كان التاريخ يدرس كأحداث متفرقة مرت؛ من موت زعيم، أو حدوث زلزال أو فيضان، أو مجاعة، كما هو الحال في نشرات الأخبار عندنا، حيث يختلط الحابل بالنابل، فهذا القائد الذي عطس، وذاك اللاعب الذي سجل هدفه المائة برجله اليسرى، مرورا بنشرات المال والأعمال، ودرجات الحرارة وأمواج البحار وهلم جرا.. حتى جاء ابن خلدون فوضع منهجا لتنقيح الأخبار، جمع فيه بين النقل الصحيح والعقل الصريح، وذلك بتحكيم قواعد السياسة وطبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع البشري، فانتهى به الأمر إلى إبطال الكثير من المرويات، التي لم تراعى فيها القواعد المذكورة، والتي لا فائدة من تبديد الجهود في دراستها. لهذا لما يقول القرآن"سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم" لم يكن يقصد طبعا أن نحفظ تاريخ الدول، وأسماء الملوك، وأسماء الذين اغتالوهم، أو عذبوهم، أو رموهم للسباع، فتخطفهم الطير، أو تهوي بهم الريح في مكان سحيق، وإنما كان المقصد هو دراسة أسباب قوتهم، وعوامل تدهورهم، و الاعتبار بحالهم"فاعتبروا يا أولي الأبصار". في الفصل الثالث والأربعين من المقدمة يحكي ابن خلدون قصة عن بهرام(ملك الفرس) حين سمع أصوات البوم فسأل الموبذان(صاحب الدين عندهم) عن معنى كلامها فقال له: إن بوما ذكرا يحاول أن يخطب بوما أنثى، وإنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام، فقبل شرطها، وقال لها: إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية، وهذا أسهل مرام. فتنبه الملك من غفلته، وخلا بالموبذان، وسأله عن مراده، فقال له: أيها الملك! إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بالطاعة، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليفة، نصبه الرب، وجعل له قيما، وهو الملك. وأنت أيها الملك عمدت إلى الضياع فانتزعتها من أربابها وعمارها، وهم الأدرى بحالها، و منهم تؤخذ أموال الضرائب، وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة، فتركوا العمارة والنظر في العواقب، وما يصلح الضياع، وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك. ووقع الحيف على من بقي من أبناء الشعب، وهم عمار الضياع، وعلى أكتافهم تقوم الدولة، فانجلوا عن ضياعهم، وخلوا ديارهم، وأووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها، فقلت العمارة، وخربت الضياع، وقلت الأموال، وهلكت الجنود والرعية، وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك، لعلمهم بانقطاع المواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها... فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مخرب للعمران وأن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاض"ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد[1] التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد[2] وفرعون ذي الأوتاد[3] الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد". [1] أصحاب الأبراج الشاهقة [2] قطعوا الجبال، ونحتوا الصخور بيوتا فارهين [3] الأهرامات العجيبة التي لا زالت لغزا