كنت أرقب التلفاز بعين فاحصة تحلل جاهدة كل حركة ترفُّ للرجل، أو سَكْنَةٍ ذات حمولات يجود بها بين الفينة والأخرى، ممتعضا من سؤال صُحفي عُرف عند سادة الإعلام بجلد محاوريه بكرم بالغ . ينشدُ قصب السبق في قطف الخبر اليانع قبل أن يسبقه إليه آخر، فتذهب ريحه من كثرة النشرعلى المواقع إلى أن يجف، فيتخذوه رمادا تذروه الرياح بعد حين في أيام عواصف." كَثْرة صّْبَاعْ كَتْزَرَّڭ لبْلُولُ". عود على بدء، فأداة صاحبنا في الجني لسان سليط به شفرات حادة من كلا الجانبين، لا يحيد عن مرمى كلما اِنسلّ من جيب فمه يرنو الهدف لا سواه ،تسابقه في ذلك الفطنة في التخطيط ،و الدقة في التصويب .وقد رسم الواقع من علٍ سلفا قبل جني القطاف بساعات على أديم أوراقه، ليضحى مُعِدًّا ومُستعِدّا. منتهجا بذلك سياسة الجنرال ليوطي في التحليل و النقاش للواقع المعاش ."غِيرْ النقاش للنقاش ، كِيِّتْ اِلِّي جَاتْ فِيه". هذا، وقد أبان في حلقاته التي لا يجاريها العَد، ولا يحتويها السّد، بمعية كبار الساسة وصناع القرار، فضلا عن رجالات الدولة ذوي الصولة و الجولة . أبانت هذه اللقاآت و تلك، عما شهد له به عبد الهادي بوطالب - مستشار الملك الراحل و أستاذه - بالكفائة العالية و الإلمام الفسيح في صرح الإعلام ودهايزه . ليغدو صاحبنا بئرا لا تكدِّره الدِّلاء من فيوضات البحث و التمحيص ، وكذا التدقيق في إنتقاء السؤال و اِبن أخيه، يهوي به على الضيف كفعل المطرقة في السندان من كل جانب دون شفقة منه ، أمام مرأى و مسمع الملايين و لا مغيث ."غِي الله يْخَفَّفْ مَا نْزَلْ وخْلاصْ". كانت سَكتات ضيف الحلقة كتلك التي عُرفَ بها فقهاء الديبلوماسية ذووا الحنكة في الخطابات السياسية الموزونة ، لتفادي أي زلقة تُسْكِبُ الرجل على قفاه على حين غرة، برقصة لسان غير مدروسة منه، تُغمسه رأسا حتى المنكبين في مستنقع قضايا شائكة، فيضحى وجبة دسمة تثير شهية الإعلام النهم ، يسيل لها لعابه حبرا قانيا، فتُروَى بها أقلام المترقبين العطشى، التي ما فتأت تكيل زلات الرجل بالرطل بدلَ المُدّ ، أو بالأحرى "طفشات" هو في غنا عنها." الله يَدِّينَا فالضُّو، ويْجِيبْنَا فالصّوَابْ". نعم، لقد بدأ يعتاد الرجل على حرفة " التَّاويزاريت" شيئا فشيئا ، و صار يُرفق عظمة لسانه بدواس عالي الجودة، ينظِّم سرعته تلقائيا كلما صادف مطبّات أو نزناجيرَ يفرضها الواقع السياسي المغربي، فيجتازها "بَلْفَنْ". هذا، وقد اِستبدل فرامله "الشعبوية" المهترئة نوعا ما، بأخرى ممتازة تقتضيها "الظروف الراهنة"، أو " المصلحة العامة للدولة" . تجيد إحجامه أو إلزامه الوقوف في الوقت المناسب ، و المكان المناسب و إن كان يغدو بسرعة لم تضمنها له مدونة السير حتى. وأخيرا و ليس آخراً ، فَقِهَ الرجل إلى قول أحدهم ،و هو يلج إحدى مساجد الرباط " سَرّحْ رَجليكْ على ڭَدْ لحصِيرَة، لتلقاها فالدَّسْ " . لوهلة، أخذ الرجل يزبد و يرعد بغتة ، و قد شعر الصحفي رأسا أنه وخز الجرح بدبوس صدئ، لطرحه سؤالا شُدّت له الأنظار خلف الكواليس، و بعضها في