أطباء بالقطاع العام يضربون ل3 أيام مطالبين الوزارة بفتح باب الحوار    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية        النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    نُبْلُ ياسر عرفات والقضية الفلسطينية    المغرب يحتل المركز الثاني في كأس أمم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية بين المغرب والاتحاد الأوروبي    حقي بالقانون.. شنو هي جريمة الاتجار بالبشر؟ أنواعها والعقوبات المترتبة عنها؟ (فيديو)    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    ذكر وأنثى فقط.. ترامب يتعهد بوقف جنون التحول الجنسي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    الحلم الأوروبي يدفع شبابا للمخاطرة بحياتهم..    أسرة المدرسة العليا للتربية والتكوين بجامعة ابن طفيل تستنكر "المس بالأعراض" الذي يتعرض له بعض أطر المؤسسة    الإيليزي يستعد للإعلان عن الحكومة الجديدة    الكرملين ينفي صحة تقارير إعلامية تركية عن حياة الأسد وزوجته بموسكو    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تصعيد خطير.. تقارير عن توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    من يحمي ادريس الراضي من محاكمته؟    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استراتيجيا الخطاب الإسلامي الجديد وسؤال التفكيك
نشر في هسبريس يوم 07 - 09 - 2012


قول في الوسطية المغلوطة
يذهب الفيلسوف العربي الإسلامي محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه(جذور المأزق الأصولي) إلى أن من يعرفون بدعاة (الإسلام الوسطي) أو مدرسة الوسطية، يعيدون إنتاج مأزق الحركات الجهادية؛ إذ يشتركون معها في المرجعية والنصوص التأسيسية الأولى. ويوجد الفارق بينهم في انتقائية التيار الوسطي للنصوص والأدلة لتناسب الظروف والسياقات، في وقت نجد التيار الجهادي يلتحم بالنصوص الدينية التراثية من غير اعتبار لسياق أو لظرف.
والتياران يتفقان في تهميش الحرية الإنسانية في أدبياتهما لصالح ثقافة الطاعة والعبودية وخدمة الدين،الحرية بما هي مفهوم قراني مفتاح لممارسة وجودية وفكرية في الحياة تقوم على الاختيار الحر؛ رغم أن التيار الوسطي يظل حريصا على وضع مسافات عملية وواقعية بينه وبين التيارات الجهادية، ويقدم نفسه (كأطروحة دينية تنويرية) ضد العنف والكراهية والتطرف. إلا أن الأستاذ حاج حمد يكشف بأن التيارين يقفان على خلفية معرفية وفكرية واحدة، مع تميز التيار الجهادي بتشبث منسجم ومتين وكامل بالنصوص خاصة الحديثية، عكس الأسلوب الالتفافي الذي يعتمده التيار الوسطي؛ فالتيار الوسطي مثلا يحرم القتل، ويحذر من خطورة استباحة الدم، في سياق حملات التنديد بأعمال عنف تنسب عادة إلى حركات دينية، وخاصة الجهادية منها. وغالبا مايكون التنديد ذا طبيعة سياسية مرتبطة بواقعة أو حدث ما ! ولاتمس جوهر التفكير الديني لتيار الوسطية؛ إذ مايزال هذا التيار يفكر وفق الشحنات الدلالية التراثية المرتفعة لبعض المفاهيم الملتبسة في هذا الفكر،اليوم، مثل: الكفر والباطل والولاء والبراء...
وهذا التناقض في فكر التيار الوسطي،وهو بالمناسبة التيار الواسع في صفوف الإسلاميين، ليس المسؤول عنه أفراد هذا التيار، لأن أكثرهم مناضلون شرفاء وأهل خلق شخصي نزيه،كما أن الحركات الإسلامية المعاصرة اليوم والتي تقود التحولات الديمقراطية في بلدانها أصبحت أكثر نضجا وأكثر اقتناعا بالخيار الديموقراطي،بل وتبحث جاهدة عمن يخلصها من الفكر الديني المغلق الذي يحرجها في مساراتها السياسية والاجتماعية ويضعف تنافسيتها ويمس مصداقيتها ويحرمها من استلهام الأفكار الدينية التحررية كما طرحها القران الكريم وجسدتها التجربة النبوية الرائدة. المشكلة إذن في جذور الفكر الديني الموروث الذي يحملونه في أذهانهم، مما يحتاج إلى تفكيك بعيدا عن عمليات الترقيع والتلفيق التي يقع فيها هذا التيار، مما يؤسس لشخصية منفصمة ومضطربة عند عموم المتعاملين بهكذا فكر !
