه وسلم: (من سعى على والديه ففي سبيل الله ومن سعى على عياله ففي سبيل الله ومن سعى على نفسه ليعفها فهو في سبيل الله، ومن سعى مكاثرا ففي سبيل الطاغوت) وفي رواية: (سبيل الشيطان).
أما الباب الثاني الذي فتح لي لخدمة الحركة فعندما أحضر لي أحد المحامين جزاه الله خيرا نسخا من كافة وثائق الملف المعروض على القضاء، فاعتكفت على دراسته، مستعينا بما بقي في ذاكرتي القانونية، وكنت رأيت في المغرب أن أؤيد ما لدي من علم شرعي بدراسة القانون الوضعي في كلية الحقوق ومقارنته به، بعد أن قرأت كتاب الشهيد عبد القادر عودة رحمه الله تعالى:(التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي)، وتبينت من خلال مراجعتي لوثائق القضية تناقض محتوياتها مع بعضها، وتناقضها مع واقع الأحداث، وتناقضها مع أبسط مقتضيات القضاء المستقل، كما اكتشفت فيها أصابع العبث والتزوير وإعادة تركيب الأحداث بما يخدم أهداف الأجهزة الأمنية، وترضياتها ومساوماتها السياسية، وأكثر من ذلك تبينت لي خلفيات السير العام للقضية، وأسباب تأخير الفصل فيها لمدة تتجاوز أربع سنوات، لا سيما وقد كنت أعلم ما ستسفر عنه جلسات المحكمة قبل انعقادها، أعلم ذلك بما يتسرب إلي من بعض الأعضاء في الإخوان المسلمين المتصلين بالخطيب والأميري، وأذكر مرة أن القضية لما طالت فعينت لها جلسة في يوم إثنين، وقبل هذا الموعد بيومين أو ثلاثة كنت مع المرحوم كمال السنانيري وقلت: (أرجو أن تنهي جلسة الإثنين المقبل هذه القضية فينطق فيها بالحكم) فعلق الشيخ كمال السنانيري رحمه الله وكان دمث الخلق طيبا:(ألم تعلم أن القضية قد أجل فيها النظر مرة أخرى؟) فقلت: (كيف يؤجل وهي لم تنعقد جلستها؟) فقال: (أقول لك تأجلت وأنت لا تصدق؟). ثم في يوم الإثنين يوم الجلسة أجل القاضي النظر في القضية إلى أجل يسمى فيما بعد.
لذلك فكرت في مساعدة هيئة الدفاع عن الأخ كمال بمحاولة كتابة مرافعة تخفف عنها أعباء دراسة ملف القضية وتساعد في الأمر، وأخذت أتفرغ كل يوم لفرز ملاحظاتي حول محاضر التحقيق الأمني، والتحقيقين التمهيدي والتفصيلي لدى قاضي التحقيق، وأدون ذلك في كراستي بتفصيل. وكلما أشكل علي أمر استشرت الصديق الدكتور أحمد العسال رحمه الله تعالى، وهو من أفاضل الفقهاء بالرياض، والصديق الدكتور محمد سليم العوا مستشار الرئيس المصري الحالي الدكتور محمد مرسي، وهو من كبار المختصين في القانون الجنائي.
إلا أن حدثين أزعجاني في هذه الفترة، ما أزعجني فيها إلا السقوط الأخلاقي لصاحبيهما، الأميري والخطيب، أما الأول فلجوء الأميري إلى التحريض على إخراج أسرتي من البيت، وقد كان يريد في الكويت أن يساومني به إذ قال لي في بيت عبد الله المطوع:(عند عودتي سأعمل على ألا تخرج الإدارة أهلك من بيتهم الوظيفي) فرفضت مساومته وطلبت منه ألا يتدخل في الموضوع، وبعد عودته للمغرب أرسلت وزارة التعليم رسالة لزوجتي تطالبها بإخلاء السكن الوظيفي، ثم دعاها نائب وزير التعليم بالدار البيضاء لتنفيذ الأمر لأن وزارة التعليم لا تستطيع اقتطاع حق الإيجار من راتبي المتوقف، فذكرته زوجتي بأنها مدرِّسة أيضا وتستطيع الإدارة اقتطاع حق الإيجار من راتبها، فوافق وأجرى المعاملة، بعد أن قال: (هذا هو الإجراء الطبيعي ولكن بعض المتطفلين على الإدارة يريدون غيره ولن أرضخ لهم).
أما الحدث الثاني فيتعلق بكون زوجتي وأبنائي كان لهم جواز سفر مشترك منتهي الصلاحية ولكنه قابل للتمديد بسهولة، حتى هذه الثغرة القانونية عمل الدكتور الخطيب على إغلاقها، بأن اتصل بأحد أصهاري وأظهر له العزم على مساعدة الأسرة بتمديد جوازها، وطلب منه استحضار الجواز للقيام بالإجراءات اللازمة، فأعطاه صهري الجواز ثم حجزه وبقي عنده إلى يوم الدين ليكون شاهدا عليه.
ومن طرائف ما اكتشفته من تصرفات الأميري في هذه المرحلة أنه قبل خروجي من المغرب بحوالي سنة تقريبا، طلب مني أن أحتفظ له في بيتي بصندوق حديدي كبير ادعى أنه أمانة من الدكتور توفيق الشاوي، ثم لما هوجم البيت في أول المحنة من قبل رجال الأمن وفتشوا مرافقه كلها ولم يمسوا الصندوق بسوء، استشارتني الزوجة في أمره، فأمرت الشيخ عبد اللطيف بكسر قفله فإذا به مملوء بالصور الشخصية والسياحية العادية وبعض المجلات والصحف المتداولة، مع جهاز غريب قد يكون جهاز إرسال، فرمى بذلك كله خارج البيت.
أما الحدث الثالث فكان ما حل بابني محمد وهو في مرحلة التعليم الثانوي إذ اعتقل واحتفظ به رهينة عند الشرطة، وعندما بدؤوا في التحقيق معه سأله الشرطي عن مستواه الدراسي فلما قال:(السنة الخامسة ثانوي) صفعه بحقد وسب الدين وقال:(..... ولده في هذا المستوى وأولادنا فاشلون)، ثم نزل به إلى سرداب التعذيب لا لشيء إلا لأنه ابني، ولما خرج من المعتقل بعد أسبوعين ورجع لثانويته لمواصلة دراسته، رفضت إدارة الثانوية قبوله بسبب انقطاعه عن الدراسة بدون عذر، ولما حاول استخراج شهادة بأنه كان معتقلا رُفِض تمكينه منها، ولما سجلته في المعهد الديني بالرياض وبعثت له التذكرة والتأشيرة، حاول استخراج الوثائق المطلوبة للحصول على جواز السفر، وأولها شهادة السكن، فصرفه موظف البلدية قائلا: (أنت ابن عبد الكريم مطيع، لست من سكان منطقتنا)، ومكث خمس سنوات عاطلا لا يملك مجرد بطاقة تعريف، إلى أن يسر الله لي إخراجه من المغرب، فأكمل بتفوق دراسته الثانوية والجامعية والعليا بفضل الله تعالى، له الحمد والشكر وهو على كل شيء قدير.
وفي مكة التقيت بالأخ برهان الدين رباني زعيم حركة الشباب المسلم في أفغانستان، كان المسكين في نفس وضعي فارا من الملك ظاهر شاه، ويسكن مثلي في أبسط فنادق مكة وأرخصها، وطالما كتب رسائل للسلطة السعودية يحذر من مغبة سياسة ظاهر شاه والسيطرة الشيوعية الزاحفة بالتدريج على مقاليد البلاد، وكلما كتب ملتمسا في الموضوع طلب مني تصحيحه نظرا لعجمته الغالبة على أسلوبه، فأصححه ترضية له، بعد أن أنبهه إلى عدم جدواه نظرا للعلاقة الوثيقة بين البلدين فلا يقتنع، ثم لما تمت سيطرة الشيوعيين على الحكم وأطاحوا بالرئيس محمد داود الذي خلف الملك، نُقِل برهان الدين رباني من الفندق البسيط إلى فندق الفتح، وعرضَتْ عليَّ السعودية بواسطة كمال الهلباوي أن أنتقل إلى بشاور للمساهمة في التحريض على الجهاد فاعتذرت ولم أبين سبب اعتذاري.
وأذكر يوما أخذني فيه الأخ رباني لحضور جمع في الحرم الشريف يعقده بعض الشباب المسلمين المصريين القادمين إلى مكة للعمرة، وكان كل منهم أميرا لجماعة إسلامية في كلية من كليات مصر، ولما عرَّفهم الأخ برهان الدين رباني بشخصي ألحوا على أن أنقل إليهم تجربتنا في المغرب، فلبيت طلبهم ثم عقبت بسؤال عن أميرهم جميعا في مصر، فذكروا أنهم لا يمثلون تنظيما واحدا، وأن لكل كلية أميرها، فانتقدت وضعهم التنظيمي المخالف للسنة النبوية، ولما رد أحدهم بأن تقارب السن بين الجميع لا يساعد على تحقيق ذلك، اقترحت عليهم اختيار عالم فقيه صادق شجاع من بلدهم، يحوز ثقتهم واحترامهم ويكون أعلمهم وأكبرهم سنا، فأبدوا موافقتهم على الاقتراح والعمل به عند عودتهم. ثم قبل وداعهم سألتهم عن أوضاع الدعوة الإسلامية في مصر، فانبرى شاب منهم عرَّف نفسه باسم محمد الإسلامبولي وارتجل كلمة طيبة موجزة جوابا لما سألتهم عنه.
