مقدمة: تعاني المناطق القروية والجبلية الناطقة بالأمازيغية أو بالعربية على حد سواء من الفقر والأمية وضعف في البنيات التحتية. فلا يكفي ان نتحدث عن الهوية الثقافية دون الإشارة إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها السكان القرويون عموما والناطقون بالأمازيغية خصوصا، لأن للهوية صلة وطيدة بالمحيط والبيئة وبمستوى العيش والتعليم وظروف السكن والصحة والشغل. ولا يمكن لدارسي إشكالية الهوية الثقافية فهم الاهتمام والتشبث بالهوية دون الإشارة إلى السياقات المادية التي تتفاعل معها. هناك صلة وثيقة بين المطالب الثقافية والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ينبغي على المهتمين بدراسة اللغة والهوية أن يأخذوا على محمل الجد دور العوامل الاقتصادية و الاجتماعية والبيئية في المغرب. وليس الغرض من هذه الرؤية الحد من الوعي الذاتي والجماعي بالهوية الثقافية، وإنما الهدف هو الوصول إلى فهم أحسن لمظاهر هذا الوعي وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. ويطالب نشطاء الحركة الثقافية الأمازيغية بالمغرب بأمرين اثنين: أولا النهوض باللغة والثقافة الأمازيغيتين كجزء لا يتجزأ من الثقافة المغربية، ثانيا تعزيز النمو الاقتصادي والاجتماعي للمناطق القروية والجبلية المهمشة منذ الاستقلال، بتحسين البنى التحتية لهذه المناطق ومستوى عيش سكانها. مما لا شك فيه أنه لا يمكن فصل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عن الجوانب الثقافية. فللسياسة والاقتصاد تأثير كبير على الهوية الثقافية وعلى مطالب الحركة الأمازيغية. والإقصاء والتهميش والفقر عوامل موضوعية ترتب عنها تسييس الهوية والمطالب الثقافية وأحيانا التطرف. لذا ينبغي أن توجه الجهود والسياسات الحكومية نحو إيجاد حل للمأزق الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي تواجهه المناطق القروية والجبلية. ولا ينبغي للمطالب اللغوية والثقافية أن تخفي أو تغفل الواقع المزري لسكان البوادي والجبال الذين يعانون من الفقر والتهميش. ومع ذلك يتم في كثير من الأحيان طمس مطالبهم من أجل العيش الكريم. ونظرا لغزو القنوات الفضائية للمناطق القروية وتوفر شبكة الإنترنت والولوج إلى وسائل الاعلام الاجتماعية فقد أصبح السكان القرويون أكثر وعيا وانفتاحا على بقية العالم عما كانوا عليه في السبعينات. ولا عجب أن حصولهم على معلومات وفيرة وصور متنوعة عن العالم الخارجي يساعدهم على إدراك أحسن لأحوالهم البيئية والاجتماعية والسياسية ووعي أكثر بمشاكلهم. ماذا قامت به الدولة للنهوض بالعالم القروي؟ اتخذ المغرب تدابير مهمة لإعادة الهيكلة التي فرضها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في الثمانينات، ونجح في تطوير بنيته التحتية وترسيخ الاقتصاد من خلال تحرير التجارة والخصخصة. وقام المغرب بإصلاحات هامة في مجال التعليم والتنمية الاقتصادية على الصعيد الوطني بفضل مجهودات الدولة والسياسات العمومية مثل بناء السدود وخطة المغرب الأخضر والبرنامج الاستعجالي، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أطلقتها الحكومة في 18 مايو 2005، الخ. وعلى سبيل المثال لا الحصر، بلغت نسبة كهربة البوادي والأرياف 96.5٪ سنة 2009 مقابل 18٪ في 1996، حيث تمت كهربة نحو 35670 قرية مغربية في الفترة ما بين 2004 و2009، أي أن حوالي 11.5 مليون شخص قد استفادوا من وصول الكهرباء إلى بيوتهم. كما قام المغرب، بتعاون مع البنك الدولي للإنشاء والتعمير (BIRD)، بعدد من