أحرق صدامُ المتعجرفُ بغداد... أحرق نيرونُ المخبولُ روما ... أحرق بشار الغِرُّ المهبول حلب ... وأحرق المجنونُ الزاوية وأصابت ناره بنغازي وطرابلس، لكن الله سلَّم. كلهم كُنسوا إلى مزبلة التاريخ، ولن تغفر لهم الإنسانية جمعاء ما فعلوه بهذه المدن، وما جلبوه لها من خراب ودمار، وماجروه على ساكني المدن من مجازر وسفك للدماء وولغ في الأعراض وإهانة للإنسان الذي كرمه الله. فالمدن قبل أن تكون بنايات وطرقا وإعمارا وبنيات تحتية، هي تاريخ وحضارة وثقافة وذاكرة تختزن بين شوارعها وأزقتها وفي ثنايا حاراتها تاريخ الإنسان الذي مر من هنا وترك بصماته. لكن حين يؤول أمر هذه المدن، وأمر الإنسان، إلى رؤوس يملؤها الغرور، وإلى نفوس تعُجُّ بالتعالي والعجرفة والتكبر، فإن هذه المدن تحترق، و يذوق هذا الإنسان العذاب. تصوروا مدينة جميلة ك" حلب"... تصوروا أية جريمة تلك التي نعيشها بشكل مستمر ونحن نرى كمَّ الخراب والدمار المسلط على هذه المدينة.. (تتميز حلب بتاريخها القديم في كافة العصور، و تشتهر بأوابدها التاريخية الكثيرة ،مثل قلعتها الشهيرة وأبوابها وأسواقها: أعرق أسواق الشرق ،وبكنائسها ومساجدها ومدارس العلم ،وبصناعاتها الشهيرة منذ زمن بعيد ،وبما تمتلكه من تراث عريق في كافة المجالات العلمية والفنية والادبية والثقافية. وتنتشر الأماكن الأثرية بكثرة في مدينة حلب ،وفي مدن وقرى المحافظة كالقلاع والمتاحف والأديرة والكنائس والمساجد والاسواق الشرقية الشهيرة. وتعد أسواق مدينة حلب الشرقية من أطول الأسواق في العالم حيث تمتد لمسافة تزيد على 15 كلم ،والعديد من المصايف والأماكن الطبيعية والغابات الرائعة في ريف المحافظة وعدد من الفنادق الدولية ومن مختلف المستويات ومدن الالعاب ( كمدينة حلب المائية )والمنتزهات والحدائق الجميلة والكازينوهات والمقاهي والمطاعم .وتشتهر حلب بمطاعمها العريقة وبأكلاتها المعروفة الشهيرة مثل الكباب والمشويات الحلبية والكبة الحلبية بأنواعها وبعض أنواع الحلويات التي تنفرد فيها حلب عن غيرها من المحافظات السورية ) (هي متحف التاريخ وحديقة آثاره منذ بدأ الإنسان يترك أثرا على وجه المعمورة ، وهي المدينة الجامعة لعمالقة الشواهد المعمارية الخالدة التي تقترن عظمتها بعظمة بناتها منذ وجدوا . إنهم سلسلة من الخالدين ،لم نعد نعرف شيئا عن الحلقة الأولى منها ومازلنا نشهد حلقاتها ... سلسلة منطلقها الأزل ومستقرها الأبد ...) لكن قدر حلب الشهباء، التي يقدر عمرها بحوالي 12 ألف سنة، والتي شغف بها الشعراء والكتاب والمؤرخون والرحالة وأهل الفن والصنائع، لدرجة الغلو كما هو حال الأخطل الصغير الذي قال فيها مادحا : لو ألف المجدُ سفراً عن مفاخره *** لراح يكتب في عنوانه حلبا قدر هذا الفردوس الأرضي أن يؤول إلى واحد من غلمان بني أمية في الزمن المتأخر، يعبث بمآثرها و معالمها وتحفها وتاريخها العريق. الغِرُّ الأرعن الذي قيل أنه درس الطب ذات يوم، في غفلة من أبقراط، لم يتعلم إلا نشر الفيروسات والجراثيم والأوبئة. ولم يتقن