الثقافة، كنتاج فكري وإبداعي بما يشمله من فنون ورؤى جمالية بات سلعة "بايخة" كما يقول إخواننا المصريون. فقد تتصفح جريدة ما، ولا تعثر على أخبار ثقافية، أو مقالات حول هذا الفن أو ذاك، وذلك باعتراف العديد من رؤساء التحرير الذين يعتبرون ويعترفون في قرارة أنفسهم، أن ما هو ثقافي مضيعة للوقت، ومن دون جدوى. ما نجده بديل ذلك،هو أخبار وتصريحات، وأفكار عن السياسة،وما أدراك ما السياسة. وكأننا بهذا الفقر وعدم الإشباع الحقيقي، بالمفهوم النقدي والإجرائي للسياسة، كمطلب جماهيري وكمعترك يومي لتدبير الشأن العام واليومي،وأمام هذا التغييب، نجد ضالتنا في الحديث عن السياسة وأخبار السياسة،وذلك ليس من باب التحليل والكشف عن الخلفيات، ورسم السيناريوهات والاستناد للمعطيات الحية،ونقد أو تقييم الإنجازات والإخفاقات التي تطمس للأبد، ولكن محاولة منا لإيهام أنفسنا والقراء، والطبقة المتعلمة أننا نمارس السياسة ونفضح، ونتابع.سقت هذه الملاحظة لأننا عندما نغتال الخبر الثقافي والبعد الثقافي بمعناه الأوسع لهذه المجلة أو تلك الجريدة،فإننا نمارس إنتقاءا وتحيزا ربما يبرره عزوف القراء والجمهور عما هو ثقافي،وحبه فيما يشبه النميمة بأخبار السوق عن أسرار هذا الوزير،أو فضائح ذاك الرئيس.حتى وإن حضر هذا البعد من خلال بعض الملاحق الثقافية التي تموت وتحيى بقدرة قادر والتي تسكنها نفس الأسماء، وكأنها العمق الفكرى الوحيد والأوحد في البلد،مستنسخة بذلك نظام الحزب الواحد والكرسي الواحد،والتي بالمناسبة تنتمي لنفس الحي أو الحزب أو الحمية،وتكتري بها لمدد متراوحة، وتكتب حسب اهتمامات المشرف أو المسؤول عن الملحق .فإذا كان يهتم بالشعر، جاءت كلها عن الشعر،أما إذا كان يهتم بالرواية، فتبدأ بدراسة عنه كروائي ومنظر يهابه الفرسان. أنا أتساءل كيف لا يستحي هذا المفكر الفذ والروائي المغوار من تخصيص مقالات لاسمه المبجل، وعلى صحيفة أو جريدة يشرف عليها هو وخصوصا في ملاحقنا الثقافية؟ وهنا أذكر كيف أن باحثا في الأدب وعلم الجمال انتهى من صياغة مقالة عن كتاب له فقدمها لصديق كي ينشرها بإسمه، وكأن الصديق فعل ذلك طوعا واختيارا. وبالتالي يصبح إعلامنا وصحافتنا،إلا النادر منها والرصين ذو البعد الأخلاقي والعمق الفكري، مجرد اجترار،وصيانة لماكينة تداول وترويج مجموعة من الأخبار من هنا وهناك، لتمسي في الختام لا هي صحافة ذات بعد سياسي ولا بعد ثقافي، وإنما كائن هجين يتغذى على صياغة وصناعة الإثارة، وتنميقها بأساليب تضفي عليها هالة الجديد والمغاير، وأحيانا حتى الناقم المعارض.لذا تجد نفسك أمام خليط من العجائن والفطائر منها ما هو إجرامي ،ومنها ما هو غدائي وما هو رياضي، ومنها ما هو جنسي وغرامي بشكل رخيص،لكنه معلب في قالب من العلمية والرصانة. ما قلته على الصحافة المكتوبة بشكل مقتضب، يصدق وبمعنى أشمل عن فضائياتنا.