لا يخفى على المحللين والدارسين والمتتبعين للشأن العربي خاصة، أن من أسباب ثورات الربيع العربي هو ما تعاني منه شعوب الدول العربية من الفقر والظلم والاستبداد والطغيان والهيمنة التامة على خيرات هذه البلاد، حتى كشف الربيع العربي ما لم يقع بالحسبان، فالأموال توزع بلا حسيب ولا رقيب على الرؤساء والأمراء والسلاطين، وأيضا على الحاشية والمقربين، من المنافقين والمتملقين والمفسدين.وتهرب الأموال أيضا إلى الخارج وتكدس هناك، وينتفع بها أولئك الذين يحسبون أنفسهم من أكبر المدافعين عن حقوق الإنسان، في صمت مريب. ونحن في المغرب لم نخرج عن السياق العام الذي يحكم العالم العربي، فحالنا لا يخفى على القاصي والداني، حتى أصبحنا دولة الامتيازات بامتياز، وأصبح منا من يبحث عن الامتيازات بأي وجه كان، وبأي الأساليب والحيل، مما أضر بفئة كبيرة من الشعب، وأضر أيضا بميزانية الدولة، فنشأ عن ذلك اختلال في التوازن الاجتماعي. وهنا ينبغي التفريق بين الامتيازات التي تعد من قبيل التعويض أو المكافأة عن المسؤولية أو عن العمل، وبين الامتيازات الزائدة عن هذا الحد، وهي من غير شك نوع من السطو على المال العام، واستعماله في غير الوجوه المشروعة التي خصص بها. ولا ريب أن هذا من أفحش الظلم، حيث تجد بعض المسؤولين مثلا يتصرف في سيارات الدولة بلا حسيب ولا رقيب، فكأنما ورثها عن أبويه أو عن أجداده. فلزوجته سيارة، ولأبنائه سيارة، ولأقاربه سيارة، ولخادمته سيارة، ناهيك عن الهواتف المحمولة والثابتة، وتسديد فواتير الماء والكهرباء، والبنزين،وما خفي كان أعظم، حتى نشرت إحدى الصحف المغربية أن وزيرا ممن يحلو له أن يشنف أسماع المواطنين بالعبارات الطنانة والمنمقة، من أمثال الشفافية والديمقراطية والنزاهة يشتري قنينة الغاز من الميزانية الخاصة بأذونات الشراء Bons de Commandes. ثم ما لبثنا نسمع عن أصحاب الشكولاتا والورود والأقلام الباهظة الثمن، وغيرها مما تتقرف من ذكره الطباع السليمة. وهناك لون آخر من الامتياز لدى بعض المسؤولين هو إحساسهم بالتعالي والتنفخ والكبرياء على العباد، فيقربون إليهم كل من ينحني إليهم، ويطأطئ الرأس إجلالا وتعظيما، ولو نفاقا، أو يأتيهم بحكايات الأخبار بما يدور في كواليس الموظفين من الكبار والصغار، فيغدقون على هذا الصنف الانتهازي من فتات المال العام. وبخاصة إذا كان ممن يشترك معهم في الانتماء الحزبي، فقد وافق شن طبقة. والحق أن المرء ليتعجب كل العجب من هذا المستوى الدنيء لتحمل المسؤولية، من قوم لا خلاق لهم، بل كان حريا بمن قلدهم المسؤولية أن يعرضهم على طبيب نفسي، لمعرفة مدى اتزانهم العقلي واستوائهم النفسي، لأن المسؤولية أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة. كما أن هناك ضربا آخر من الامتيازات التي ضربت على المغاربة، ولا أحد يتكلم عنها، هي تقاعد البرلمانيين والوزراء، لمدة وجيزة تعد على رؤوس الأنامل. لم يتحدث أحد، لا من اليمين ولا من اليسار ولا من الوسط، ولا من الإسلاميين، ولا من الليبراليين العلمانيين،ولا من لا لون له، عن الوزراء أو البرلمانيين الذينيمضون ست سنوات في المسؤولية أو النيابة، ثم يمنحون التقاعد. لم يفعلوا ذلك لأجل أن هذا التقاعد حلو المذاق. أين هؤلاء من أولئك الموظفين الذين جرى بهم السيل طيلة أربعين سنة، أو ما يقاربها من العمل، لم يحصلوا فيها سوى فتات العيش، دراهم معدودة، تزيدهم أمام الغلاء المتفاحش بؤسا ونكدا، وحسرة وألما،أو سيفا من المصارف على رقابهم مسلطا، يسددون به أقساطا لأخطبوط السكن الاجتماعي.أين هؤلاء من أئمة المساجد، والقيمين عليها، حيث لا تقاعد، ولا أجرة مشرفة تحفظ كرامتهم، وتحسسهم بآدميتهم، ولا تدعهم يترقبون من يتصدق عليهم. وأقر لإخواني القراء الأعزاء أن ما ذكرته هنا، سوى نقطة من بحر عميق من الامتيازات، اكتفيت بذكر بعضها، مومئا إلى أعلاها وأدناها، لأن الامتيازات مراتب، بعضها فوق بعض، وهي كذلك بحسب المسؤولية، وأيضا بحسب مكانة المسؤولين. ولا جرم أن بعضها قد لا يخفى عليكم. ومهما استرسلنا وأفضنا في ذكر الامتيازات والتوسع فيها غير المشروع، محررين القول في ضروبها وأصنافها، وسبلها وحيلها. فإنه مما ينبغي التنبيه إليه، هو خطورة