الخارج لاصق شاشة التلفاز، يترصد الجواب المجلجل من رئيس وزراء المغرب. و قد فطن الرجل لمحاوره " حتى هُوَ مَسَاهَلشْ "،و أحس بالفعل أنه وطأ منطقة محظورة عند " الكبار" ، لطالما اِتستفزت حفيظته الديبلوماسية، الحديثة عهد بألاعيب السياسة الوازنة ، و إن كان قد أكمل دورة تكوينة منذ سنين عددا تحت أعين القوم ، و إشراف العيلة . " زَعْمَا ، عَلى عَينِينْ النّاس". لنُعِد المشهد قليلا . نعم ، تراقصت حاجبا المحاور صعودا و نزول و عينه على الضيف تحذق بإمعان ، وكأنه يقيس حرارة هذا الأخير بعرضه على جهاز مسح. حركة يرنو من خلالها تحليل ملامح الضيف بالميليميتر، يتحسس ردة فعل الضيف بعد كل سؤال يخر له السقف . إتخذها كإعلان طارئ أو اِستنفار لزلزال وشيك من الدرجة الرابعة . حركة قلما يرسمها هذا الإعلامي الشرس على جبينه، إلا إذا عزم على طرح سؤال يوقظ المارد من قممه ، يعزف من خلاله على وتر حساس للغاية ، يستشيط له الضيف حنقا طيلة خمسين دقيقة من عمر الحلقة ، أو يزيد . و كأن المحاور ينفث السم الزعاف من أرضية لسانه على محيا الضيف ، ليجعله يقرّ بعفوية ملفتة، بعد أن استدرجه بغتة بفعل التخذير ، وقد سبقته ضربة أفقدت الضيف وعيه جعلته على إثره يرغي ويهدي. و حتى و إن توالت أسئلة أخف ، فمفعول أولها يبقى ساريا، لا تنفك ملامح الضيف إظهاره و إن كابر باستماتة." الله يْكُون فَلعَوْن". بدا "أحمد منصور" للعامة كما للخاصة هادئا من خلف الشاشة رابط الجأش ، مسترسلا في الرفع و النصب دفعة واحدة، و كأنه يمدّد السؤال في أم رأسه بحاجبين تآكلا من جهة الصدغين ، يواكبه فمه في بث السؤال ، ليستقر كالإبر في خصر الضيف قبل مسمعه، وقد بدا عليه الإمتعاض ، ليتوالى رشاش الأسئلة الهادرة و قد اِنسلت كالجامح عن الطوق من ثخوم فم "أحمد" يقصد الضيف و من خلفه. ماذا سيفعل السيد بن كيران في مقالع الفساد و جبال الريع ؟؟. أو بالأحرى ، كيف سيتعامل مع أرشيفات الفساد التي توالت الحكومات السابقة في الزيادة من سرعة صبيبها، حتى اِنفجر المصب و غرقت الضحية - ولاد الشعب - خنقا ؟؟؟؟. هل سيقدّم زبانية نهب الملك العام للمُحاكمة ؟؟؟. فضلا عن ذلك ، كيف سيتعامل سيادة الوزير مع أشباح أو تماسيح أو عفاريت حتى ، عُرفت عند العامة بالإسم و النسب و تاريخ الميلاد ؟؟. كيف سيتعامل مع هاؤلاء المردة من الإنس و بعضهم لا يزال يصول و يجول في دهاليز صنع القرار أمام مرأى و مسمع دولة الحق والقانون ؟؟؟ هل سيجرأ بتقديمهم للعدالة ، ليعلم المغاربة قاطبة حُسن نية الرجل في خدمة البلاد والعباد؟؟. أو على الأقل، هل سيشل أيديهم ليكفي الخلق شرهم من التمادي ؟؟. غيمة حبلى بعلامات اِستفهام طُغْرائية سدت الأفق ، ما فتأت تتراقص فوق أرؤس المشاهدين في الداخل و الخارج قبل الضيف . أمِّيِّهم قبل مثقفيهم ، شبانهم قبل شيّابهم في عصر ثورات و فورات، جعلت من الكل محللا سياسيا محنكا في زمن قياسي و دون شهادة تخرّج، فصارت على إثرها حصة الشباب تُكَالُ بالرطل بدل الصاع، لنفاذ وقعها في تغير الكفة و تعديل الموازين، و إن وزنها كبير القوم دام بقاؤه لما فيه خير البلاد و العباد، و سدد خطاه، و أيده بالبطانة الخيّرة ما أحياه."