دبي تطلق خدمة التوصيل بالطائرات بدون طيار الأولى من نوعها في الشرق الأوسط    كيفية تثبيت تطبيق الهاتف المحمول MelBet: سهولة التثبيت والعديد من الخيارات    والي بنك المغرب يعلن الانتهاء من إعداد مشروع قانون "العملات الرقمية"    "هيئة تحرير الشام" تخطط للمستقبل    8 قتلى في حادثتين بالحوز ومراكش    27 قتيلا و2502 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    فينيسيوس أفضل لاعب في العالم وأنشيلوتي أحسن مدرب    بنك المغرب يخفض سعر فائدته الرئيسي إلى 2,5 في المائة    قطاع الطيران... انطلاق أشغال بناء المصنع الجديد لتريلبورغ    جوائز "الأفضل" للفيفا.. البرازيلي فينيسيوس يتوج بلقب عام 2024    تشييع رسمي لجثمان شهيد الواجب بمسقط رأسه في أبي الجعد    المغرب والسعودية يوقعان بالرياض مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في مجالات التحول الرقمي الحكومي    القنيطرة.. افتتاح معرض لإشاعة ثقافة التهادي بمنتوجات الصناعة التقليدية    صحيفة 'لوفيغارو': المغرب يتموقع كوجهة رئيسية للسياحة العالمية    إحصاء 2024: الدارجة تستعمل أكثر من الريفية في الناظور    الرباط.. انعقاد اجتماع لجنة تتبع مصيدة الأخطبوط    العام الثقافي 'قطر-المغرب 2024': الأميرة للا حسناء وسعادة الشيخة سارة تترأسان بالدوحة عرضا لفن التبوريدة        مجلس الشيوخ الشيلي يدعم مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية (سيناتور شيلي)    المغرب "شريك أساسي وموثوق" للاتحاد الأوروبي (مفوضة أوروبية)    كلمة الأستاذ إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، خلال اجتماع اللجنة الإفريقية للأممية الاشتراكية    رسمياً.. المغرب يصوت لأول مرة بالأمم المتحدة على وقف تنفيذ عقوبة الإعدام    فيفا ينظم بيع تذاكر كأس العالم للأندية‬    بنعلي: رفع القدرة التخزينية للمواد البترولية ب 1,8 مليون متر مكعب في أفق 2030    لماذا لا تريد موريتانيا تصفية نزاع الصحراء المفتعل؟    84% من المغاربة يتوفرون على هاتف شخصي و70 % يستعملون الأنترنيت في الحواضر حسب الإحصاء العام    ردود فعل غاضبة من نشطاء الحركة الأمازيغية تُشكك في نتائج بنموسى حول نسبة الناطقين بالأمازيغية    الأميرة للا حسناء تترأس عرض التبوريدة    النظام الأساسي لموظفي إدارة السجون على طاولة مجلس الحكومة    دفاع الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال يؤكد أن وضعه الصحي في خطر    تحقيق قضائي لتحديد دوافع انتحار ضابط شرطة في الدار البيضاء    ارتفاع معدل البطالة بالمغرب إلى 21% مع تسجيل ضعف في نسبة مشاركة النساء بسوق الشغل    مراكش.. توقيع اتفاقية لإحداث مكتب للاتحاد الدولي لكرة القدم في إفريقيا بالمغرب    كنزي كسّاب من عالم الجمال إلى عالم التمثيل    حاتم عمور يطلب من جمهوره عدم التصويت له في "عراق أواردز"        ضابط شرطة يضع حدّاً لحياته داخل منزله بالبيضاء..