فباستثناء قناة فضائية ثقافية واحدة مصرية تنعت نفسها بهذا النعت،وهي بالمناسبة تستند في عملها لمفهوم إذاعي مقروء أكثر مما تستند لمفهوم الخبر الفضائي المصور، حيث يلاحظ أن بعض الجلسات الثقافية لا تتجاوز تبادل أطراف الحديث فيما يشبه الحلقة للتحدث إلى المشاهدين.قلت أن القطر العربي بأسره وبكل طاقاته البشرية، وموارده الطبيعية، ومجالسه العلمية والإعلامية،وخيراته النفطية والإستخباراتية، لم يستطع خلق قناة فضائية ثقافية واحدة ،كما فعلت دولتين أوربيتين هما فرنسا وألمانيا مع قناة ARTE. ما يحضر في قنواتنا وخصوصا منها الرسمية هو أخبار المراسيم والفتوحات الوزارية،حيث تغلب لغة الخشب في إشهار الإنجازات والتحقيقات الكبرى على سواها.كما تحضر أخبار الرياضة والفنانات،والطبخ .وتغيب بشكل واضح الحلقات الحوارية التي تستضيف المفكرين ورجال المعرفة،والعلوم والسياسة.فنحن نولي الأخبار الطازجة والجاهزة حقها ، ولسنا بحاجة لوجع الدماغ، ولهمز المراقبين.لذا نكتفي بجعل الإعلام المرئي بكامله تحت هوس الأمن، ومسخرا لمسلسل التجهيل والإلهاء في مسرحية سياسية مكشوفة يتخلى فيها الإعلام عن وظيفته الإخبارية والتحليلية، ليتحول إلى هدر للمال والوقت، في خطاب تبريري وكأنه عرس استعراضي لا أقل و لا أكثر. وما دمت قد استهلت حديثي عن الثقافة، فلا بأس أن أقف عند كيفية إدراج ما يسمى بالسينما في بعض القنوات العربية.وهنا لا أتحدث عن أخبار متفرقة عن هذا النجم أو تلك النجمة، ولكن عن برنامج سينمائي يحمل من المواصفات المهنية، والمضامين المرتبطة بمجال السينما كفن وكثقافة.إطلالة سريعة تمكننا من القيام بوضع مقارنة بين ثلاثة أصناف من البرامج.منها برنامج على القناة التونسية ،والسورية،ثم المغربية بقناتيها الأولى والثانية ،وذلك بدرجات متفاوتة في مغادرة الأستوديو، وحمل الكاميرا إلى عيون أماكن الحدث السينمائي ،حيث نلاحظ أن المشرف أو المشرفة عن هذا البرنامج يتحدث في الغالب مع مخرج أو مخرجة، أي عن أفلامه وتصوراته، وكيفية تعامله مع المكونات السردية والتقنية لأفلامه،ولو نادرا .بالمرتبة الثالثة نجد برامج تسمي نفسها سينمائية كأسبوع السينما أو السينما في أسبوع لا يهم الفرق، على قناة الجزيرة، أو برنامج 35 ملم على قناة ن.ب.ن اللبنانية، أو السينما على قناة أبو ظبي وكل محتواها يمكن مقارنته بمسابقات الأغاني التي احتلت المراكز الأولى،أو برنامج آخر عن السينما على قناة دريم 2 من تقديم النجم المصري نور الشريف .