آمين" . ملايين، بل الملايير من خزينة الشعب، إستهلكها زبانية مقالع الرمال، و الريع بغفيره و نفيره ،و كذا الإعلام و مثيلاته عدة، لا يتخللها حرف عطف من خيرات البلاد و أرزاق العباد. وإن تعدّوا مصائب القوم لن تحصوها." الله يحد الباس وخلاص". أرشيفات أثقلت الرف من سُدة الدولة ،و صارت مجلداتها تعاني الرطوبة في الظل. تُرى و لا تُلمس . ليس لقدسية المقام ، و إنما لحساسية الحال . أرشيفات أضحت تتآكل بفعل النسيان تارة، و التناسي أخرى . ومنها من تحلل بفعل الرطوبة مع السنين، ليس من غفلة القيمين عليها، بل من تغافل الرقيب على القيّم . ومنها من بُيِّتَ في الرطوبة بليل ليتفتت في الصباح. غير أنها دساتير عصية على فعل الزمن ، كُتب لها الخلود. ملفات لا تسقط بالتقادم و إن تلكأت عنها المحاكم ، ستبقى إلى أن تلوذ ، بأصحابها و لهم تعود. فتُرَدّ المظالم إذ ذاك للمجنى عليهم، و يستريح لها ذاك القائم على أبواب المحاكم ،يصبو لجرعة حق يتلقفها بنهم و شراهة تسد له رمقه . بقرة حلوب فاقع لونها تسر الناظرين، تدر أموالا صافية لخدمة البلاد و سد رمق العباد. شفط أباطرة الفساد درعها لآخر قطرة، و منهم من أوكل من يشفط بالنيابة عنه بعد أن اِرتوى شفطا، و لا أخاله اِرتوى، فالطبع يغلب التطبع. " عَمَّرْ الرَّقَاصْ ما يَنسى هَزّة لَكْتَفْ وَ لْولْفْ صْعِيبْ ". بقرة ترعاها الدولة بالكلأ و البرسيم اليانع عن حسن نية، من بيادرالشعب و مراعيه الخصبة لاستذرار حليب خالص. و آخرون يشفطون لا يرضعون في غفلة من أعين الدولة ، و قد تختبء الغفلة بزيِّ التغافل حينا. إلى أن أضحت بقرتنا الحلوب هذه مصابة بجنون البشر فغدت تجيد النطق" سَرَّاقِينْ اللبن مَا خَلاَّوْ لَعجُولْ يَرَضْعُو، الله يَاخُذ الحق". كان سؤال المحاور هذا أقصر من طرف لسانه ، و لعله تسلل من بين شفتيه دون أن ترقبه عيون المخزن هذه المرة. فهو نتاج عهد جديد، يرقص اللسان فيه و يلوي عن كل شيء دون حسيب . فضلا، على أنه صحفي يعرف من أين تؤكل الكتف ، يجيد السلخ بشفرة لسانه في استنطاق ضيوفه بسخاء بالغ. وقع هذا السؤال الفضفاض في سمع بن كيران كجلمود صخر حطه الماضي السياسي العفن من علٍ. ماض مسكوت عنه، يأرق له الرجل و يقضُُّ مضجعه، إن لم نقل يتقل كاهله بطريقة أو بأخرى . و إن حدث، أن طُرحَ ذات السؤال على رجل دولة نافذ، و حدث أن كشف ملفاته الحساسة للعامة، سحقته من فوره فسحقت من حوله جملة ، للتتوالى السحقات تباعا إلى أن تبلغ السقف فيقع على الشعب ليبقى الضحية . آآآه، و ألف آآه . سؤال ذو شجون، يحمل في طياته الملايين من الضحايا، و ليس في طاقة الرجل حمله، وهو الذي لم يبلغ في موقعه الحالي سن الرشد بعدُ في صنع القرار، و إن أريد له التنفيذ فحسب. لم يتردد لهول الإجابة .لا، و ليس حتى تلكؤا منه في الرد .