والأمن يفتح تحقيقاً    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    السينما الإسبانية تُودّع أيقونتها ماريسا باريديس عن 78 عامًا    سرطان المرارة .. مرض نادر يُشخّص في المراحل المتقدمة    كيوسك الثلاثاء | حملة توظيف جديدة للعاملات المغربيات بقطاع الفواكه الحمراء بإسبانيا    زلزال عنيف يضرب أرخبيل فانواتو بالمحيط الهادي    شوارع المغرب في 2024.. لا صوت يعلو الدعم لغزة    الصين تعارض زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية على المنتجات الصينية    ماكرون سيعلن الحداد الوطني بعد إعصار شيدو المدمر في أرخبيل مايوت    السفير الدهر: الجزائر تعيش أزمة هوية .. وغياب سردية وطنية يحفز اللصوصية    أفضل لاعب بإفريقيا يحزن المغاربة    لماذا لا يستطيع التابع أن يتحرر؟    عن العُرس الرّيفي والتطريّة والفارس المغوار    علماء يكتشفون فصيلة "خارقة" من البشر لا يحتاجون للنوم لساعات طويلة    بريطاني أدمن "المراهنات الرياضية" بسبب تناول دواء    دراسة: الاكتئاب مرتبط بأمراض القلب عند النساء    باحثون يابانيون يختبرون عقارا رائدا يجعل الأسنان تنمو من جديد    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إشكالية الدولة عند بن خلدون
نشر في طنجة الأدبية يوم 29 - 10 - 2010

مالذي يستلزم قيام دولة؟ وما هي طبيعة صيرورتها التاريخية؟ وهل الدولة في عرف ابن خلدون مفهوم أم مفاهيم؟ ثم ما علاقتها بالبداوة والحضارة؟، وبالدين والعصبية والمال؟ كلها تساؤلات سنحاول الإجابة عنها من خلال استنطاق المتن الخلدوني وتمشيطه بحثا عن تحديدات دقيقة للدولة الخلدونية، شريطة أن نتعامل مع هذا المتن داخل إطاره التاريخي والسوسيولوجي.
1ضرورة الاجتماع الإنساني تستلزم قيام دولة:
يرى صاحب المقدمة أن الاجتماع الإنساني ضروري وذلك لسببين رئيسين: أولهما حاجة الإنسان للغذاء وعدم قدرته على توفيره بمفرده نظرا لتشعب الصناعات القمينة بتوفيره، بالإضافة إلى أن التعاون يؤدي إلى الرفع من مرد ودية الإنسان حيث يقرر في هذا الشأن : فيحصل من التعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف . أما السبب الثاني فيكمن في حاجة الإنسان للدفاع عن نفسه أمام بطش الحيوانات، فمعظمها أوتيت من القدرة أكثر مما أوتي الإنسان،إلاّ أن الإنسان حسبه يتميز بالفكر واليد . إن هاجس خوف الإنسان من الحيوان هذا، لا نجده عند ابن خلدون فحسب بل سبقه إلى ذلك ابن سينا والفارابي ، وأخوان الصفا في رسائلهم غير أن ميزته تكمن في كونه جعل هذا الفصل فقط كمقدمة لبناء نظرية متماسكة حول الدولة كما عرفها. هذه إذن هي العلل التي تستوجب الاجتماع الإنساني لكن إذا حصل هذا الاجتماع : فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم . فالسلاح الذي يدفعون به الحيوان عنهم يتوفر لجميعهم، وبذلك فهم في حاجة إلى واحد منهم تكون له عليهم الغلبة والسلطان، وهذا هو معنى المُلْك. نجد إذن عند ابن خلدون البذور الأولى لنظرية الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز( ق:17 م )الشهيرة ، الإنسان ذئب لأخيه الإنسان ، غير أنه لم ينحُ منحى الفيلسوف الغارق في تأملاته للطبيعة الإنسانية. بل نحى منحى المؤرخ العارف بسنن التاريخ ونواميسه.
نخلص من خلال هذا الفصل إلى أن الدولة الخلدونية تقوم على جدلية التناقض بين الحاجة واللاَّقدرة فحاجة الإنسان إلى الغذاء تتناقض مع عدم قدرته على توفيره بمفرده مما يحتِّم ضرورة التعاون والاجتماع وهذا ما يتناقض مع طبيعة الظلم المتأصل في النفسية الإنسانية وبالتالي ضرورة قيام الدولة. يتبادر للدهن هنا سؤال مشروع مفادُه : هل يمكن أن تزول الدولة بزوال الحاجة إليها؟.