هذه الامتيازات، وأنها عائدة لا محالة على الدولة بالاضمحلال والضعف والتلاشي، مسببة الإرباك والاختلال في التوازنات الاقتصادية والاجتماعية، ومعرضة الدولة بسبب ذلك إلى الاحتقان والتمرد والفوضى. وهذا فعلا كان من عواقبه الربيع العربي. وقد يظن بعض المسؤولين أن رياح الربيع العربي قد ولت وأدبرت، ولم يعد لها من مسوغات لتقبل من جديد، وهذا خطأ فاحش في التصور، وقراءة سطحية، وتحليل ساذج للواقع المعيش، وغفلة كبيرة عن سنن الله تعالى في الخلق، بحيث لا يدع عز وجل الظالمين يفسدون في الأرض، ويسيمون أهلها ألوانا من العذاب والحرمان، ثم يمضون على ما هم عليه، من غير أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. لكن ذلك مرتبط بوجود عزيمة التغيير، وإرادة التبديل "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". وقد تتدخل إرادة الله تعالى للتغيير من غير وجود أسبابه وشروطه، وذلك حين يشتد الفساد ويتفاقم أمره، ويعجز الناس عن القضاء عليه، وذلك وفق حكمته وعدله. والحاصل أنه لا بد من الوقوف في وجه أصحاب الامتيازات غير المشروعة، المتصرفين في المال العام، تبديدا وتبذيرا وإسرافا، لأنهم يعودون على الدولة بالضعف، وبخراب عمرانها. عبرة لمن اعتبر وفي هذا السياق أنقل حكاية فيها من العبر والعظات، لكل من له مسكة من عقل، ليتفكر ويتدبر فيها، عسى أن يستفيق من غفوته، ويزيل عنه غشاوة الغفلة والجهل. هذه الحكاية صدر بها العلامة ابن خلدون رحمه الله فصلا ممتعا، وغاية في التحليل، وهو "فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران"جاء فيه: "وانظر في ذلك ما حكاه المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم أيام بهرام بن بهرام، وما عرض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظلم والغفلة عن عائدته على الدولة، بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها وسأله عن فهم كلامها، فقال له: أن بوماً ذكراً يروم نكاح بوم أنثى، وإنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام فقبل شرطها، وقال لها: إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية، وهذا أسهل مرام. فتنبه الملك من غفلته وخلا بالموبذانوسأله عن مراده، فقال له: أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة، والقيام لله بطاعته، والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل. والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الرب وجعل له قيماً، وهو الملك. وأنت أيها الملك عمدت إلى الضياع فانتزعتها من أربابها وعمارها، وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال، وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة، فتركوا العمارة، والنظر في العواقب وما يصلح الضياع، وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك. ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمار الضياع، فانجلوا عن ضياعهم، وخلوا ديارهم، وآووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها، فقلت العمارة، وخربت الضياع وقلت الأموال وهلكت الجنود والرعية، وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع القواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها. فلما سمع الملك ذلك أقبل على النظر في ملكه، وانتزعت الضياع من أيدي الخاصة وردت على أربابها، وحملوا على رسومهم السالفة، وأخذوا في العمارة، وقوي من ضعف منهم، فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت الأموال عند جباة الخراج، وقويت الجنود، وقطعت مواد الأعداء وشحنت الثغور، وأقبل الملك على مباشرة أموره بنفسه، فحسنت أيامه وانتظم ملكه." وقد علق ابن خلدون على هذه الحكاية بقوله:"فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مخرب للعمران، وإن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاض." {المقدمة2/742 وما بعدها} والله تعالى يقول: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها." ومن أشد أنواع الفساد بعد الشرك بالله تعالى التصرف في المال العام على حساب المواطنين. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان