بقلم : عادل دريدر [email protected] عندما أتأمل في الوضع الذي أصبح يعيشه مجتمعنا اليوم، يخيل إلي أننا نسير على غير هدى و أننا لا نبحث إلا عن جزء من الأرض نخطو فوقه خطوتنا التالية..وضع متوتر جدا يجعل الإنسان- المواطن يحس بنوع من الغربة و الاستلاب و يفقده معنى الشعور بالانتماء للوطن. إن المسألة ليست سيكولوجية تماما، و لكن الوجود السياسي للفرد بني على أساس تحقيق وجود من ضرب خاص، وجود تتحقق فيه إنسانيته الحقة، و هذا الأمر لا يتم إلا عن طريق توفير الشروط النفسية و الاجتماعية و الحياتية عموما، و التي يمكن أن تجعل من مفهوم الانتماء إلى « الوطن» أو « الدولة» يرتكز على« معنى». و إذا كان ابن خلدون قد تحدث عن نزعة الإنسان الطبيعية للاجتماع، فهو كائن مدني كما يقول، فإن الملاحظ أن التوترات و الأمراض التي ما فتئت تقتات من مجتمعنا، قد لعبت دورا خطيرا في تحويل المفهوم من « مجتمع»، الذي من المفترض أن يتأسس على رؤية و مشروع أو باختصار غاية أخلاقية، إلى مجرد «تجمع» لا يختلف جوهريا عن تلك التجمعات التي هي موجودة لدى الكائنات غير الناطقة. المجتمع يجب أن يسعى لخدمة مجموع أفراده، أو يحقق ما نسميه المصلحة العامة، إنه بنية لا تستقيم إلا من خلال الوظيفة التي تشترك في أدائها جميع عناصرها..إن البنية تسعى دائما نحو الاستمرارية، بينما التجمع يظل محكوما بظروف آنية و عابرة تكون النزعة الفردية الأنانية هي المحرك و الموجه لصيرورته. إن المرحلة الحرجة التي نمر منها الآن، يمكن اختزال تشخيصها في بعد أخلاقي. و استقراء التاريخ يبين كيف أن الإنسان كان دائما كائنا أخلاقيا، و لم يستطع قط التجرد من هذا البعد الأصيل في شخصيته، و كيف أن هذا البعد كان يسهم في بلورة و تأسيس الأفكار و الفلسفات و الدول و الحضارات، و كيف أنه أيضا كان عاملا يؤدي إلى الخراب و الزوال..يقول ابن خلدون في مقدمته : « إن حصول النقص في العمران عن الظلم و العدوان أمر واقع لابد منه..و وباله عائد على الدول»، ثم يتابع: « و لا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض و لا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك، و كل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه[..] و وبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله ». هكذا سيخلص العلامة ابن خلدون، و هو المفكر في علم التاريخ و العمران و المتمرس في شؤون السياسة، إلى أن الظلم، في جميع تجلياته، هو بمثابة الفيروس القاتل الذي يفقد المجتمع و الدولة تماسكهما رويدا رويدا إلى أن يأذن الله بفنائهما. ثم إن ابن خلدون يريد من خلال تحليله لطبيعة العمران البشري، أن يضع الأصبع على نوع خاص من الظلم، و هو الأشد قتامة و الأكثر تدميرا و تهديدا لمشروع الدولة و المجتمع، و الذي أسماه " ظلم أهل القدرة و السلطان" أو ما نسميه نحن ب" ظلم السلطة السياسية و تسلطها". طبعا قد تكون الخلاصات التي انتهى إليها هذا المفكر، ترتبط بحقب تاريخية مضت تؤطرها شروط خاصة و تصورات للمفاهيم تتميز بطابعها النسبي، و لكن الأكيد أيضا أن فطنته قادته للانتباه أكثر لما وصفه ب" سنن كونية" يسير وفقها عمران الإنسان على الأرض فيرتفع إلى أعلى و أسمى مدراجه كما قد ينتكس إلى أسفل سافلين. المواطن الآن، يستيقظ في الصباح، يتناول وجبة الإفطار و هو يتذوق في طعمها مرارة الظلم..في كل حين ارتفاع في الأثمان و زيادة في الأسعار..كوابيس مرعبة أصبحت تقض مضجعه، حتى غدا تمثلها كالقدر المحتوم الذي يتنزل من عل و لا راد له إلا رب السماء ! ستكون مفارقة في الحقيقة، أن ينصب جهد و طاقة الإنسان- المواطن في دولة حديثة على الصراع من أجل إشباع حاجته إلى الغذاء في مستوياتها الدنيا، هذا في الوقت الذي ينبغي أن تكون مثل هذه الحاجة قد تجوزت ليتحول النظر إلى حاجات أخرى تخول للفرد أن يعيش حياته و لكن بأفضل طريقة ممكنة و حسب درجة استحقاقه. إن المعادلة التي فرضت قسرا على المواطن البسيط، هي حيف و إجحاف كبيرين يمسان بشروط أمنه و توازنه النفسي و الاجتماعي. لقد أصبح الظلم قاعدة و ليس استثناءا، ظلم في العمل و في الأجر و في التعبير...أليس معنى ذلك أن الظلم طال إنسانية الإنسان؟ ولله المثل الأعلى، و هو الحكيم العليم و المتصرف فوق عباده، و الذي يسأل(بفتح الياء) و لا يسأل(بضم الياء)، يحرم عز و جل الظلم على نفسه ( إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما) حديث قدسي. ( و ما ربك بظلام للعبيد)-فصلت.آية 46 – نعود إلى ابن خلدون، فنجده يقول:« و أعظم من ذلك في الظلم و إفساد العمران و الدولة، التسلط على أموال الناس، بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب و الإكراه في الشراء و البيع». أليس يقصد بذلك عين ما تقوم به الدولة حاليا من جور عندما تغتصب ما بأيدي الناس: عملهم..بأبخس الأثمان، و هو تلك الأجور الهزيلة و المجحفة؟ أليس ما يعنيه بالبيع بالإكراه و الغصب ما تفرضه دولتنا على مواطنيها من سلع بأثمان متسارعة في الارتفاع لا طاقة لهم بها؟ إن وضعا كهذا، هو وضع لم يكن و ليس يبشر بالخير أبدا، و المآل الذي تحدث عنه ابن خلدون هو نهاية تحصل بالتدريج و لكنها حتمية ما دامت شروطها قائمة. هل هي مسألة وقت إذن؟ كلنا يعلم أن الضغط في أي شيء يصل نقطة لا يستطيع المواصلة بعدها، و المستقرئ للأحداث يمكن أن يلحظ البوادر و الإرهاصات. إن مشروع الدولة هو مشروع الإنسان و ليس مشروع آلة معدومة الحس و الشعور، و هو ليس من صنف " المشاكل التي نحلها بتركها"، فإما أن نتسلح بالإرادة الصادقة لمواجهة أزمتنا المشتركة، و السعي إلى تخليق حياتنا، و إما أننا سيكتبنا التاريخ أمة لم تقرأ و لم تستفد من تاريخ الأمم التي سبقتها. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.