2الدولة الخلدونية مفهوم أم مفاهيم؟
الدولة في عرف ابن خلدون هي المُلْك وهي للعمران بمثابة الصورة للمادة وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها، على أنه يمكن تقسيم الحكم إلى خلافة وملك، فالخلافة هي: حمل الكافة ( العامة ، الرعية) على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية. أما الملك فإما طبيعي وهو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة وإما سياسي وهو: حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح ودفع المضار. أما من الناحية السلطوية فالملك إما تام أو ناقص فالأول: لمن يستعبد الرعية ويجبي الأموال ويبعث البعوث ويحمي الثغور ولا تكون فوق يده يد قاهرة . أما الملك الناقص فهو التي تنعدم فيه هذه الشروط أو بعضها: أو لمن قصرت به عصبيته عن الاستعلاء عن جميع العصبيات وكان فوقه حكم غيره فهو أيضا حكم ناقص مثل دولة صنهاجة مع العبيديين و زناتة مع الأمويين .
إن مقولة الملك التام والمُلك الناقص أو الدولة المتسعة النطاق تتعلقُ أساسا بشساعة المساحة وقوة عصبية الدولة، وذلك لأن المَلك هو الذي يعينُ الأعيان والولاة على الثغور، وهؤلاء الأعيان غالبا ما يكونون من دوي عصبيته، فإذا نفد عددهم وصلت الدولة إلى غايتها ولم تعد قادرة على تجاوزها. إن تغطية الدولة الجديدة ، مثلا، لمجال الدولة القديمة رهين بفارق قوى عصبيتهما. فالدولة الجديدة قد تغطي كل مجال الدولة السابقة أو تزيد عليه وتنقص بحسب قوة عصبيتها. والمحيط التي تقصر عنه العصبية يسمى الثغر ويحيط بالدولة من جميع أطرافها.
إن صاحب المقدمة يرسم حدودا أخرى لمفهوم الدولة فهناك الدولة الشخصية والدولة الكلية حيث يقرر: والخلل العظيم في العمران إنما يكون من خلل الدولة الكلية مثل دولة الفرس أو الروم أو العرب على العموم أما الدولة الشخصية مثل أنوشِروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد فأشخاصها متعاقبة على العمران لوجوده وبقائه. وقريبة الشبه من بعضها بعض ، فلا يؤثر اختلالها في العمران اختلالاً كبيراً لأن الدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران إنما هي بالعصبية والشوكة وهي مستمرة على أشخاص الدولة . لم يؤمن ابن خلدون بخصوصية الأفراد ولم يؤمن بصناعة الأبطال للتاريخ ولم يعط الأهمية لإصلاحات الحكام فالهرم إذا نزل بالدولة لن يرتفع أبداَ ( الحتمية التاريخية). لكنه سيجد صعوبة في تفسير حالة عمر ابن عبد العزيز والإصلاحات التي قام بها هذا الخليفة.
في الفصل الثامن والعشرين:( انقلاب الخلافة إلى المُلك) نجد تبريرا مغرَّضا لهذا الموقف حيث يقوم بترصد أحوال الخلافة في صدر الإسلام فرغم ما صار عليه حال الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء من غنى وترف فقد ظلوا أوفياء لشريعتهم. لقد ساهمت البداوة في تطبيق أحكام الشريعة بقدر ما ساهمت الشريعة في الحفاظ على بعض الأخلاق البدوية. إن المحنة الخلدونية تبتدئ مع معاوية، إذ ظهر كالفقيه الذي يقف موقفا محايدا بين علي ومعاوية فكلاهما: وإنما اختلف اجتهادهم في الحق وسفه كل واحد منهما صاحبه . هذا الموقف هو الذي جعله يعتبر أن تحول الخلافة إلى ملك ليس من صنيع معاوية ( الدولة الشخصية) بل من صنيع عصبية بني أمية (الدولة الكلية). ولو كان معاوية قد حملهم على غير تلك الطريقة وخالفهم بالانفراد بالمجد لوقع في افتراق الكلمة التي كان جمعها وتأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة .
يضحى إذن افتراق الكلمة أشق من تحول الخلافة إلى ملك وهذا أمر طبيعي اقتضته ظروف العصبية وعوائد التاريخ. لقد ذهب مؤرخنا أبعد من ذلك فقد حاول إيجاد شرعية لملك معاوية إذ يقول في هذا الصدد: فالملك إذا حصل وفرضنا أن الواحد انفرد به، وصرفه في مذاهب الحق ووجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه . يقوم معاوية بتوريث الملك لابنه يزيد مع علمه أنه لا يصلح للحكم وكل ذلك عند ابن خلدون باسم عدم افتراق الكلمة .
يعتقد( لويس ألتوسير) أن أزمة العلم تكمنُ في وجود فيلسوف نائم في ذهن كل عالم ، يوحي هذا الفيلسوف بأفكار مثالية وطوباوية خارجة عن حدود العلم والتجربة المخبرية. كذلك هي أزمة ابن خلدون تكمن في وجود فقيه نائم في دهن هذا المؤرخ، يتدخل هذا الفقيه كلما دعت الضرورة لذلك ويحجب عن المؤرخ بعض الحقائق التاريخية. فأزمة ابن خلدون في هذه النقطة التي نحن بصددها تأتي من كونه تجاهل إصلاحين ذكرهما بنفسه بين دفتي مقدمته. الإصلاح الأول هو: إصلاح عمر بن عبد العزيز حيث يقول في هذا الشأن: وتوسطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة والصحابة جهده ولم يهمل . لماذا ،إذن، لم تسمح الدولة الكلية لمعاوية أن يكون خليفة ولماذا سمحت لعمر بن عبد الغزيز؟ ولماذا تحولت إلى مُلكٍ عضوض بعده؟. لماذا لم يكن بمقدور معاوية الحفاظ على شيء كان بيده ولماذا استطاع خامس الخلفاء استرجاع شيء فقِد منذ زمن بعيد؟ مع العلم أن الدولة الكلية تبقى واحدة( عصبية واحدة). هذه الأسئلة بطبيعة الحال شائكة ومستعصية ومحاولة الإجابة عنها تقتضي الخروج عن الموضوع، بل وحتى الخروج عما توفرهُ الوثائق التاريخية.
الإصلاح الثاني هو إصلاح قام بهرام بن بهرام في دولة الفرس استجابة لنصيحة الموبدان رَجُل الدين عندهم يقول ابن خلدون بعد سرد نصيحة الموبدان: فلما سَمع الملك ذلك أقبل على النظر في ملكه، وانتزعت الضياع من أيدي الخاصة وردت على أربابها، وحملوا على رسومهم السالفة، وأخدوا في العِمارة وقوي من ضعف منهم. وقويت الجنود وقطعت مواد الأعداء، وشحنت الثغور .
في الفصل الخامس والعشرون أصدر المؤرخ أحكاما في الملك الطبيعي والسياسي فأما الأول فجورٌ وعدوان ومذموم وأما الثاني مذموم أيضا غير أن ملك معاوية ليس نكيرا عليه. ويضع فروقا بين أنماط الحكم السابقة، وملك معاوية (أو ملك الصدر الأول من بني أمية): فقد رأيت كيف صار الأمر إلى المُلك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق، ولم يظهر التغير إلا ّفي الوازع الذي كان دينا وصار عصبية . وبعد ذلك يخلُص هذا المفكر إلى النتيجة التالية: فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون المُلك أولا ثم الْتبست معانيهما واختلطت ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته عن عصبية الخلافة . يتوصل بن خلدون دون أن يشعر إلى نمط من أنماط الحكم الإسلامي تلتبس فيه الخلافة بالملك ولو شئنا استنباط تعريف لهذا النمط من خلال المقارنة مع التعاريف السابقة لقلنا بقليل من التحفظ: الملك الخلافي وهو حمل الكافة على أحكام الشريعة لكن بوازع ديني.