الإصلاحات الرامية إلى حل مشاكل إدارة الموارد المائية. وقد مكنت هذه الإصلاحات بشكل ملحوظ عددا كبيرا من الأسر من الحصول على المياه الصالحة للشرب في المناطق القروية وشبه الحضرية. وبفضل تسريع برامج إمدادات المياه في المناطق الريفية ارتفع معدل الحصول على مياه الشرب من ٪20 سنة 1990 إلى٪50 عام 2004 وإلى أكثر من 87٪ في عام 2009. ويتوقع أن يرتفع معدل الحصول على مياه الشرب في المناطق الريفية في إقليمالحسيمة الى٪99 بحلول عام 2015، وفقا لتقرير صادر عن المديرية الاقليمية للكتب الوطني للماء الصالح للشرب بالحسيمة (ONEP)، حيث أن الاستثمارات الموجودة في حيز التنفيذ والمخطط لها للفترة ما بين 2011-2015 تبلغ قيمتها أكثر من 271 مليون درهم، كما يقول التقرير، مذكرا أن نسبة الحصول على الماء الصالح للشرب في منطقة الحسيمة بلغت ٪85 سنة 2010. وقد ضخت الدولة ما يصل الى 150 مليار درهم لإنجاز المخطط الأخضر لتطوير وتنويع الفلاحة المغربية التي تعاني من تكرار الجفاف وضعف المحاصيل، باعتبار أن الفلاحة تعتبر محركا للزيادة في الإنتاج والنمو الاقتصادي وتعزيز الصادرات. وهنا ينبغي التنويه بقرار الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله الذي أعفى الفلاحين من أداء الضرائب. وشخصيا لا أحبذ فكرة التراجع عن هذا القرار السديد عكس ما جاء في كلمة السيد شكيب بنموسى رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي مؤخرا حيث اقترح إعادة فرض الضريبة على الفلاحين ما سيشكل ضربة قاضية للفلاحة ببلادنا. وتمثل الفلاحة ما يصل الى 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للمغرب لكن القطاع يعاني نقصا في المعدات وعدم انتظام الري والجفاف وتحقيق محاصيل متدنية. ويعتمد معظم الفلاحين المغاربة وعددهم 15 مليونا وعائلاتهم على أراض لا تزيد في المتوسط على هكتارين. وفي التقرير المالي لسنة 2012 ذكرت وزارة المالية أن نسبة الأمية على الصعيد الوطني بلغت ٪30 سنة 2010، غير أنه بات من الواضح أن الغالبية الذين يعيشون في المناطق القروية، أي ما يقرب من ٪55.6، لا يعرفون لا القراءة ولا الكتابة. ورغم ارتفاع هذا الرقم، يجب أن نتذكر أن نسبة الأمية في الأرياف المغربية بلغت ٪75 في عام 1994. وإذا نجحت الدولة عموما (السدود، المخطط الأخضر، التنمية البشرية) نجاحا لا غبار عليه حيث ساعدت على محاربة الهشاشة والارتقاء بالفلاحة وتحديثها إلا أنها لم تحدث تغييرا نوعيا في مستوى عيش المواطن القروي رغم توظيف إمكانيات هائلة ما نتج عنه تعميق الفوارق الاجتماعية والهوة بين المدن والقرى. مع الأسف رغم جهود الدولة لتنمية العالم القروي والمناطق الجبلية والنائية، تأكد في السنوات الأخيرة أن العالم القروي يعيش وضعية احتقان سوسيو-اقتصادي نتيجة الأزمة الاقتصادية والإقصاء والتهميش والإختلالات البنيوية التي طبعت تدبير الشأن المحلي. غضب وتدمر سكان البوادي والمناطق النائية نظرا للوضعية الهشة للعالم القروي ولتأثير الربيع العربي تفجرت في السنتين الأخيرتين احتجاجات قوية قوبلت بالقمع المفرط وكانت النتيجة معروفة. ولعل الملاحظة الأساسية في كل الاحتجاجات هي اتخاذها لطابع اجتماعي وسلمي مرتكز على حاجيات الحياة اليومية كالماء والكهرباء والغذاء والسكن والصحة والتعليم. وهي القطاعات التي تعاني من هشاشة بنيوية بجل المناطق القروية والجبلية. والحصيلة أننا نسمع اليوم هنا وهناك عن الاحتجاجات التي يقوم بها السكان القروييون في عدة مناطق. ويمكن للمرء أن يشير على سبيل