لا، و ألف لا، و إنما قد يشعر الرجل أنه أريد له أن يتحمل جرائم غيره في السلب و النهب لأموال شعب "طالب معاشو"، ينشد ضروريات الحياة ليواصل المسير على مضض ليس إلا . وقد قالها الرجل مرة " المغاربة قادين يْعِيشو غير بالخبزْ وَاتايْ" ،وقد نسي أستاذ الجَرد و الحساب في الفيزيا أنه ليس بالخبز وحده يحي الإنسان. شعر بن كيران ساعتها أنه كبش الفداء حقا ،أو أ ُريدَ له أن يصير مسّاحة أرجل لأحدية عاتت في الأرض فسادا دون أن يظهر زبانيتها للعلن، تحاكي الشياطين في القول و تفوق خبثهم في الفعل و إن اِيستوى الكل في " يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم" ليُسَمُّوا بذلك أشباحا ، و الأشباح منهم براءٌ براءة الذئب من دم اِبن يعقوب. وقد يعلم الرجل جيدا، أنه حتى و إن ضاعَ أو ضُيِّع أرشيف النهب و الفساد في المغرب من سُدّة رفه الرسمي ليبقى طي الكتمان . فلا و لن يتلاشى من عقول المغاربة المكلومين و لو قصاصة أو حتى تذييل، و التاريخ بيننا أستاذ شاهد " ديرها غزوينة فهاد لبلاد السعيدة" . عرّجَ ذات السؤال، على آذان الملايين من الشعب المغربي يطرق سمعهم بعنف، بما في ذلك الأشباح المعنين بالقول، أو عفاريت الإنس ذووا الصلة . لعله أهم سؤال طرح في تلكم الحلقتين التوأم لما له من فعل في خلط الأوراق، و اِستخراج مارد آثر الحلم على اليقظة عنوة، كي لا يَفزعَ له الكبار قبل الصغار، إن حدث أن اِستماله رئيس الوزراء و لو بطفشة منه هذه المرة " فهمتي و لالاََّ.." . " يالله، جَاوَبْ أسِي بن كيران، أتْوكلْ عللّه أ ُوَرينَا حَنّة يَدّيكْ". صاح " عبد المولى" و قد اِنتصب قبالة الشاشة يرتشف كوب شاي بصخب يعلو صوت التلفاز ينخلع له الباب. و استطرد " الحاج العربي" بلسان ينوب عن خبرة صقلها الزمن " مَعَنْدُو ما يْڭولْ أوَلْد عَمِّي غِيرْ اِلَى بْغَا يَجْبَدْ عْلى راسُو النّحل" و عينه تحدق في الشاشة بإمعان ، يلوي بيدٍ فَرْشَ رغيفٍ طلاه بزبدة بَلْديّة عن آخره، و يدفع بأخرى كسرة رغيف يتقاطر زيت العود منها، يدسها في جيب فمه بنشاط و قد دفعها لسانه جهة الغرب حيث ينتصب ناب خمسيني يتيم، يعاني الوحدة في بيت هجره أهله كرها .ناب قد كُشف عن جذره لطول الوقوف ، و كثرة المهام المختلفة و المتنوعة بين قضم و عض، و سحق و مضغ، فر أصحابها قهرا قبل اِستكمال العِدة، ليتجلى في فمه كالشاهد على القبر في الأرض الفلاة . عادت الأنظار إلى بن كيران ثانية، و قد اِستطرد الرجل في صبّ سيل هادر من الخطابات الصاخبة، تجيد اللفّ و وتتقن الدوران حول ثخوم الإجابات الشافية، دون أن يجرؤ على لمسها حتى ، قبل أن يبلغ بها المصب. و قد أغرق المحاور حتى الصدغين ، ولم يترك له بنت ثانية ، أو جزءا منها ليتنفس، كي لايستوقفه "منصور" ثانية برأي معاكس، يغدو كالعصى في العجلة، فيصبح الرجل عل إثره يزدرد ريقه أمام المغاربة و القصر، و قد اِمتقع لونه حرجا بعد أن اِبتلع لسانه ، ليعود الحاج العربي متنهدا" الله يسل الشوكة بلا دم".. وانتقاما، أفرد المحاور للرجل حلقة أخرى و قد كبّله أمام المشاهدين، و كأنه يأخذ عنهم الموافقة الرسمية نيابة عن الضيف، ليجد هذا الأخير نفسه مجبرا على الإستأناف كرها، رغم زحمة مهامه وضيق وقته الثمين، و كذلك كان . ولحدة جهورية صوت الرجل ، كان يملأ القاعة و يصمّ آذان محاوره بلغة عربية حصيفة حينا، ودارجة مغربية حينا آخر كلما ذرعرق الغضب بين عينيه لتعاوده العفوية ثانية وهذه المرة بفرامل تجيد الكبح ببراعة ، رغم أسئلة مستفزة تجعل الرجل يتصبب لها عرقا من كل جانب. وتراه لا يفتر عن قرص أنفه باستطراد ، و كأن رائحة سؤال نتن إستقرت على أرنبة أنفه فأزكمته بغتة لحساسيته المفرطة. كان الله في عونه،فثمة ساسة سبقوه ، كان لا يطرف لهم جفن لسؤال بشع، و لا يتحسس لهم خيشوم من رائحة سؤال نتن حتى، وقد أصبحت للقوم من الواقع المرّ بأشكاله مناعة مكتسبة، بعد أن تعاقبوا تباعا على تبنّيجنا لعقود خداعات طوال، فقدنا خلالها جميع حواسنا الخمس ، اللهم إلا من شعور بالخوف كان الوجبة الرئيسية لكل من أينعَ جُمْعُ رأسه فجأة أو " سْخَن عْليه راسُو إن تجاوز لازمَة شُوفْ و سْكُتْ". يصل الرجل إلى نشوة خطابه - كالسلطنة عند أهل الفن - بعد أن اِستمال الصحفي قليلا، ليعلو ضحكه المباغث، يكسر جدية الحوار الملتهب فجأة و يقلل من سرعة وتيرة حزمه المعتاد مع ضيفانه ذوي الحجم الوازن . لقد كانت تلك طفشة أخرى، طفشة (نكتة) ديبلوماسية هذه المرة، جاد بها رئيس الوزراء من سلة نكاته المعهودة، لينفجر الصحفي على إثرها ضاحكا قد تمددت تقاسيم وجهه، بعد أن فغر فاه لتنسل قهقهاته مدوية في جدران المبنى الحكومي، حيث تنعقد إحد حلقات " بلا حدود" ليحلو الكلام بعدها وقد اِستحال الحوار " بحدود" على مقاس الوزير هذه المرة. هذا، و قد فرض رئيس الوزراء وجوده بالفعل، بعد أن أحكم قبضته من ناقل الحركة من يد "منصور" ليغير دفة الحوار كيفما شاء، و وقتما شاء . فتراه ينوب عن محاوره في طرح السؤال حينا ، و إبداء جوابه حينا آخر . و حتى و إن حاول المحاور إسترجاع المقود من جمع كف الرجل بسؤال ملتهب يكوي ظهر يده ، يبادره الرجل بطفشة من جيب فمه تجعل المحاور ينفجر لها ضاحكا ، و قد أحال نار سؤاله بردا وسلاما قلبه ، و يده عن المقود لا تحيد. وبذلك يكون قد تملص الرجل إن شئت القول من عنق الزجاجة بذكاء بعد جهد جهيد.إنتفض الوزير في وجه الكل، و حمّل المسؤولية للماضي المقزز و بيده أرشيف زبانية الفساد و هم يرزقون ،كما أنه لم يألو جهدا في التشديد على أنه جاء في عهد جديد ، و ظرف مستجد، لا يلوي عنقه للماضي، بل يتخذ سبيله في مستقبل الأيام سببا. ليسل الشعرة من العجين، وكأنه يقول بلسان الحال هيهات " طاحت صمعة ، علقو الحجام!" .واِدعى الرجل أنه لو فتح الباب لسياسة الزجر و العقاب لمن تلطخت يداه بأموال الشعب، فهو قطعا لن ينتهي باعتبار الفساد وبناته لوثة متجذرة كخلايا سرطانية ينبغي استأصالها من بدن الدولة، بعد أن عجز معها الطب، ليفر الجلاد بالجمل و ما حُمِّل من خير البلاد و رزق العباد دون حسيب أو رقيب. " والرزق علله". ما اِستوقفني في هاتين الحلقتين التوأم في فقه الساسة للواقع، إستوقف "الحاج العربي" و صديق طفولته " عبد المولى" من العامة. و أنا ثاني اِثنين ، أرقب الكل من بعيد ، أخط لكل طريقه باتزان ، لأوصل الفكرة لمحطة الفهم الواضح دون تعرجات أو مطبات تهمل القصد في الوجهة و هو القارئ الكريم، القابع خلف شاشة الحاسوب يجوب معي كل هذه الفيافي دون أن يتسرب إليه ملل يُثني ، أو كلل يُحجم و قد طال بي الطريق. نعم .. نعم ، أنت أقصد. "عفا الله عما سلف"، لفظة رجل دولة وازن في تصريح رسمي ما سبقه إليه أحد من العالمين، حقا لأمر عُجاب ، تنط له العين من محجرها، و تندى له الجبين دما ، بل يُفرغ الجمجمة من الدماغ . أفي دولة أميرالمؤمنين، و حامي حمى الملة و الدين ، و في القرن الحادي والعشرين ، يجود الزمان ببن كيران ليفصل برقصة لسان من جيب فيه في شكوى ضد فسادل مستشري باض منذ عقود و فرّخ. شكوى، ضحايها أزيد من ثلاثين نسمة ، و الجلاد فيه لا يعدل حفنة من قنطار. شكوى تختزل سنوات عجاف من القهر و الحرمان.بل، تختزل الزمن بأبعاده الثلاث ماض ولى ،وحاضر مُعاش طلَّ، و مستقبل هلاّ،إن عشنا له."عفا الله عما سلف" أربع كُليمات تمثلت للحاج العربي وعبد المولى كآخر مسمار دُق في نعش "الحكامة الجيدة" و"فقه الواقع" التي كان يتغنى بها الرجل قبيل الإنتخابات "وعَندْ التّفْويرَة بَانْ لحْسَابْ". "عفا الله عما سلف" أربع حقنات يُبنِّجُ بها أزيد من ثلاثين مليون نسمة، يتخذها لهم بلسما ريثما تنصرم عِدته في "التاويزاريت" بعد أربع سنوات بالتمام والكمال، لتوافق العدد في العدة بشكل ملفت. حاشا لله و تقدس اِسم الله ، بل وتعالى عن ذلك علوا كبيرا حتى ننسب إليه ما اقترفه خلقه. وإنه لخطأ جسيم ، بل زلة تندك لها الجبال ، و تخرُّ لها السموات السبع و من فيهن، إن آمنا بهذا المنطق المهترئ و صدقنا. فهم يهز أركان صرح العقيدة السمحة برمتها في علاقتنا بالله عز وجل. ويناطح أعلى درجات سوء الفهم بفقه الدين وعلاقته بالسياسة، فكيف تُراك تطمح لدولة تُساس بدين الله . ولعلمكَ أيها العارف ،كل فعل سيء يقترفه الخلق يفصل الله فيه يوم القيامة علنا، إلا الظلم فالله تعهد للمظلوم بالقصاص في الدنيا قبل الآخرة و لو بعد حين ، ولكم في نهاية حكام العرب عبرة يا أولي الألباب . أيها العارف الذي عُرف بين طلبته في الفصل بالقول السديد ، و الذكر الحميد . من أوكلك عن الله كي تتحدث باسمه ، ولم يسبقك إليها حتى ملك البلاد وعاهل العباد من قبل . كان حسبك قولا " عفا...عما سلف" ثم صَهٍ، لتجعل من دبلوماسيتك أنيقة ، وكلماتك عندها تتجلى للقوم رشيقة ، تناطح الدقة في التضمين ، ولتغدوا عند محليلها لفظة حُبلى حمَّالة أوجه، يتناوب كل منهم على حدا في تشخيص هوية جنينها الخفي عل قدر فهمه، فيستبينوا إذ ذاك حقا و صدقا، حقيقة ذاك القابع بين "عفا" و "عمّا" و الله منه براء. بدت لي من بعيد، بلغة " عبد المولي" تسافر في الهواء، و قد تجاوزت التلفاز ببضع ملمترات قلائل، لتستقر في إحدى زاوية الباب القزديري السميك، بعد هبوط اِضطراري حيث أخطأت الهدف. فأتبعها الحاج العربي بحزمة لحاف شرقي سحبه من على أرضية رأسه القاحلة