لقد أُنْشِئَت المنظومة التعليمية لتقوم بواجبها في بناء المجتمع وتزويده بالموارد البشرية اللازمة ، وكذلك بتكوين وتلقين روادها أسس الحياة ليكونوا أشخاصا صالحين مصلحين ، يقفون محاربين أشداء في وجه "الشر" أينما وجد. فهل حققت المنظومة التعليمية شيئا من هذا ؟ يرى البعض، أنه أمام تعقيدات الحياة اليومية وتعدد إكراهاتها وإغراءاتها ، وأمام العقبات التي تواجه المواطن والدولة ويفرضها تنوع المشاكل الاجتماعية والصعوبات الاقتصادية ،يصبح من العسير تحقيق أهداف التعليم بنسب مريحة، بل يصبح من الصعب على أي نظام تعليمي تحقيق غاياته . بينما في المقابل يرى آخرون أنه من السهل جدا تحقيق أهداف التعليم بنسب عالية حينما يصبح التعليم رافعة حقيقية داخل الدولة ومفتاح اقتصادها والنبراس الذي يهدي لكنز الاستقلال والاكتفاء والتقدم والاستقرار والأمن. في الحقل التعليمي جُرِّبَتْ في تُربته كل أنواع » الوصفات الفكرية « وكان آخرها التعليم بواسطة بيداغوجيا الأهداف ثم بيداغوجيا الكافيات فبيداغوجيا الإدماج ، وكلها مستوردة من الخارج ،ولقد تبين بعدما وقع الفأس في الرأس بأنها غير صالحة للبيئة التي استقدمت إليها في إحدى بلدان العالم الثالث . لكن بعد استنفاذ كل المحاولات وصرف ميزانيات ضخمة من أجل فرضها وتجريبها في الميدان التعليمي دون استشارة العاملين فيه، جاء الحُكم قاسيا على فشل المخططات الاستعجالية والترقيعية التي حذرت النقابات التعليمية ومن وراءها الأطر التعليمية وجمعيات آباء وأولياء التلاميذ من تبنيها دون تعميق التفكير في مدى ملاءمتها للبيئة المغربية. لقد كان آخر ما استوردته وزارة التربية الحالية »استعمال الزمن الجديد « المطبق بفرنسا والذي يُلْزم مؤسسات التعليم الابتدائي بالعمل طيلة أيام الأسبوع تماشيا مع المقاييس الدولية (..) عدا يوم السبت وبعد زوال يوم الأربعاء. لكن – للأسف- حسابات وزارة التربية الوطنية - تبين أنها- لم تكن مضبوطة لتطبيق الاستعمال الجديد في كل المؤسسات التعليمية نظرا لخصاص في قاعات الدراسة من جهة ، ونظرا لبعد بعض المؤسسات على سكنى روادها بكيلومترات متعددة. إلى جانب ذلك فإن جالبي استعمال الزمن لم ينتبهوا للخصوصية المغربية وتشبث المغاربة باجتماع أفراد الأسرة حول طاولة الغذاء جميعا في المنزل بحضور الأم. وبما أن الأستاذات أمهات كذلك، فإن استعمال الزمن الجديد بصيغته الحالية والتي لم يكن لمدير المؤسسة يدا فيه ولا لمجلس التدبير رأي فيه، أصبح عبئا ثقيلا على القلوب وسببا في خلخلة أسر عديدة وتشرذمها «فَغُيِّبَتْ عين الحبيب عن الحبيب« بفرض الاستعمال الجديد من فوق، رغم أن العديد من اللوائح تقول بوجوب احترام القرارات اللامركزية وإعطاء المدرسة والفاعلين الاجتماعيين أسبقية تسيير شؤون المؤسسة باستقلالية مقبولة. إن الذين يوصفون بأنهم متشائمون يصفون المنظومة التعليمية بأنها مازالت تبحث عن نفسها ، وتعتمد على التقليد ونقل التجارب من دول أخرى لتطبقها في واقع مختلف .