إن التفريق بين التيار الوسطي والتيار الجهادي، على أساس البيانات السياسية والعلاقة مع السلطة، لن يؤسس لحركة إسلامية راشدة وواقعية وفعالة، كما لايمكن من فهم علمي وموضوعي لهذه الحركات.
وقد سعى حاج حمد في مشروعه الفكري إلى تفكيك بنية الفكر الديني الذي تقف عليه هذه الحركات جميعها في ضوء القرآن الكريم، من خلال مقاربة معرفية تستوعب الأنساق الحضارية وتتجاوزها نحو كونية إنسانية؛ مقاربة تمس أسس المؤسسات الإسلامية وأشكالها التنظيمية وبناها الفكرية وشرعيتها الاجتماعية.
وتعني المقاربة المعرفية وفق كونية القرآن الكريم مراجعة الموروث الثقافي الديني بعيدا عن كل أساليب التلفيق والتبرير التي نهجتها بعض الدول الإسلامية ذات الحمولة الدينية، محاولة، بشكل عبثي، مواجهة التطرف بفكر متطرف مثله يقف معه على الأرضية الفكرية نفسها مما سبب كوارث فكرية وثقافية وسياسية واجتماعية إضافية لهذه الدول؛ فمن جند الشباب العربي، مثلا، للجهاد في أفغانستان ضد السوفياث، لايمكن أن يبرر لهم حرمة الجهاد ضد أمريكا؛ وهذا الدور المضطرب والكئيب هو ما يقوم به فقهاء الأنظمة وأيديولوجيو التيار الوسطي، من دون وعي أن حركات الجهاد التي انبثقت هنا وهناك لم تكن تخرج عن الإستراتيجيا الأمريكية (والتكتيك) الأمني لأجهزة الاستخبارات في إطار المصالح العليا لأمريكا وحلفائها. فوقعت الأنظمة والحركات الإسلامية في "فخ كبير" مازال يتسع إلى اليوم، عابرا للأيديولوجيات والثقافات والحضارات والأديان والخطط الوطنية للاقتصاد والتنمية، وبمنطق برغماتي نفعي مطلق يشكل إيديولوجيا متوحشة للطبقة المتعالية في أمريكا والمسيطرة على الدولة والاقتصاد والإعلام.
1- الفخ الأفغاني وتبلور الإستراتيجيا التوظيفية
كانت المشكلة الأفغانية واحدة من المشكلات الثلاث المتزامنة بالنسبة لمنطقة الخليج أواخر الثمانينات، إضافة إلى الثورة الإيرانية (1979) والحرب العراقية الإيرانية (1980). ولدراسة المشكلة الأفغانية التي عرفت بالجهاد الأفغاني استثمر حاج حمد خبرته بالقرن الإفريقي والبحر الأحمر وتعقيداته الإقليمية والدولية. كما استثمر علاقاته باستخبارات كوريا الشمالية عبر بيروت وعبر أصدقائه فيها لتجميع المعلومات الدقيقة. وكان هذا المجهود الذي بذله حاج حمد حول "الجهاد الأفغاني" قد نشر في جريدة "الفجر" في أبوظبي والتي كان يديرها عبيد المزروعي؛ فمنذ سنة 1980، أي مع بداية الجهاد الأفغاني، سعى حاج حمد إلى فضح الفخ الأمريكي، وكتب مقالة بعنوان "بريجنسكي يسبح في مصر ويصلي في أفغانستان " (أبريل 1980)؛ وأثبت في المقالة أن أمريكا تسعى إلى جر الصين للاصطدام مع الاتحاد السوفياتي وإيجاد محور صيني-باكستاني لمواجهة محور الاتحاد السوفياتي- الهند. وقد تصدى رموز الحركات الإسلامية إلى هذه المقالة وحرضوا ضدها في المساجد وفي منابر أخرى. وعمق حاج حامد من دراسته "للجهاد الأفغاني" بكشف خطة أمريكا ورغبتها في ابتزاز العرب الخليجيين والتضحية "بالدم المسلم" في تلك الحرب الإستراتيجية وفق خطة الهيمنة الأمريكية. ولم تكن أبدا حربا عقدية جهادية ضد حكومة نجيب الله الشيوعية في أفغانستان. وظهرت مقالة أخرى لحاج حمد بعنوان: "حتى لانبكي غدا على أفغانستان" (ماي 1980). ويذكر حاج حمد أنه كان يدقق في المعلومات والمعطيات لكشف أبعاد الإستراتيجيا الأمريكية ليس بحكم كونه "موظفا" في وزارة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة يومذاك كما اتهمه كثيرون، ولكن بدافع من همه الإسلامي والعربي. وكان حاج حمد متيقنا، وهو يقدم صورة مخالفة عن الجهاد الأفغاني، من أنه يرتكب خطأ جسيما؛ ذلك أنه يوقظ نائمين لم يستعدوا بعد للإيقاظ ! وبحكم الحس الإسلامي الدافع لحاج حمد والذي لايؤمن باليأس كتب مقالة بعنوان "الحادبون على المسلمين في أفغانستان" (ماي 1980)، داعيا الحركات الإسلامية ودول الخليج إلى ضرورة الخروج من المأزق الأفغاني الأمريكي من خلال التفاوض مع السوفيات، والانتباه إلى أن الحلف الذي كونته أمريكا لمواجهة الغزو السوفياتي لأفغانستان إنما يخدم أهدافها بالدرجة الأولى على حساب المسلمين ودول الخليج والعرب بعامة وحتى الأوروبيين.
