مقالة مهداة إلى روح فقيد الثقافة المغربية المرحوم أحمد الطيب العلج يتميز المغرب بتاريخ طويل من التعدد اللغوي والثقافي، غير أن هذه السمة أصبحت أكثر بروزا نتيجة الدور الكبير الذي لعبه التعليم في مرحلة ما بعد الاستقلال. أود في هذه المقالة أن أسلط الضوء على أثر التعددية اللغوية والثقافية في المجتمع المغربي وعلى التقاطعات بين التعددية الثقافية والمواطنة ، مبينا دور التربية والتعليم في تنمية وإدارة التعددية اللغوية والثقافية وفي تعزيز قيم المواطنة والحوار والتفاهم المتبادل والتعايش. و يختلف هذا النهج عن نهج الأحادية الثقافية الذي لا زال يطبع عددا من دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط في المناهج الدراسية كما في الخطاب السياسي خصوصا في الفترة قبل ما يسمى بالربيع العربي. فنظام القذافي مثلا كان يكن عداء شديدا للغة الأمازيغية ولثقافات الأقليات في ليبيا. على الصعيد العالمي هناك تمازج وتداخل لغوي وثقافي حيث لا توجد ثقافة خالصة وصافية البتة كما يقول الناقد الأدبي الألماني ألفونسو دو طورو، باعتبار أن التنوع هو طبيعة المجتمعات. فالتعددية الثقافية سمة ثابتة من سمات المجتمعات المعاصرة، والخطر يكمن في تهميش أوعدم الاعتراف بهذه التنويعات اللغوية والثقافية أوتدبيرها بصورة غير عادلة أو غير ديمقراطية.. وتتسم الهوية المغربية بأربع خصائص: جغرافيتها الإفريقية، أصلها الأمازيغي، ثقافتها العربية-الإسلامية-الأمازيغية وتطلعها إلى الحداثة بالانفتاح على اللغات الأجنبية كالفرنسية والإسبانية والإنجليزية. ويمكن لهذا التنوع أن يخدم الهوية المغربية إذا كنا أولا فخورين بأصالتنا وبجذورنا. ولا يمكن لهذا التنوع أن يفيدنا في شيء إذا لم نوظفه توظيفا إيجابيا في التنمية الشاملة. مخلفات السياسة اللغوية ما بعد الاستقلال اختار المغرب منذ الاستقلال اللغة العربية الفصحى كلغة رسمية للبلاد لكونها لغة القرآن الكريم ولكونها لغة مكتوبة لها أدب غني وتاريخ عريق. واتخذ التعريب وسيلة لتحديث ومعيرة هذه اللغة لتعبر عن مفاهيم وأفكار جديدة ومظاهر العلوم والتكنولوجيا والثقافة الكونية لتحل محل اللغة الفرنسية في جميع المجالات. ومن أهداف سياسة التعريب الحفاظ على الوحدة اللغوية وترسيخ الهوية العربية والإسلامية وتحقيق الاستقلال الثقافي في جل الميادين. وفي خضم هذه الوضعية اللغوية عانت اللغة الأمازيغية من الإقصاء والتهميش منذ الاستقلال حتى سنة 2001 لما أحدث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغيىة، وبعد ذلك في سنة 2011 لما اعترف الدستور الجديد باللغة الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب اللغة العربية الفصحى. فإلى حدود بداية التسعينيات، كانت الهوية الوحيدة المعترف بها رسميا هي الهوية العربية والإسلامية، وغيبت الهوية الأمازيغية عن قصد لأسباب قومية عروبية ووحدوية تحت تأثير مخلفات ما سمي بالظهير البربري. ولم يكن التعدد اللغوي والثقافي معترفا به رسميا كمظهر من مظاهر الثقافة المغربية، رغم أن الواقع المغربي يشهد بثقافة متنوعة وغنية يستحيل غض الطرف عنها