الحكومة ليست هي الدولة، والفرق بينهما واضح للعيان. فالحكومة تعني السلطة التنفيذية التي تمارسها الدولة اعتمادا على نتائج انتخابات حرة والتي تتم أو تنتهي بمجرد انقضاء شروط ومدة ذلك الانتداب. بينما الدولة هي الشخصية المعنوية المستمرة والجامعة للحكومات المتعاقبة، وهي تمثل مختلف مكونات الشعب داخل وخارج المجال الترابي الذي يمارس فيه سيادته، فهي أرقى أشكال الحياة الجماعية للجماعات البشرية، وتهم مختلف المؤسسات والخدمات التي تسمح بحكم وتسيير بلد معين وبشكل ممتد في الزمن. موضوع مقالنا هذا ليس هو وضع تعريف قانوني ودستوي للحكومة والدولة، وليس هو مناقشة وتحليل مشروع الحكومة وخيارها في إصلاح صندوق المقاصة الذي أصبح الجميع متفق على أنه مختل ولم يعد يؤدي الأدوار التي أحدث من أجلها، وليس هو الإطار الاقتصادي والتقني لهذا الإصلاح الذي كان مطلبا مند أكثر من عشر سنوات والذي أدلى العديد من الاقتصاديين برأيهم وخلاصات دراساتهم فيه. بل ما يهمنا أساسا في هذا المقام والمقال والسياق التاريخي والإقليمي هو الأبعاد الاجتماعية والسياسية لهذا الإجراء الذي سيترتب عنه تقديم مساعدات مادية مباشرة لملايين المواطنين والمواطنات، ورفع الدعم عن العديد من المواد مما سيشكل عبأ كبيرا على القدرة الشرائية لآلاف أسر أخرى، خاصة أن المعايير التي ستعتمد لتحديد الأسر التي ستستفيد أو ستنهك سواء كانت فقيرة أو متوسطة الدخل غير واضحة وصعبة التحديد، إضافة إلى أن الإطار الخيري لهذه المساعدات ومن طرف جهات أو أطراف سياسية أو جماعية معينة يشكل خطرا حقيقيا على الحياة الديمقراطية في بلاد ينخرها الفساد والفقر والإتكالية والأمية. من خلال تتبع عمل الحكومة ومشاريعها يتضح أن توزيع مساعدات مادية وبشكل مباشر على الأفراد والأسر يشكل أهم أولوياتها التي أكد عليها السيد بنكيران مند توليه رأسة الحكومة. فقد كشف في إحدى الجلسات الأخيرة للمساءلة الشهرية بمجلس النواب بعض ملامح إصلاح صندوق المقاصة، حيث قال أنه يعتزم توجيه مساعدات للأشخاص الفقراء تتراوح بين 250 و300 درهم، وستصل قيمتها الإجمالية إلى 24 مليار درهم في السنة. وفي نفس السياق اندرجت الزيادة في أسعار المحروقات التي أقدمت عليها الحكومة مند شهورها الأولى والتي كان لها أثر سيء على القدرة الشرائية للفئات الفقيرة والمتوسطة من خلال الارتفاع البين الذي عرفته أثمنة البنزين والمواد والخضر والنقل والخدمات المرتبطة بها. خلال جلسة الأسئلة الشفوية لمجلس المستشارين في 26 نونبر 2012 أكد السيد بوليف بأن الحكومة هي المعنية والمنكبة على إصلاح صندوق المقاصة، وبأنها اعتمدت في ذلك من بين ما اعتمدت الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن! "بوليف: هذه خطة بنكيران لتوزيع المساعدات على الفقراء"، هذا عنوان الحوار الذي أجرته جريدة "أخبار اليوم" مع وزير الشؤون العامة والحكامة حول إصلاح صندوق المقاصة. في هذا الحوار أفصح السيد الوزير المنتمي إلى حزب العدالة والتنمية الإسلامي عن بعض جوانب وترتيبات هذا الإصلاح وكيفية توزيع هذه المساعدات المادية بشكل مباشر على حوالي مليوني أسرة، أي حوالي عشرة ملايين مواطن ومواطنة، والتي قدرها بقرابة 1500 درهم في الشهر للأسرة. ففي هذا الحوار الذي أجراه مع "أخبار اليوم" ليومي 04 و05 يناير 2013، تستوقفنا الطريقة المعتمدة في تصنيف الأسر وتحديد من سيستفيد من الدعم المباشر ومن يتحمل