لقد تطرق الدكتور عبد الله العروي إلى مسألة الفرق بين الخلافة والدولة بنوع من الحذر والتدقيق فحسب صاحب المفاهيم يعتبر تطبيق معالم الشرع أمر صعب جدا وحتى في حالة تطبيقها: لا يكون النظام الناجم عن ذلك خلافة . إن عبد الله العروي يتساءل ما الشرط الذي يرتقي به الحكم إلى خلافة ويدرج ضمن ذلك أراء بعض المستشرقين الذين ميزوا الخلافة عن الدولة بالجهاد والحق حسب العروي ليس كذلك :لو كان إحياء طريقة الجهاد شرطا كافيا لينقلب الملك إلى خلافة لكان معظم الأمويين في الشرق والغرب خلفاء . إن الجهاد ليس غزوا أو توسعا إنما هو جهاد ضد الجاهلية في الداخل والشرك في الخارج بهذا المعنى يصبح الجهاد بالنسبة لعبد الله العروي علامة على المقياس الذي يميز به الفقهاء الخلافة عن الدولة، إذا كان الجهاد يخدم مصالح الدولة فإنه غزو وتوسع وإذا كان يخدم مقاصد الشريعة فإنه اجتهاد، وبعبارة بليغة فإنه في ظل الخلافة تخدم الدولة مقاصد الشريعة وفي ظل المُلْك تخدم الشريعة مقاصد الدولة.
3 الدولة من البداوة إلى الحضارة صيرورة تاريخية تنطوي على بذور لحدها في مهدها
أ/ التفاعلات الثلاثية بين الدين والعصية والمال، تفاعلات دياكرونية وسانكرونية، وآليات مسئولة عن نشوء وارتقاء الدولة ثم انهيارها.
تتفاعل كل من العصبية والدين والمال كآليات أساسية في تكوين الدولة وانحطاطها ، وتتفاوت حاجة الدولة في الإعتماذ على كل آلية على حدة حسب مراحل عمرها، ففي بعض مراحلها تكون في حاجة إلى عنصر أكثر من الآخريْن...إلاّ أن العناصر الثلاثة شكلت في دهن ابن خلدون بنية من البنى المتفاعلة تزمٌُّنا وتزامُنا فيما بينها من جهة وفي علاقتها بنشوء وانهيار الدولة من جهة ثانية.
أ A/ تفكيك التصور الخلدوني للعصبية


أB_/ العصبية من النشوء إلى الارتقاء
يتكون كل حي من عدة عشائر ، وتتكون كل عشيرة من عدة بيوت كما يتكون البيت الواحدة من عدة إخوة، تظهر الدولة الخلدونية كشجرة يمر جدعها من المستويات القوية على صعيد الحي والعشيرة والبيت في حين تلتف المستويات الضعيفة حول المحور، إن عملية نشوء الدولة تبتدئ مع أول شخص يعتقد ويملك اعتقادا مسبقاً أنه ابن فلان ومن عشير عِلاَّن، ويدعوا إلى نفسه إن الدعوة هاهنا تعتبر إما عقيدة جديدة أو تجديد لعقيدة قديمة. ومن البدَهي أنه يمكن مصادفة عدة دعوات في مجال وزمن واحد وفي هذه الحالات تحدث صراعات وحروب عديدة، بين العصبيات المتكافئة إلى أن يتم هضم العصبية المغلوبة وصهرها، وتلك هي الحادثة الأخيرة ونشوء دولة. ولا يمكن بطبيعة الحال تصور صراع بين مستويات مختلفة من السلم (العصابي) لعدم تكافؤ القوى، كما أن ولاء العشير لعصبية معينة ليس ولاءً مطلقا بل هو متقلب حسب تقلب المصالح السياسية، لذلك نجد الرئيس غالبا ما يلجأ إلى مصاهرة العشائر القوية كوسيلة من وسائل الاحتضان والضم.