ثم لما زار رباني ليبيا وهو رئيس دولة أفغانستان، ضيفا على القذافي والتقيت به في الفندق، وتبادلنا الحديث عن أوضاع المسلمين، لم يسألني قط عن أي محنة أشكو منها وإن عرَّضت تعريضا خفيفا بحاجتي إلى جواز، وكنت في أشد الحاجة إليه، فتجاهل ذلك، وكانت جوازات السفر الأفغانية يتلاعب بها في الأسواق.
وبعد حوالي شهر زار وزير خارجيته ليبيا واستقبله القذافي، فزرته في الفندق، وكان سلفي الدعوى، لا يفتأ يذكر الشيخ ابن باز رحمه الله بخير، فلما سألته عن أحوال المجاهدين العرب الذين نصروهم في الحرب، فوجئت به يقول: يا أخي لقد أحرجونا مع الدول العربية، نحن نريد تطبيع علاقاتنا بها ووجودهم عندنا يعرقل ذلك، إلا أننا نحاول التخلص منهم بإرسالهم للجهاد في جامو وكشمير) فلم أعلق وودعته ولم أعد إليه.
وفي مكة زارني الأستاذ المامون الفاسي المحامي أثناء مرافقته للأمير عبد الله بن محمد الخامس رحمهما الله تعالى في عمرة له، وعرض علي أن يصلني بالأمير للاستعانة به في حل القضية المعروضة على القضاء، واقترح أن يجمعني به عند المروة أثناء أدائه العمرة التي حدد لها يومها وساعتها، إلا أنني لم أذهب إلى الموعد ليقيني أن الأمير نفسه في ضوائق مما يُمْكر به، ولخشيتي من أن تُرَتَّب على اللقاء تهمة ثالثة لا قبل لي بتحملها.
وفي هذه الأثناء زارني الأخ يوسف العظم وهو من كبار الإخوان المسلمين بالأردن، فاجأني بالزيارة في مكة صحبة الأخ الدكتور عزت جرادات ودعاني لمرافقته في جولة ترفيهية بجدة، ولكن هذه الجولة أخذتني معهم على غرة إلى السفارة الأردنية، فاستقبلنا السفير الذي كان من أصول موريطانية بالترحاب، ثم فاجأني بتقديم دعوة لي لزيارة الأردن ولقاء الملك الحسين، الذي ذكر أنه يهتم بأمري ويريد أن يقوم بوساطة لصالحي لدى الملك الحسن الثاني على رغم أنني لم أسع لذلك ولا عملت له، ولم أفكر فيه، والملك حسين نفسه لا يعرفني ولا يبالي بأي واد قد أهلك، فأحرجت حرجا شديدا لم أجد معه إلا أن أعِدَه بالتفكير في الأمر، ولكنه لحرصه طلب جواز سفري ثم وضع عليه تأشيرة مجاملة معفاة من الرسوم.
اتضح لي أن الزيارة والجولة الترفيهية وزيارة السفير الأردني والتأشيرة كل ذلك معد سلفا ومرتب له بدقة، لاسيما عندما بدت على يوسف العظم معالم الارتياح وعلق: (خلاص انتهى الأمر، ولم يبق لي إلا أن أتصل بالياوور الخاص لجلالة الملك، ليحدد لنا موعدا مع جلالته). ثم سألني: (هل تعود هذه الليلة إلى مكة؟) فسألته: (وأنتما أين تقضيان هذه الليلة؟) فقال صاحبه: (سوف نزور الدكتور توفيق الشاوي).
ثم بعد عودة يوسف العظم إلى الأردن اتصل بي هاتفيا وقال:(لقد حددت موعدا للقاء جلالة الملك، فأرجو أن تحجز الطائرة يوم الأربعاء وسوف ننتظرك في المطار)، إلا أنني لم ألب الدعوة لعلمي بخلفياتها ومخاطرها التي نبهني إليها مسلم استشرته. فاتصل بي يوسف العظم بالهاتف محتجا: (لماذا أخلفت موعدنا؟ لقد صرت مثل مهابيل المشايخ)، فاعتذرت له بظروف قاهرة لم أتغلب عليها، وعلقت في نفسي:( شيخ أهبل خير من شاطر طماع في الحبل ).
ثم انكشفت لي مشاعر النصرة لدى يوسف العظم عندما حصل أحد أبنائي على الإجازة في فرنسا واشترطَتْ عليه الجامعة للقبول في قسم الدراسات العليا أن يدلي بتزكية من بعض أهل العلم أو السياسة المعروفين فلجأت إليه هاتفيا وهو المقرب من الملك حسين، فرد عليَّ بقوله: (يا أخي التزكية شهادة، وأنا لا أعرف ولدك، وشهادتك في ولدك لا تقبل شرعا لأنك أبوه وشهادة الوالد لولده لا تجوز) فرددت عليه: (لعلك لم تميز بين مساعدة طالب على إتمام دراسته العليا وبين الشهادة القضائية في المحاكم لإثبات حقوق أو نفيها)، فتراجع وقال: (طيب أرسل إلي مسودة لها) فرددت:(شكرا لا داعي للأمر كله، السلام عليكم) وقطعت المكالمة. ثم أغنى الله ابني عن تلك التزكية فقبل في قسم الدراسات العليا بفضل الله تعالى وتخرج بتفوق. ولله الحمد أولا وأخيرا.
لقد أكدت لي تجربتي مع بعض المتعصبين لأحزابهم أو فئاتهم قناعة كانت راسخة لدي منذ انسحبت من المجال الحزبي والسياسي وهي أن آفة التعصب لأي فئة أو جماعة أو حزب تحجب الرؤية الشرعية السليمة للعلاقات الإنسانية والإسلامية والخلق السوي، وتبعد صاحبها عن العدل في الأحكام، وتركسه في الانحياز ضد الحق الذي لا يوافق حزبه أو سياسته أو مصلحته، فيبيح لنفسه كل محرم ويقتحم كل إثم، ويتجرأ على الكذب والمكر والخداع والغدر والخيانة، لذلك لم يسبق قط منذ تأسست حركتنا الإسلامية أن دعوت لحزبية أو عملت لحزب، أو فكرت في الانضمام لحزب، لأن التكوين السليم للداعية يتعارض مطلقا مع التكوين الانتهازي البراغماتي للتحزب، وطالما رأينا قادة أحزاب النكهة الإسلامية يتنازلون عن الثوابت الدينية قولا وفعلا وفتوى، من أجل الحصول على إيصال تصريح بحزب، أو من أجل وصول إلى برلمان، أو من أجل استدامة في كرسي تُصُدِّقَ به عليه، بل منهم من بالغ - استدامةً لكرسيه ومنصبه - في تكريم أرذل خلق الله من الإناث والذكور، وزكى الفاحشة جهارا صورة وصوتا، وخالف الأحكام الشرعية قولا وفعلا وسلوكا، ومنهم من رقص على المنابر ليضفي على نفسه صفة الانفتاح والعصرنة، واتخذ لشرعنة انحرافاته هذه كلها ديدانَ قراء جعلوا مقاصد الشرع ومصالحه المرسلة مرقاة إلى سخط الله وغضبه، ولله في خلقه شؤون.
وهذا لا يعني أنني أعارض الانتماء الحزبي، أو أعترض عليه، لأن الأصل في الناس حرية الاختيار، ولكنه يعني أن الاشتغال بالدعوة الإسلامية والالتزام بأخلاقها والتماس القدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب التأسي بسلوكه وسنته، كل ذلك يتعارض مع واقع الحزبية وسلوك أهلها، ولذلك أحترم دائما كل دعوة سليمة العقيدة تبتعد عن الحزبية والتعصب الحزبي وأجلُّها وأقدرها كما هو موقفي دائما من جماعة الدعوة والتبليغ مثلا، ومن جميع التيارات الدعوية السِّلمِية السَّليمة غير المتحزبة، ولذلك أيضا يلاحظ أن جميع أعضاء حركتنا منذ كانت وإلى وقتنا هذا لا ينخرطون في أي حزب سياسي، ولا يقبلون العضوية في أي منظمة حزبية، وهم في نفس الوقت لا يعادون أي حزب ولا أي حزبي، وأن كل الذين مالت أنفسهم إلى الحزبية أو النشاط الحزبي انفصلوا عنا، فكان منهم منفصل مسالم ذو مروءة، وآخر معاد مبغض حاقد، قال تعالى:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} البقرة 148
وللحديث بقية...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.