إلا إثخان الجراح وسفك الدم الحرام. يظن نفسه قادرا على استرجاع زمام المبادرة بالطائرات الحربية والمدافع والقاذفات والراجمات والتهديد باستعمال السلاح الكيماوي. إنها "فرزدقيات" لن تجدي هذا الغلام الأحمق شيئا. وسيجد نفسه على أعواد المشانق في نهاية المطاف، أو مخنوقا في بالوعة للمياه العادمة، وفي أحسن الأحوال منفيا يرعى الخنازير البرية ذليلا وحيدا. ******************* هل كانت هذه وحدها الخيارات المتاحة أمام هذا الطاغية والمذكورين أعلاه من صنفه الإجرامي، وكل من أباح لنفسه أن يدمر البشر والحجر والشجر؟ ألم يكن بإمكانهم "كتابة تاريخ" آخر بلون آخر غير لون الدم والقتل والدمار؟ لا يقولن قائل إن الأمريكان هم من أحرقوا بغداد، فهذه هي الأداة الجهنمية التي نفدت. وهي موضوعة رهن كل من يبغي للخراب سبيلا. أما من يحمل وزر القرار بداية، ويحمل إثم البداية وسوء التدبير فهو صدام. كما أن صنوه في الشر بشار يتحمل مسؤولية إحراق حلب وسوريا كلها. لأن هناك تجارب أخرى، في تاريخ الإنسانية، آثر أصحابها الاحتكام إلى صوت العقل ونداء الضمير وواجب الخلق ليكتبوا سيرة مدن أخرى، ويرسموا لها طريقا نحو المستقبل غير طريق المجهول. ومن بين هؤلاء رجل إسمه المسجل بشهادة الميلاد : ديتريش فون شولتز، لكن إسمه التاريخي هو الرجل الذي لم يحرق باريس. كيف حصل ذلك؟ ( ديتريش فون شولتز ...آخر جنرال ألماني حكم باريس ...وفي يوليو 1944 أصدر هتلر أوامره إلى الجنرال ديتريش أن يحرق باريس....وهذه عادة المجانين، يصدرون قرارات لا يُتصور أن يقبلها عقل سليم، وبالمقابل لا يتحملون حتى مجرد نقاش بعض تفاصيلها ، وليس في الجيش الألماني جنرال يمكن أن يعصي قائده....خاصة إن كان هذا القائد هو هتلر....ولكن شولتز لم يحرق باريس. لأن إرادة الله حالت دون ارتكاب هذه الحماقة. ولأن الجنرال استطاع أن ينصت إلى ضميره بعيدا عن أوامر القائد المجنون. ولأن هناك دائما من يدل الإنسان على فعل الخير إن أراد لنفسه خيرا. وهناك طبعا من يحثه على فعل الشر، إن كان للشر أقرب. وفي كل الحالات، ومهما تكن الظروف والأسباب يبقى الإنسان مسؤولا لوحده عن أفعاله... مسؤولا في الدنيا والآخرة. بعد 22 عاما من صدور هذا الأمر الغريب، وامتناع الجنرال عن تنفيذه...أي عام 1966 ذهب شولتز إلى باريس ...هذه المرة ليس كجنرال ألماني...ولكن بدعوة من شركة سينمائية كانت تصور فيلماَ عن باريس تحت الاحتلال الألماني... وكانت هذه هي الفرصة التي سنحت له كي يكشف لماذا لم ينفذ أمر إحراق مدينة النوار. جلس الجنرال يحكي للمؤلف ,وللمخرج والمصور ما حدث ذات يوم من يوليو 1944..وفجأة ............. وفجأة ...أصيب الجنرال بنوبة ربو يعاني منها منذ صغره ...فأسرع إلى الشرفة للبحث عن نسمة هواء منعشة ....وخرجوا جميعا معه.. وقال شولتز :إن نوبة ربو مماثلة هي التى أنقدت باريس !! ونظر إليه الجميع في دهشة فأضاف : في 27/8/1944 طلب "بيارتينانجن" رئيس بلدية باريس مقابلتي وبعد إلحاح شديد من جانبه قابلته... وأخذ يرجوني ألا أحرق باريس... (سؤال بريء : ألا يوجد "بيارتينانجن" عربي يستطيع أن يوحي إلى مجانين العرب ألا يحرقوا مدنهم وبلدانهم ؟؟... مجرد سؤال ) ولكني لم أتأثر بكلمة واحدة مما قال ...فقد كانت أوامر هتلر واضحة وحاسمة ....أن أحرق باريس وأثناء حديث بيار ...انتابني نوبة ربو مماثلة ..فأسرعت إلى الشرفة في طلب الهواء النقي... وأسرع بيار يلحق بي ....وبينما نحن واقفان أشار بيار الى كنيسة سانت شابيل ومتحف اللوفر وابراج نوتردام وقال بلهجة مؤثرة: ( جنرال فون شولتز....انظر الى روائع التاريخ ، وافترض أنك ستعود في يوم آخر وتقف هنا وتقول: كنت قادرا على إزالة هذه الروائع من الوجود ولكني فضلت أن أبقي عليها إكراما للإنسانية ، أليس هذا انتصارا أكبر من انتصار إحراقها ؟؟ وبالفعل اقتنع الجنرال أمام إلحاح رئيس بلدية باريس، وأمام نداء ضميره الذي لم يسمح له أن يرتكب حماقة شنيعة لا لسبب حقيقي، ولكن فقط تنفيذا لأوامر قائد متهور. وهكذا لم تحترق باريس... ودخل فون شولتز التاريخ لأنه لم يحرق عاصمة النور ولأنه خالف أوامر هتلر... وعندما مات شولتز بعد زيارته الثانية بأسابيع نشرت الصحف الفرنسية صورته وتحتها : "الرجل الذي لم يحرق باريس ") منقولة مع بعض الإضافات أقرأ هذه القصة، وأتساءل بكل ألم : لماذا لم يظهر بيننا الرجل الذي لم يحرق بغداد؟ والرجل الذي لم يحرق حلب؟ والرجل الذي لم يحرق الزاوية؟ ولماذا لم تحبل الأرحام في عالمنا العربي برجال آخرين كنا سننظر لهم بكل إجلال واحترام لأنهم استطاعوا لجم شهواتهم وكبح نزواتهم، فلم يعتدوا على حضارتنا وتاريخنا وقيمنا ومبادئنا. ولم يقدسوا الكرسي النجس على حساب كرامة الإنسان. أعود إلى حلب التي تحترق الآن، أتحسر مع "أدونيس" وهو يتألم على مصير الشهباء، ويكتب بقوة الغضب وألم العاجز العاشق لوطنه : ( أكاد أن أسمع المتنبئ يهمس في غضب دفين: إن كان العملُ أو الفكر بناءً حقاً، فإن عليه أن يبني الإنسان، قبل أن يبني المدينة) مأساتنا حقا ليست بسبب هؤلاء الذين يهدمون المدن على رؤوس أصحابها، ويحرقون أسفارا من التاريخ البشري ، ويقبرون معالم الحضارة الإنسانية. هي جريمة ،ولا شك، لا تغتفر. ولكن ما كان لهؤلاء أن يتجرؤوا على اقتراف مثل هذه الأفعال الهمجية الشنيعة، لو لم يكونوا في قراراتهم قد تجاوزا الخط الأحمر القاضي باحترام الإنسان، بعدم المساس بحريته وكرامته وكل حقوقه. فحين يهون الإنسان، يصبح كل ما عداه أهون. تصبح المدنُ حجارة، والحضارة ترابا، والجثث سمادا يخصب الأرض المسقية بالدماء. هكذا يفكر القتلة والمجرمون . فيا أيها الإنسان، ليس مطلوبا منك ألا تحرق باريس أو القاهرة أو لندن لكي تدخل التاريخ من أبوابه الواسعة. تستطيع أن تفعل ذلك بتكلفة أقل، حين تتعالى عن أنانيك، وتتواضع أمام خالقك، وتتحلى بالخلق الإنساني الرفيع ، وتسعى لفعل الخير، ولا تهين أي إنسان لأي سبب.... إن فعلت، ستسجل إسمك في الخالدين، ويقال عنك : الرجل الذي لم يُهن الإنسانَ أبدا !! وعليك من الله سلام. [email protected]