يسمي بن خلدون الزعيم في مرحلته الأولى رئيسا وليس ملكاً والفرق بينهما في نظره هو أن الرئاسة: سؤدد وصاحبه متبوع وليس له عليهم قهرٌ في أحكامه وأما المُلك فهو التغلب والحكم بالقهر . فكيف إذن يتم التحول من الرئاسة إلى الملك وعلى حساب من ؟. إن معاينة نقطة انطلاق الدعوة ومتابعة وترصد آلياتها ، تظهر لنا أن نقطة الانطلاق هذه ، تبتدئ مع أخ قوي يشكل نواة للدعوة يلتف حولها الإخوة لكن كلما توجهنا نحو مستوى أعلى تتحول الأطراف إلى نواة جديدة فعلى المستوى العشائري مثلاً تتحول العشيرة القوية بكاملها إلى نواة تلتف حولها العشائر الأخرى، وبالتالي فالغلبة والقهر تتجه من النواة نحو الأطراف مما يعني أنها تكون على حساب آخر عصبية برَّانية يتم ضمها وهذا هو ما جعل عبد الرحمان يقرر أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك.
ب الدين والعصبية علاقة تفاعل وترابط وحاجة متبادلة
إن التفاف العصبيات وتلاحمها بالشكل الذي سبق الحديث عنه لابد في نظر بن خلدون أن يحتاج إلى وازع لأن العصبية عبارة عن اتفاق للأهواء ولأن هذه الأهواء إذا جنحت إلى الباطل ومالت للدنيا يسود خلاف بين أصحابها أما إذا انصرفت للحق فيحصل التعاون والتعاضد، يتحدث العلاّمة عن الدين بصفة عامة لكن الواضح من كلامه أنه يقصد الإسلام سواء كنبوة أو كدعوات حق، إن الدين يزيد من توحيد الهدف والغاية والاستماتة دونهما ( عدم خشية الموت). وهكذا بفضل هذين الشرطين يمكن لدولة قليلة العدد أن تهزم دولة أخرى أكثر منها عدة وعتاداً يستشهد بن خلدون بما وقع للعرب صدر الإسلام فقد كانت جيوش المسلمين بالقادسية بضعا وثلاثين ألفا وجموع فارس مائة وعشرين ألفا. ودائما يكون الانتصار حليف الفئة الأشد بداوة والأقوى عقيدة. لكن لنضع جميع الاحتمالات الممكنة ولنطرح سؤالا جوهرياً، فأيهما أهم بالنسبة لقوَّة الدولة هل الدين أم البداوة؟. لم تفته الإجابة عن هذا السؤال وهو يعتقد أن الدين أهم من البداوة:لمّا كانت زناتة أبدى من المصامدة وأشد توحشا وكان للمصامدة الدعوة الدينية باتباع المهدي فلبسوا صبغتها وتضاعفت قوة عصبيته بها فغلبوا على زناتة . وحدث العكس بعد أن فقدوا صبغتهم الدينية. إذا كانت آصرة الدين تلعب دورا أساسيا في تلاحم أفراد العصبية وتوحيد غايتهم فما هو دور العصبية في نشر الدعوة الدينية؟ السؤال محوري ومهم ومن خلاله يمكن فهم واستشفاف العلاقات المتشعبة والمتفاعلة بين العصبية والدعوة. وتبيان أنهما شرطان أساسيان لبعضهما. ففي هذا المضمار يرى بن خلدون أن الدعوة من غير عصبية غير ممكنة بل مستحيلة فحتى الأنبياء المؤيدون بنصر الله ومعجزاته ما بعثوا إلاّ في منعة من قومهم، وإذا كان حتى الأنبياء المؤيدون بنصر الله لم يبعثوا إلاّ في العصائب القوية فما بال داعية يرشح نفسه بغير منعة من قومه ويتجاسر على ذلك