أو تجاهلها. وهمشت الأمازيغية منذ الاستقلال تهميشا ملحوظا بحيث لم تهتم الدولة بكتابتها وتقعيدها أو إحياء تراثها، في حين انصب كل الاهتمام على تدريس اللغة العربية واللغة الفرنسية ونشرها عبر المغرب. ولم تعر الدولة أي اهتمام لدعم البحث حول اللغة والثقافة الأمازيغيتين على مستوى الجامعة مثلا إلا مؤخرا على خلفية خلق المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية المحدث حديثا، ومجموعة من المسالك و الماسترات الخاصة بالدراسات الأمازيغة في السنوات القليلة الماضية. تداخل اللغتين والثقافتين الأمازيغية والعربية يوجد تداخل بين الثقافة الأمازيغية والثقافة العربية الذي لا يعكس واقعا جديدا في المغرب وإنما يعكس حقيقة تاريخية عاشها المغاربة منذ 12 عشر قرنا في دولة موحدة بالإسلام السني الوسطي وبالنظام الملكي القائم على البيعة الشرعية المتبادلة بين العرش والشعب. بحكم التاريخ والتواصل الدائم بين جميع مكونات الشعب المغربي، فقد تم تلاقح الثقافة العربية والتراث الأمازيغي إلى درجة انصهار هاتين الثقافتين إلى حد هائل. ويتجلى هذا الانصهار العميق على مستوى الأدب الشفهي والأدب المكتوب وعلى مستوى الفن والموسيقى، حيث يطبع الإيقاع الأمازيغي بصفة مباشرة أو غير مباشرة الموسيقى المحلية والأغنية المغربية، بشكل يجعلها مختلفة عن الأغنية العربية في المشرق. ناهيك عن التأثير الهائل للعربية على اللغة الأمازيغية وكذا تأثير هذه الأخيرة على الدارجة المغربية بشكل واضح، كما بين ذلك الأستاذ محمد شفيق في كتابه تحت عنوان "الدارجة المغربية مجال توارد بين الامازيغية والعربية" والذي تم نشره من طرف اكاديمية المملكة المغربية سنة 1999. وينبغي التذكير هنا أن علاقة الثقافتين العربية والأمازيغية عميقة بشهادة التاريخ، وقد اتسمت هذه العلاقة دائما بالأخوة والتضامن والوئام والانسجام. و كل المغاربة اليوم سواسية أمام القانون سواء منهم الناطقون بالأمازيغية أو الناطقون بالعربية. و يشكل هذا الانسجام الحاصل بين الثقافتين مصدر افتخار وطني، وعلامة وحدة الوطن والمصير. بالنسبة للأمازيغ فإن لغتهم جزء لا يتجزأ من الثقافة الأمازيغية خصوصا والثقافة المغربية عموما. وهي المعبر الحقيقي عن شؤونهم اليومية وتقاليدهم وتراثهم والمرآة الحية التي تعكس وجودهم. وفي هذا السياق، فإن الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة رسمية هو اعتراف بالتعدد اللغوي والثقافي للمغرب، والنهوض بالثقافة الأمازيغية هو إسهام في تكريس دولة الحق والقانون وحاجز أمام كل أشكال التطرف والانغلاق. والمسألة الأمازيغية لا تهم الناطقين بالأمازيغية فقط بل تهم المغاربة قاطبة لأنها بالأساس مسألة حضارية جوهرية تطرح نفسها على القوى والضمائر الوطنية الحية. وسيساهم النهوض بالأمازيغية في التخلص من مخلفات الماضي وفي نشر ثقافة الديمقراطية والتعددية الثقافية والمواطنة والمساواة والتواصل مع كافة المغاربة. فلا ديمقراطية بدون حرية التعبير وحرية الخلق والإبداع. وبهذا يمكننا الانتقال إلى مواجهة التحديات العالمية ومنها تحدي العولمة. هل تشكل العولمة خطرا على التعدد اللغوي والثقافي؟ تفرض العولمة اليوم نفسها على الحياة المعاصرة، سياسياً واقتصادياً، فكرياً وعلمياً، ثقافياً وإعلامياً، تربوياً وتعليمياً. وهي بذلك من الموضوعات التي تحتاج معالجتها إلى قدر كبير من فهم عمقها وجوهرها، والإدراك لبُعدها وغايتها، والوقوف على ما تنطوي عليه السياسات التي تتحكّم فيها وتقودها، وتتحمّس لها وتدعو إليها، وتمهد للتمكين لها، بشتى الطرق وبمختلف الوسائل. ولقد أجمعت الدراسات الحديثة لنظام العولمة الذي أصبح اليوم نظاماً يشكّل ظاهرة كونية، على اعتبار أن الخطر الأكبر الذي تنطوي عليه العولمة هو محو الهويات الثقافية للشعوب، وطمس الخصوصيات الحضارية للأمم. ولقد اهتممت بموضوع العولمة منذ ظهور المصطلح وبدء تداوله، في إطار اهتماماتي بالقضايا الدولية ذات الطابع الفكري والثقافي والعلمي والتربوي التي تشغل حيّزاً كبيراً من اهتمامات النخبة المثقفة والصفوة المشتغلة بالعلم والفكر. وسبق لي أن درست ظاهرة العولمة من منطلق ارتباطها بالهوية، ومن منظور التنوّع الثقافي، وكتبت دراسة حول موضوع (الهوية والعولمة والتنوّع الثقافي)، وهو جانبٌ مهمّ من الجوانب ذات العلاقة بالمعركة الحضارية الكبرى التي تخوضها شعوب العالم الإسلامي دفاعاً عن خصوصياتها الثقافية أمام مخاطر العولمة، وترسيخا لجذورها، وتأميناا لوجودها المادي والمعنوي. الوضع اللغوي بالمغرب يتميز بسيادة الفرنسية على حساب العربية والأمازيغية كما أسلفنا يتميز الوضع اللغوي بالمغرب بالتعددية إذ هناك خمس لغات متداولة : الأمازيغية، العربية الفصحى والدارجة والفرنسية والإسبانية. ومنذ الاستقلال اختار المغرب العربية الفصحى كلغة رسمية للبلاد، واتخذ التعريب وسيلة لتحديث ومعيرة هذه اللغة ولتعريب الناطقين بالأمازيغين. ومن أهداف سياسة التعريب الحفاظ على الوحدة الوطنية وترسيخ الهوية العربية والإسلامية وتحقيق الاستقلال الثقافي. غير أن هذه السياسة سرعان ما اصطدمت بهيمنة اللغة الفرنسية التي فرضت نفسها كلغة الحداثة والتقدم، وما استعمال هذه اللغة في ميادين التربية والتعليم والإدارة والأعمال والإعلام على نطاق واسع رغم 56 سنة من الاستقلال والتعريب إلا دليل على أن الفرنسية لا زالت لغة التفوق الاجتماعي. وتعبر هذه الوضعية اللغوية عن توتر بين لغتين وثقافتين: العربية-الإسلامية من جهة والفرنسية- الغربية من جهة أخرى، كما تعكس صراعا طبقيا ونزاع مصالح بين الفئات الميسورة المتشبثة بالفرنكفونية والفئات الشعبية التي لا تتكلم الفرنسية، ما يخلق مشكل تواصل داخل المجتمع وبين الحاكمين والمحكومين، وتعبر هذه الازدواجية أيضا عن صراع من أجل السلطة السياسية والرمزية. نعم إن تعلم لغة الآخرين والاستفادة منها أمر مطلوب ومرغوب فيه وهذا ليس محل نقاش أو جدال؛ وذلك لأن معرفة لغة الآخرين، وفهم ثقافتهم يعتبران أمراً في غاية الأهمية وذلك لتنمية القدرات العلمية و توطيد التعاون ومد جسور التواصل والحوار مع الثقافات والحضارات العالمية. ولعل من أسباب فشل التطرف بكل انواعه في المغرب هو الانفتاح على اللغات والثقافات الأجنبية منذ الاستقلال بدون أي مركب نقص. تدبير الشأن اللغوي والثقافي المغربي أظن شخصيا أنه ينبغي وضع إطار عام لتدبير الشأن اللغوي والثقافي ببلادنا نظرا لما يميز الثقافة المغربية من غنى وتنوع وأصالة، فالمغرب يزخر بعدة ثقافات وطنية ومحلية، فإلى جانب الثقافتين الأمازيغية والعربية هناك الثقافة الإسلامية و والثقافة الحسانية والثقافة الإسبانية والفرنسية والغربية عموما. أملنا أن يساهم المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية في تدبير الشأن اللغوي والثقافي بالمغرب بشكل سليم . و بالمناسبة لا نعرف لحد الآن التوجهات الاستراتيجية لهذا المجلس. ومن المستحسن أن يتم تحديد برنامج خاص وشامل لتسطير الأهداف و عناصر التنوع الثقافي بالمغرب و تحديد أنشطة وبرامج وطنية وجهوية للنهوض بالثقافة المغربية كرافعة للتنمية البشرية. ويمكن للجهوية الموسعة التي أقرها المغرب أخيرا أن تساهم في تطوير هذا الزخم الثقافي الغني بكل أشكاله وألوانه وفي توظيفه لأغراض تنموية. وإلى جانب وزارة الثقافة ينبغي أن تعمل المؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية من أجل إبراز كل مكونات الشخصية المغربية وتوظيفها في التنمية. وحتى يتم إدماج كل عناصر الثقافة المغربية ينبغي في رأيي تلقينها في المدرسة والجامعة وتشجيع الأبحاث حولها. كما يجب تحفيز الشباب المبدع ولاسيما الفنانين والمثقفين والعلماء والإعلاميين والفاعلين الجمعويين الذي لهم تأثير كبير على المجتمع من أجل إثراء هذا التنوع الثقافي والمساهمة في التغيير البناء الإيجابي وتنمية قدرات المغاربة على خلق أنواع جديدة للتعاون وللمشاركة الفعالة في النهوض بأوضاع المغرب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمساهمة في تعميم ثقافة المواطنة من خلال الحوار الثقافي والبحث والإبداع المستمرين. أنا على قناعة تامة أن التبادل الثقافي يساهم أيضا بشكل فعال في التعريف بالآخر وأسلوب حياته وقيمه وبالتالي يضع حجر الأساس لمحاربة التطرف والأحكام المطلقة والمسبقة والصور النمطية. فالثقافة تعبر عن جماليات الحياة وتنوعها من دون التقليل من كينونة الآخر. وبفضل الثقافة نستطيع البحث عن مواطن الاختلاف والتنوع وليس بالضرورة عن جوانب الخلاف. خاتمة لكل بلد خصوصياته الثقافية والاجتماعية يتم التعامل معها حسب الظروف والمعطيات في كل مجتمع. والمغرب بطبيعة الحال مدعو إلى تدبير ثقافي سليم وفق برنامج وطني شامل كما أسلفت. وينبغي لهذا البرنامج أن يعرف بجميع عناصر ومظاهر الثقافة المغربية من لغات وآداب وفنون وعادات وتقاليد وطقوس ومعمار عبر التراب الوطني، وعلى الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني أن يدعموا كل الأنشطة التي من شأنها أن تبرز الجوانب الإيجابية لهذه الثقافة وتحفز الشباب على الاهتمام بها والحفاظ عليها لأنها رأسمال رمزي ضخم وملك لجميع المغاربة، دون إغفال الإلمام باللغات الأجنبية والثقافات الأخرى. وبما أن الثقافة ملتصقة بالهوية فيمكن القول أن لا هوية لمن لا ثقافة له ولا مستقبل لمجتمع انسلخ عن هويته الثقافية. * كاتب وباحث مغربي