فكيف بشخص سبق وأن قدم على قناة أخرى،أظنها أبو ظبي، "وزنك ذهب" ويأتي ليقدم برنامجا عن السينما محاولا تطعيم حديثه بتحاليل عن القصة والشخصية بشكل باهت ،لا يخرج عن نمطية التعامل المستهلك والمعروف. هنا لا نصير أمام جدة البرنامج وعمقه، ومدى قدرته على تناول السينما من زوايا إبداعية ورصينة،لكننا نصبح أمام مفهوم تسويق صورة النجم وأسطوريته في تمرير خطاب الحلقات من أجل خلق تجاوب لاشعوري مع ماض المقدم عوض كفاءته ومؤهلاته ليس في التمثيل والأداء، ولكن في المعالجة الفنية والتحليل الصحفي للمواد المعروضة. وتأتي جل هذه البرامج في شكل استعراض للحظات الذروة في الحركة والقتل، والجنس عند بعض هذه الأفلام التي حققت حسبها أكبر الإيرادات. ومن حقنا أن نتساءل عن أية معايير وعن أية أحكام ،وكذا عن نوعية هذا الجمهور ومن أي قارة هو، ليصبح حبه لهذا الفيلم أو ذاك مرجعية إعلامية لي أنا العربي المسلم أو المسيحي أو الأمازيغي من شمال إفريقيا أو من الخليج العربي ليحدد توجهاتي وقناعاتي الفنية. الملاحظة الأولى تتعلق أساسا بالمدة الزمنية المخصصة للبرامج السينمائية التي تعتبر ضيقة، مقارنة مع البرامج والفقرات الأخرى،وحتى وإن كانت نسبيا متوسطة الطول، فالغالب أن إعادة عرض الأفلام يستغرق مددا أطول من الحديث أو التعليق عليها .وكأننا بذلك نعيد عرض تلك الأفلام في حلة وحيلة جديدتين من دون أي تحليل أو استكشاف.أما الملاحظة الثانية فتتعلق بطرق معالجة المواد، فهي في مجملها إخبارية واستعراضية.والأمر من ذلك كله،أنها تغيب الذائقة الفنية العربية بمكوناتها الجمالية والتراثية،والثقافية لترتمي في حضن مقاربات تبسيطية كلها شغف واغتراب، واتكاء على مشاعر إنبهارية، يغيب فيها كلية الحديث عن، أو الإشارة لأية سينما عربية أو أفلام عربية .والإشارة الوحيدة هي دعوة الجمهور لصالات هاته العروض . فهل هذه برامج إشهارية للدعاية ليس إلا، أم هي برامج تثقيفية تروم خلق نوع من المعرفة والاهتمام ،ولو بشكله الأبجدي، بمكونات اللغة السينمائية وشؤون المخرجين العرب وأفاق أعمالهم، والصعوبات التي يواجهونها من حيث نشر أعمالهم وتشكيل صناديق للدعم السينمائي بدء من السيناريوهات،وانتهاء بالنقد والتوزيع المعرفي والتجاري.وأذكر كيف أن منشطة سورية استضافت المخرج التونسي رضا الباهي ضمن حلقة من حلقاتها وقال لها بالحرف "ما نعانيه هو سوء التوزيع والتواصل مع الجمهور العربي العريض، بل اقترح عرض فيلم له على القناة السورية، وبدون أي مقابل. أما الملاحظة الثالثة،فإننا نتحدث في هذه البرامج وأقصد الإشهارية منها وليس الحوارية،وكأننا في معزل عن عالمنا،أو أن سينمانا وسينمائيينا بألف خير،ممارسين دور النعامة في إغماض العيون عن عوراتنا ،أو مفترضين أن سينمانا لا ترقى لمستوى السينما الأمريكية أو اليابانية، لذا لا داعي للحديث عنها أصلا .أفلا يكفينا هذا الحضور الباهت والمخجل لكتابنا وفيلمنا في المعارض الدولية للكتاب والفيلم لنزيد العمى على العمش، ونسقط في تبجيل الآخر وتحقير الذات متجاهلين كل نقد ذاتي بجرأة وموضوعية، ومكرسين فضائنا وفضائياتنا لتصبح أذيالا تستند في أخبارها ورؤاها ،ومسلسلاتها لما تزودنا به المراكز الدولية والشركات الأجنبية،هادمين بيوتنا بأيدينا كما يقال، والعياذ بالله. *كاتب وناقد سينمائي