عبأ الزيادات التي ستترتب عن رفع الدعم عن المواد. فقد أكد السيد الوزير إمكانية تحديد الفئات الفقيرة والهشة من خلال تعبئة ورقة تعريفية بالأسرة تضم أربع معايير هي مستوى عيش الأسرة، وقدرتها الشرائية، ومستوى الغنى أي الممتلكات، وحجم استهلاكها للمواد المدعمة. ومن الواضح أن هذه المعايير التي ستحدد من خلال تعبئة بطاقة معينة لا يمكن أن تعطي صورة واضحة عن الوضعية الاجتماعية والاقتصادية لملايين المواطنين خاصة أنها ستعتمد على التصريح الطوعي والتمثيلية الأسرية وتعبئة البطاقات، وربما رأي الشيوخ واقتراحات أو تزكيات ممثلي الأحزاب بالدوائر الانتخابية... بل أن العملية، وفي ظل الشروط والوضعية الاجتماعية التي تحيط بحياة الأسر والأفراد والدواوير والأزقة والدروب في القرى والمدن المغربية ، يمكن أن تتيح فرص جديدة للاستغلال السياسوي والحزبي والجماعتي، وأن تتحول إلى أداة تأثير وتوجيه وأن تنتج عنها مظاهر استغلال وإساءة للعملية الديمقراطية والإرادة الشعبية في العديد من المناطق والجهات. سبق أن أكد المجلس الاقتصادي والاجتماي مؤخرا في تقرير حول "النظام الضريبي المغربي٬ التنمية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي"٬ أن إصلاح صندوق المقاصة من شأنه توفير موارد هامة للدولة، لكن أضاف التقرير أن إصلاح نظام المقاصة ينبغي أن يكون موضوع نقاش وطني مفتوح قصد تحديد الإجراءات الخاصة أساسا بتحديد الشريحة المستهدفة وأدوات التنفيذ، والتأثير المحتمل على القوة الشرائية للطبقة المتوسطة. وفي الحوار المذكور أكد بوليف بأن الدراسات المتوفرة لديه تفيد بأن تحرير الأسعار للمواد المدعمة ستؤدي إلى زيادة 570 درهم كنفقات شهرية على الأسر المغربية، كما رجح خيار أن تكون أول المواد المحررة هي المحروقات والتي سيتحمل المواطنون من مختلف الفئات والطبقات وبشكل مباشر أو غير مباشر الفرق بين السعر الحقيقي والمدعم. خلاصة هذا التحليل هي أن حكومة حزب العدالة والتنمية تسعى جاهدة إلى الإنفراد بمشروع إصلاح صندوق المقاصة الذي هو في الحقيقة مشروع تقديم مساعدات مادية مباشرة مهمة لملايين أللأفراد والأسر المغربية، وربما يشكل هذا الإجراء عصب مشروعها السياسي والاجتماعي ورهانها الإيديولوجي في المرحلة الراهنة بعد وصولها إلى الحكم في المغرب والاستمرار فيه . من صميم الممارسة الديمقراطية الاعتراف للأحزاب السياسية بأدائها الحكومي سواء على مستوى قطاع معين أو الحياة العامة، وقد تحظى إجراءات الحزب الحاكم باستحسان العديد من الأسر التي ستتوصل بالدعم المباشر سواء بشكل مستحق أو سياسوي، والتي ستصوت للحزب بكل تلقائية واتكالية خلال الانتخابات القادمة، كما تستواجه بسخط ألاف الأسر التي ستعاني من جراء تحرير أثمنة المواد الأساسية وتأزيم قدرتها الشرائية المأزومة أصلا خصوصا من الفئة المصنفة متوسطة رغما عنها. لكن إذا امتد المشروع وإجراء الاستغلال لعدة سنوات، فالمؤكد أن سيشكل خطرا حقيقيا على الحياة الديمقراطية وصوت الإرادة الشعبية في البلاد، وحاجزا فعليا أو مبررا إيديولوجيا لتأجيل الإصلاح الحقيقي: التفعيل الحقيقي للاختصاصات الدستورية والدفع في اتجاه الملكية البرلمانية ومحاربة الفساد، القضاء على اقتصاد الريع الذي بدأت الحكومة الحالية تطبع وتتآلف معه عبر نشر اللوائح دون محاسبة المسؤولين ودون اتخاذ إجراءات الحد منه، والتنازل عن السلط الدستورية مقابل البقاء في الحكم.