بل إن السفيه هو الذي يجرؤ على الدعوة بلا عصبية. موقف بن خلدون التسفيهي هذا يعتبر في ظاهر موقف إيديولوجي محافظ غير أنه في باطنه يعتبر خلاصة لتجربة تاريخية كبيرة، فمند ثورة الخوارج من أباضية وصُفرية وأزارقة ونجدات يتضح منذ ذلك الوقت أنَّ نجاح فرقتي الصُّفرية والأَباضية ناتج عن فرارهما لبلاد المغرب للإتكاء على كاهل إحدى العصبيات من جهة وابتعادهما عن العصبية النواة للعباسيين من جهة ثانية، إن مسألة الفرار تكاد تكون شرطا أساسيا لجميع الدعوات في تاريخ الغرب والشرق الإسلامي يتحدث مثلا الناصري عن بداية تكون الدولة الرستمية مستهلا كلامه: فرَّ عبد الرحمان بن رستم بمن خفَّ من أهله وماله .
لم يقف بن خلدون عند حدود تسفيه الداعية الذي لا يستند على أية عصبية بل حاول إيجاد مبررات شرعية وفقهية منها أن الشارع اشترط في تغيير المنكر ( أو الحِرابَة) شرط الاستطاعة ، ومن استقراء التجربة التاريخية يخلص إلى أنه لا استطاعة بدون عصبية، وبالتالي فإن أي إصلاح خارج حدودها هو إصلاح منوط بالفشل كل شيء رهين بأشواط الصيرورة التي تقطعها الدولة من بداوتها إلى حضارتها. وبالتالي فالتاريخ برمته خارج عن الإرادة الإنسانية وهو رهين بنمط العادات والتقاليد التي هي بدورها في تطور مستمر.
ج المال والعصبية بنية من العلاقات المتفاعلة والمتطورة:
لا ينحصر النظام المالي بالنبسة لابن خلدون في كونه مجموعة من العلاقات التي تربط الدولة بالرعية، ولا حتى في اعتبار المال ما تكتنزه الدولة في بيت مالها من دهب وفضة، إن للمال دور مهم في الثأثير على عادات الإنسان وسلوكه، وتغيير نمط عيشه وتقاليده، وتحويله من البداوة وخشونتها إلى الحضارة ودعتها. فتصبح الحضارة في نظره هي توفر المال وتوفر ثقافة استعماله، فبقدر ما يساهم المال في تغيير نُظم وعادات الإنسان والارتقاء بها في سلم الحضارة، بقدر ما تساهم هذه الأخيرة في تفاقم الحاجة للمال وهو ما يدفع بالدولة للزيادة في المكوس والضرائب . المال والحضارة لا يستقلان عن بعضهما البعض بل ويدخلان في دوامة من التفاعل السلبي المتبادل هي التي تقود في نهاية المطاف نحو حضارة فاسدة وهي مرحلة من مراحل انحطاط الدولة عند ابن خلدون.
إن الدولة غالبا ما تستمدُّ مقومات حضارتها من دولة سابقة عنها، ويتمثل ابن خلدون على ذلك من أن العرب: قدِّم لهم المرقق فكانوا يحسبونه رقاعا وعثروا على الكافور في خزائن كِسرى فاستعملوه في عجينهم ملحاً . فلما استعبدوا أهل الدول قبلهم واستعملوهم في مهنهم بلغوا مبلغا في الحضارة حتى أن صاحب المقدمة يحكي العجائب عن إعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل. لكن لا بد الإشارة إلى أن المغلوب دائما يقتدي بالغالب ويحاول تقليده في زييه ونمط عيشه بصفة عامة . وهو ما يلخصه ابن خلدون بعبارة الرعية على دين مَلِكها.