ولم تصل بعد إلى مستوى خلق بصمتها الخاصة المدروسة والمحكمة والتي ستعطي للمتعلم دفعة قوية نفسية وفكرية وخلقية تجعل منه المتعلم »الراغب« في التعلم وليس »المجيب« تحت شروط معينة. وتعطي للأستاذ مساحة من الحرية مع التقيد بالبرنامج قصد التحكم في اختيار الوسائل والطرق وزمن التعلم المُحَبَّبْ للمتعلم بوصفات من الأنشطة المتنوعة في الموسيقى والمسرح والرياضة والخرجات الاستكشافية. ففي اليابان مثلا تخصص 30 سنة سنويا لمثل هذه الأنشطة وحتى لا يتحول التعليم إلى شحن وإفراغ للعقول ، بل يجب أن تتعلم » النفس« كذلك أدوات الحياة عبر الأنشطة الموازية والأحاديث –الحرة- لخلق روح مجموعة وروح التعاون وفكر التشارك وبناء الضمير وتجريب المسؤولية، ونشر ثقافة الحوار والاختلاف. سيكون من يقول بأن بيدغوجيا الكفايات أو التدريس بالأهداف أو بيداغوجيا الإدماج هو الحل لإصلاح التعليم، فالإصلاح لا يرتبط فقط بالبيداغوجيا »المستوردة« وإنما بشروط أخرى وعوامل يتحكم فيها لاعبون متعددون، من واضعي الأهداف والغايات والمقاصد إلى المتعلم الذي يتوقف عليه نجاح أو فشل التعلم بعد توفير كل الشروط له ومن حوله . فبنظرة سريعة لسبورة نتائج اولمبياد الرياضيات العالمي يتبين أن فرنسا التي نأخذ منها وننهل من تعليمها تحتل هي الأخرى موقعا لا تحسد عليه، وباستيرادنا لبضاعة فكرية من فرنسا – على سبيل المثال – نكون كتشبث غارق بغريق. في وقت توجد دول أخرى تحتل الرتب الأولى عالميا كالصين وروسيا ( التي ينظر البعض لتعليمها بازدراء) والهند والولايات المتحدة وحتى إيران. بقراءة سريعة لنتائج بعض الدول التي شاركت في أولمبياد الرياضيات العالمي نلاحظ بأن الدول الكبرى وعلى رأسها الصين تسيطر على المراتب الأولى في الأولمبياد، وتعتبر الصين بحق مزرعة الذكاء العالمي باستحقاق. ففي تصريح لأندرياس اشلايشر المسؤول عن الاختبارات الدولية (بيسا) التي تجريها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD والتي تعتبر المعيار الدولي الرئيس لقياس جودة الأنظمة التعليمية في البلدان المختلفة، جاء أن التلاميذ الصينيون يحققون نتائج مذهلة، حيث تأتي مدينتا "شانغهاي" ثم هونغكونغ في المركز الأول في تسلسل جودة التعليم في العالم. والسؤال، لماذا لا تقتفي وزارة التربية الوطنية خطوات المنظومة التعليمية الصينية التي تعتبر الأنجح من أنظمة تعليمية غربية؟ فالنتائج تتحدث عن نفسها وتبين أن النظام التعليمي الصيني يتجاوز "بجودته" الأنظمة التعليمية في الكثير من الدول الغربية ومنها فرنسا. نرد بعفوية « اطلبوا العلم ولو بالصين« ولكننا كنا نتجنب التفكير في "مرمى" المقولة إلى أن فرضتها علينا الصين بإنجازاتها واقتصادها القوي. وما تحاشينا للنظام التربوي في ذلك الوقت إلا تحاشي مضمر للنظام الشيوعي الذي كان يرفض الحديث عنه حتى الغرب. الصين اليوم تسير بخطى ثابتة نحو التقدم وهي تمزج بين الاشتراكية والرأسمالية بدون أي مركب نقص. فبعض أسرار نجاح المنظومة التعليمية في الصين يكشف عنها " أندرياس شلايشر" حين يقارن بين التلاميذ في أمريكا الشمالية الذين يؤمنون بالحظ، والتلاميذ في أوروبا الذين يزكيهم مركزهم الاجتماعي أو يخذلهم، وبين التلاميذ الصينيين الذين يعتبرون بأن النجاح يعتمد على الجهد الذي يبذله التلميذ وبمدى مراجعته لدروسه بإتقان. إن الصينيين يستثمرون للمستقبل وليس للاستهلاك الآني ، ولذلك يعتبرون التعليم مفتاح النجاح في كل الميادين . يقول شلايشر :» إنه في رحلة قام بها مؤخرا الى احد الأقاليم الأفقر في الصين، استرعى انتباهه كيف أن المدارس كانت أفخر المباني في القرى والبلدات التي زارها على الإطلاق على عكس الغرب حيث تكون مجمعات التسوق هي في العادة افخر المباني في المدن« من أجل ذلك تعتبر النتائج الذي يحرز عليها الصينيون في المناطق الريفية والبيئات الفقيرة قوية و ممتازة تضاهي النتائج المحصل عليها في أكبر المدن شانغهاي ، والتي يحققها أبناء الفقراء الذين تنير طريقهم وتشحذ رغبتهم دافعية قوية من أجل التميز وبالتالي تحقيق الذات وتحقيق غايات ومقاصد المنظومة التعليمية الصينية. وإذا كان الصينيون يختصون بكاريزما نوعية مكنتهم في وقت معقول من تبوأ مراتب أولى بين دول العالم ، والأمر راجع بالطبع لسياسة الدولة ، وانضباط المسؤولين ورغبة أبناء الشعب الصيني في التعلم . على عكس أبناء دول أخرى تبحث أنظمتها التربوية عن مخرج منذ أمد بعيد فلم تجده بعد ، في وقت بدأ المتعلمون فيها يحسون بالتخمة قبل الأوان ، وحيث ماتت فيهم رغبة التعلم، و التنافس و التميز، بسبب سوء فهم معنى حقوق الإنسان ومعنى الحريات، ومعنى المسؤولية، وكذلك معنى الدولة ومعنى المواطنة . هناك تلاميذ بعشرات الآلاف ، وهناك أفئدة بالعشرات فقط تحب التعلم و هي مستعدة للتضحية من أجله. آلاف الحكايات تؤثث ذاكرة المتعلمين المنشغلين بأغاني " الراي ، والهيبهوب والبوب"، وموسوعات النكت، وهم ينتظرون داخل الفصل آخر دقيقة للالتحاق بِرُفقة الهوى ، وبمن يبيعون لهم لحظات السعادة في قرص أو سيجارة معقمة أو معجون أو بسمة وحرارة لقاء في غياب تام لأي رقابة اجتماعية، ولأي رقابة أبوية. فبمثل هؤلاء ستجد أي منظومة تعليمية نفسها – يوما ما- في الحضيض ينخرها الفشل المتواتر. فالنجاح إنجاز الأقوياء الذين يحتكرون العصمة المقرونة برغبة اقتياد ركاب السفينة نحو " العلم الرصين" ،وبالتالي نحو البقاء والخلود في عالم لا يعترف بالفاشلين والضعفاء . فخطوات الصين ناجحة لأنها اختارت الطريق الصحيح قيادة وحكومة وشعبا . ليس اليوم ، وإنما منذ قرون ، فطريق الحرير التاريخية بصمة تَمَيُّزْ على جبين الصينيين . فبحلول القرن العاشر الميلادي، صارت الصين وحدها، تمتلك من مخزون الذهب قدراً أكبر مما تمتلكه الدول الأوروبية مجتمعة . وها هو التاريخ يعيد نفسه في عهدنا حيث أصبحت الصين تستثمر في الغرب مرفوعة الهامة. ولم يكن بمقدور أي دولة غير الصين مثقلة بمئات الملايين من البشر،وغير منتجة للنفط أن تتبوأ الرتبة الأولى عالميا، ولكن الصين فعلتها . فكاريزما الصينيين وحبهم لبلدهم ، جعلهم » يَحْطَبُونَ « الدولار ليدخروه في خزائن بلدهم الصين عوض تهريبه منها وتخزينه بالمؤسسات البنكية الغربية. فأي حزب يسهر على عيش أكثر من مليار نسمة لن يستطيع أن يراقب كل فرد على حدة . ولكن الصينيين استطاعوا- بعد تبنيهم لتربية وطنية صينية صارمة وصالحة - أن يصنعوا فكر الفرد ويؤهلوه ليكون صالحا لبلده أولا ثم لنفسه ثانيا .وتلعب المؤسسة التربوية في هذا المضمار الدور الأهم ، بتربية المتعلمين على الاعتماد على النفس عوض تعليق إخفاقاتهم على حبل الغير من منظومة تعليمية ودولة ومحليات . إذ يؤمن الصيني بقدراته أولا ثم بوقوف الدولة وراءه بتهييئها كل أسباب النجاح . يتساءل المرء أحيانا عن سبب حصولنا دائما عن » الأشياء« عن طريق الغرب وبارتباطنا به دائما كوسيط عوض التحاور المباشر مع صاحب الحق. فالشاي الصيني دخل المغرب عن طريق الإنجليز في القرن الثامن عشر بعد دخوله أوروبا في القرن السابع عشر. وكل التخوف أن نحصل على المعرفة الصينية »بيداغوجيا صينية« غدا عن طريق الغرب نفسه . فالمراتب الجيدة جدا التي يحصل عليها الصينيون في التعليم تغري أكثر من غيرها في الغرب . وتدفع المهتم إلى قراءة المنظومة التعليمية بالصين قراءة مستفيضة من أجل استخلاص العبر والفوائد والاستفادة منها.