المثال إلى حوادث جبل عوام قرب مدينة خنيفرة، حيث أضرب العمال هناك لمدة تجاوزت سبعة أشهر في عام 2012، ومن أهم مطالبهم تحسين ظروف العمل. مظاهرات قرية "إيميضر" في جنوب المغرب (في الأطلس الكبير) وقعت في عامي 2011 و 2012 احتجاجا على الفقر والإقصاء. كما نظم مئات الشباب والنساء والأطفال وكبار السن اعتصامات في أعلى جبل "البان" المطل على منجم الفضة الذي ينتج سنويا أكثر من 240 طن من الفضة، مطالبين بتحسين ظروف عيشهم. "أنظر حولك: إننا نعيش في العصر الحجري. نحن معتصمون هنا منذ 7 أشهر مع أطفالنا. لا توجد طرق معبدة ولا توجد مدرسة لأطفالنا، ولا مستشفى"، وأضاف أحد السكان المحتجين يدعى م. أوبركا وأحد العاملين في المنجم: "السكان لا يستفيدون من هذه المناجم. ولايوجد مستشفى واحد في المنطقة كلها، حيث يوجد أقرب مستشفى في ورزازات ويبعد ب 200 كم ". ناهيك عن اعتصامات سكان قرية إكضي بإقليم طاطا المطالبة بتعبيد الطريق وتوفير ممرض قار، وهي مطالب بسيطة ينبغي الاستجابة لها فورا. وهؤلاء سكان دوار القصر القديم بمنطقة إتزر التابعة لإقليم ميدلت، كمثل سكان أنفكو، يحتجون على أوضاعهم الصعبة بسبب تضاؤل فرص الشغل وقسوة الطقس ونقص في وسائل التدفئة والتموين. وسكان فكيك ينظمون وقفات احتجاجية مطالبين بتوفير فرص الشغل وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. كما نتذكر أحداث بني بوعياش وإمزورن الأليمة شمال المغرب في السنة الماضية التي نشبت نتيجة الوضعية الاجتماعية والبنية التحتية بالمنطقة التي لا ترقى لما تصبو اليه الساكنة، فكل الطرق في وضعية جد سيئة والمدينة تفتقر للمرافق السوسيو- اجتماعية والتي ينبغي تضافر الجهود لإحداثها، وتحقيق مطالب السكان الاجتماعية وفك العزلة عن المنطقة وإدماجها في المسيرة التنمية التي يشهدها المغرب. وهكذا ترتبط القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ارتباطا وثيقا بقضايا الهوية. وباعتبار أن سكان العالم القروي يعانون من التهميش على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، فينبغي توفير فرص العمل وشروط العيش الكريم لهم وصيانة حقوقهم المدنية والثقافية.في إطار الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. خاتمة حان الوقت للدولة أن تضاعف جهودها لتحسين البنية التحتية للمناطق القروية من خلال تشجيع الاستثمار وخلق فرص الشغل في البوادي والقرى وبناء المزيد من المراكز الصحية والمدارس وتعبيد الطرق وإيجاد الماء الصالح للشرب والكهرباء والنظافة والنقل المدرسي، وجميع الخدمات اللازمة ووسائل الراحة لضمان كرامة المواطن القروي. وفي هذا الإطار ندعو إلى تفعيل مشروع الجهوية الموسعة الذي من شأنه أن يساهم في النهوض بالعالم القروي لأن الجهوية ستضع المسؤولية المباشرة وبالكامل عل تنمية وتطوير المناطق في عنق سكانها حيث أن الشئ المؤكد هو أن التهميش نتيجة طبيعية للمركزية خصوصا في بلد شاسع ومترامي الأطراف مثل المغرب. وفي تقديري ينبغي للمجتمع المدني أن يساهم في فك العزلة عن البادية والمناطق النائية بالقيام بحملات تكوينية وتحسيسية وتضامنية والإسهام في النهوض بالعالم القروي اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. ويرى العديد من المهتمين بالقضايا التنموية بالمناطق القروية والجبلية بأن تنميتها والنهوض بها ليس بالأمر المستحيل إذ أن الإرادة السياسية موجودة لتنمية العالم القروي، وجل هذه المناطق تتوفر على مؤهلات طبيعية وسياحية هائلة و على موارد بشرية مهمة.