يلاحظ المتتبع للساحة السياسية المغربية، بروز مجموعة من الظواهر الجديدة التي بدأت توسم بال"شعبوية" حينا ، و بقتل السياسة و خلط الأوراق أحيانا أخرى.في هذا المقال سأحاول أن أتقاسم بعض رؤوس الأقلام الخاصة بمشكلة العلاقة بين الفعل التواصلي و الفعل السياسي، و مدى بروز الفعل الأول مقابل تواري و محدودية الثاني. فقد كان للتغيير الواضح الذي ادخله رئيس الحكومة عبد الإله ابن كيران على صورة رجل السياسة المغربي اثر بارز حرك المياه الراكدة واحرق بعضا من لغة الخشب سيئة الذكر. لكن مع توالي الأيام و توالي الضربات و التنبيهات الصريحة أو من وراء حجاب، دخل رئيس الحكومة في صمت محسوب و اكتفى بإطلالاته الشهرية في البرلمان التي يرسل فيها رسائله إلى كل من يهمه الأمر. ربما يكون الدرس الأساسي الذي خلص إليه رئيس الحكومة هي ضرورة إعطاء الفعل السياسي الأولوية بدل الإعلاء من شان تواصله الشخصي و اتصاله السياسي. و الحال أن الساحة السياسية عرفت صعود أصوات من المعارضة أو الأغلبية نعزف على "النغمة البنكيرانية" و تمارس "معارضة تواصلية" شرسة بمناسبة أو من دونها، مما شكل ضغطا إعلاميا و سياسيا على الحكومة و حزبها الاغلبي. إن التهديد الأخير بالنزول إلى الشارع يشكل تهديدا حقيقيا للفكرة الديمقراطية التي تشق طريقها ببطء و صعوبة إلى المغرب، على اعتبار أن صناديق الاقتراع تبقى الأداة الأساسية لتفعيل الديمقراطية التمثيلية. و يشكل هذا التهديد مؤشرا واضحا على قصور الفعل السياسي و التواصلي معا، على اعتبار أن هناك آليات مؤسسية و سياسية لضمان مشروعية الحكومة أو نزع هذه المشروعية. إن الفوضى التواصلية التي تعرفها الحكومة والأغلبية تخفي اختلالا في الفعل السياسي لتنظيم العلاقة بين مكونات الأغلبية و تصريف القرارات السياسية على ارض الواقع.ذلك أن ممارسة المعارضة من داخل الأغلبية، ثم الاختلاف حول بعض القرارات بين الوزراء أنفسهم، و انتقاد الحكومة لخطاب بعض "نوابها" في مناقشة قانون المالية...تبين إلى حد أصبح الهم التواصلي يغلب على الهم السياسي، فضلا عن الرغبة الجامحة في ألا يبقى ابن كيران و حزبه وحدهما في الصفوف الأولى للمشهد الإعلامي. إن من المفارقات العجيبة في الحقل السياسي المغربي أن المؤسسة الملكية التي تضطلع بادوار دينية و تحكيمية و إستراتيجية تشتغل في الميدان على مدار الأسبوع، و تحتل النشرات الإخبارية الرئيسية بفعلها على الأرض. في حين، أن المؤسسة الحكومية -التي يفترض فيها أن تكون سلطة تنفيذية فعلية منبثقة من صناديق الاقتراع- تشتغل في وسائل الإعلام بالتصريحات و اللوائح و المزايدات.من يفترض فيه التواصل أكثر، يفعل أكثر و يتواصل بفعله. و من يفترض فيه الفعل أكثر، يتواصل أكثر بقوله لا بفعله. في العهد السابق، كان لتواصل المرحوم الحسن الثاني أثر على الواقع و على ضمان الحصول على الرضا الشعبي على الرغم من عدم شعبية الكثير من أفعاله أو أفعال من يأتمرون بأوامره.كان لخطبه شبه المرتجلة المباشرة و بلغة بسيطة و "شعبية" مفعول القوي على الرأي العام الداخلي، و قامت بادوار تنفيسية لان الشعب كان ينتظر بصيص أمل في التغيير و تحسين أوضاعه المعيشية. في العهد الجديد، انقلبت المعادلة، و صارت المؤسسة الملكية تتواصل أكثر بأفعالها عبر التغطيات السمعية البصرية المعروفة و المترسخة للأنشطة الملكية. هذه بعض النقط الصغيرة حول "الفوضى" التواصلية التي يعرفها الحقل السياسي المغربي أتمنى أن يتم التوسع أكثر في تحليلها في سياق مستجدات الساحة السياسية، و في ضوء متطلبات تفعيل الدستور الجديد و ممارسة السياسة فعليا بدل ممارسة الميتا- سياسة.