بضربة عفوية ليصيب الشاشة في نقطة الإرتكاز، إلا أنها لم تصبها في مقتل. أخذ هذا يشتم الحال و المقال، و يعربد علّه يجد لكلماته صدى فيشفى الغليل ولو بالقليل . و أخذ داك يُفَصِّل ما شاء من الكلام الفِجِّ دون فواصل ، يلبسه ضيف الحلقة قبل المضيف بلسان مغربي قح . "هاد عفا الله عمّا سلف ، غَادِّيرْ لِيَّ فُمْ باش ناكُُل شْدَڭ تاع لخُبْزْ فرمضان "، صاح الحاج العربي بصوت مدوي ، و هو ينهج بقوة و قد اِشتد حنقا لجواب الرجل . وأردف عبد المولى بنبرة حادة مستطردا "إوا أسّي بن كيران هَاد عفا الله عما سلف رَاهَا بين الله و العبد مَاشِي بين العبدْ و العبدْ ".جازت لك إن كانت لك مع أحدهم يا سيادة الوزير وسامحتَ مؤجورا في ملكك،أما وإن أصبح لأزيد من ثلاثين مليون نسمة لها من القصمة نصيب،فلا حق لك في الحكم لأن النطق به فرد عين لا فرد كفاية. نظرتُ إلى هذا وذاك مليا و قد خيمت فوق رأسيهما خيبات أمل داكنة ملأت جدران بيت في طور البناء حيث هما . كالهمس، ترامت إلى سمعي كلمات الحاج عبد المولى يرغي مخاطبا الحاج العربي بما معناه " يا ابن عمي ، مِنَ الخطأ أن نُحمّل هذا الرجل المسكين- بن كيران- تركة غيره و إن اِعْتُبرَ قولي هذا في قاموس السياسة لا يجوز، ففي فرنسا ومثيلاتها على سبيل المثال ، تُحمّل الحكومة الجديدة مصائب سابقيها، لتقوم بإصالح أعطاب السلف بعوينات الحاضر دون أن يعيقها الماضي، فينعم بعدها الخلف القادم بما حققه السلف المنصرم ، و هكذا ودواليك. أما هاهنا يا ابن العم ،فالأمر مختلف جملة وتفصيلا ، القضية" مْخَلْطَة بَكْرَاع ْ مُشْ " . هذا الرجل جاء بحسن نية ،و والله إني لأراه صادق . قد يهفو لسانه مرة، و يكبو جواده أخرى لكنك إن أمعنت النظر مليا رأيته يؤثرالمصلحة العامة للبلاد والعباد على الخاصة في التقديم . ولذلك تراه لا يكشف عما نصبو إليه حديثا ،وقد قام بما لم يقم به غيره حقا، و لا زال الطريق أمامه طويل . أنت تعلم يا ابن العم أننا لم نستفد من قطعة الأرض هذه إلا في عهد حكومته الفتية هته ، و صار لنا بدل الكوخ القصديري بيتا، ألا ترى أننا صرنا ننهل من الصنبور بدل البئر ، ونركب الناقلة بدل الحمار في هذه الأرض الفلاة - ولله الحمد - شُوفْ غِيرْ المعارضة قد أضحت للمعارضة ليس إلا .يا اِبن عمّي غِي قطرة قطرة كَيْحْمَلْ لْوَادْ وَ يَامْ الله طْويلَة ولحْمَارَه مَشَّايَه". نظرت إلى الحاج العربي يُومئ بطرف رأسه لعبد المولى مؤكدا حديثه على مضض، وقد أخذ يعدّل عمامته بيسراه من جديد،مستأنفا بيمناه ما أحجمت عنه اضطرارا من ليِّ و ثنيٍ للفائف المْسَمْن البَلْدِي. يجاريه في ذلك عبد المولى ، و قد استأنف هو الآخر يُهدّأ مناخ مزاجه برشفة - أصخب من سابقتها- من كأس بلوري أبهتته كثرة الأصابع، ترامت إلى مسمعي من خلف الباب، كزعيق شاحنة قادمة بسرعة مائة و أربعون في الساعة أحجمت عن السير بغتة في سهل شديد الإنحدار ينهي بها الحلقة، و قد لويتُ عائدا إلى البيت مثقل الرأس أمشي الهوينى . *أستاذ اللغة الإنجليزية ومترجم [email protected]