يتضح إذن بالملموس أن التفاف العصبية يبدأ مع أول شخص دعا إلى نفسه وهي عملية تشترط إطاراً إيديولوجياً. إما عقيدة جديدة أو مشروع ترميم عقيدة قديمة طالها التفسخ والانحلال، و يشترط كذلك عصبية قوية تتعارض مصالحها مع العصبية الحاكمة ( الصراع العباسي الأموي أنموذجا). غير أن أقصى مراحل التطور هي تكوين دولة. ومن ثمة تشرع التفاعلات السلبية بين المال والدين والعصبية في تعميق أزمة الدولة. وهذه التفاعلات هي بالضرورة خارجة عن إرادة الأشخاص حتى ولو كانت ناتجة عن سلوكهم. وهي كذلك تتفاعل مع نظام العادات والتقاليد الذي يقطع بدوره أشواطا تطورية من البداوة إلى الحضارة. إن هذا التحول السلبي ، إذن، ليس تحولا بسيطا يمكن ترصده وإصلاحه من طرف صاحب الدولة. إنه بنية من العلاقات المتشابكة والمعقدة التي تجهض أية محاولة إصلاح بل أن صاحب الدولة يزيد الطين بلة كُلَّما حاول الإصلاح هذا ما جعل بن خلدون يقلل من شأن الحكام وإصلاحاتهم (الدولة الشخصية)، ويعطي الأهمية للدولة الكلية. وذلك كله بسبب التحولات التي تطرأ على مختلف الأنظمة ابتداءً من النظام السياسي والمالي والديني مرورا ببنى العصبيات والنظام . تحولات يمكننا أن نبسطها على مستوى الجدول الآتي:
4خلاصة
إن مفهوم الدولة الذي عرفه بن خلدون ليس مفهوما فلسفيا مجردا يمكن فكه عن بيئته التاريخية. وليس كذلك مفهوما اجتماعيا مستنبطا من أنظمة محددة بعينها. إنه مفهوم تاريخي اجتماعي حيث حاول المؤرخ البحث عن النواميس والقواعد التي تعتبر بمثابة القواسم المشتركة لمجموع الدول والأمم التي عَقَلَ هذا المؤرخ تاريخها في كتابه المعروف اختصاراً ب: "تاريخ بن خلدون" .يتم استيعاب هذه النواميس فقط لفهم بنية وتاريخ هذه الدول وليس للتنبؤ بأنظمة مطابقة لها. لأن بن خلدون لم يكتب فلسفة التاريخ ، وهو يحذرنا منذ البداية من سوء الفهم يحذرنا من الخلط بين هذه القوانين الشاملة وبين : التجافي عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال وهو داء ذوي شديد الخفاء إذ لا يقعُ إلاّ بعد أحقابٍ متطاولة . قانون التاريخ هو الصيرورة والحركة والتغير لكن دون أن نجعل لهذه الصيرورة غاية تجري نحوها.
الدولة الخلدونية ؛إذن؛ بنية من البنى المتفاعلة، تَزمُّنا وتزامُنا والتحليل الخلدوني تحليل تاريخي اجتماعي. ومصطلح الدولة قد يرد عندهُ أحيانا ويقصد به الشريعة لا لشيء إلاّ لأنه تأثر بآراء الفقهاء الدين كانوا يرون في الدولة تجسيداً لشريعة الله في الأرض. لذلك لا غرو أن تتخلل تحليلاته بعض المواقف الفقهية. لذلك ، فلدراسة الدولة في الفكر الخلدوني، يجب التمييز بين الكلمة/ المصطلح الذي يستعمل بمعاني متعددة وبين تفريعات المفهوم الناتجة عن تعدد نمادج السلطة وأشكال الحكم، وبين نظرية الدولة التي تعتبر خلاصة لتجربة معرفية وتاريخية واسعة لهذا العلامة. من هنا بالضبط تأتي إشكالية الدولة عند بن خلدون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.