هذه الخطة الأمريكية لاحتواء العالم والغائبة عن تفكير الحركات الإسلامية، وكذا أنظمة الخليج، تكررت مرة أخرى بعد أحداث وتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر2001؛ فقد تم التهيء لها عبر استدراج العراق لغزو الكويت ثم استعمال أسامة بن لادن وطالبان كستار دخاني لنيران تشعل .هذه المعطيات جعلت الإنسان العربي بين كماشتين؛ إما الانسياق للمشروع الأمريكي للهيمنة على العالم من جهة، أو الإرتماء في أحضان الأصولية المتطرفة التي نشأت في أحضان أمريكا ووظفتها ضمن مشروعها من جهة أخرى ، مع انسلاخ قوى أصولية مضادة من داخل هذه التركيبة في إطار " رد عكسي مضاد" لايفرق بين أمريكي بريء أو مذنب ! بناء على إيديولوجيا ارتدادية عصبوية وماضوية.
2- إيديولوجيا محاربة "الإرهاب" وآلية الهيمنة والاحتواء
كان "الإرهابي" عند بداية انحسار المد الاستعماري واستقلال دول العالم العربي والإسلامي هو الحركات الوطنية والثورية الاشتراكية واليسارية وقوى المنظمات النقابية والأجيال الشابة التواقة إلى التغيير. وقد شكل هؤلاء، بنظر حاج حمد، نقيضا مزدوجا للأنظمة المحلية من جهة وللنفوذ الاستعماري "غير المباشر" على هذه الأنظمة من جهة أخرى. وقبل بروز الآلية الأمريكية وتحمل مسؤولية مواجهة الإرهاب، بهذا المنظور، سعت القوى الاستعمارية الغربية إلى احتواء الحركات الوطنية المضادة لنفوذها في إطار "الرابطة الفرانكفونية" بقيادة فرنسا ديغول، أو في إطار "رابطة الكومنولث" بقيادة حزب العمال البريطاني، في إطار المصالح العليا لفرنسا وبريطانيا، مع بداية تصاعد الدور الأمريكي والسوفيتي حينها وتقلص الدور الأوروبي. وانتهاء بتقلص الدور السوفيتي نفسه بفعل إصلاحات البروسترويكا، لتنفرد أمريكا بالزعامة مشكلة "القطب الأوحد". هذا القطب سعى، منذ بداية تشكله وإلى الآن، إلى إلحاق العالم كله بنظامها واستيعابه في إطار منظوماتها وضبطه من أجل مصالحها.
وقد جاء نظام "القطب الأمريكي الأوحد " في ظروف تميزت بامتداد خيرات الثورات العلمية (الفيزيائية والبيولوجية والكيميائية) إلى الهند وإيران وباكستان وكوريا الشمالية. كما تفجرت ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات حتى في البلدان الأكثر فقرا في العالم، مع تنوع مصادر التمويل العالمي رغم قبضة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي؛ بل حتى الأمم المتحدة فقدت احترامها وبدأت أمريكا تتصرف خارج مقتضياتها. وكانت من مهام الأيدولوجيا الأمريكية الجديدة للهيمنة ضبط اقتصادات العالم من حيث العولمة والعلم والاقتصاد؛ الشئ الذي يتطلب تأهيل أنظمة سياسية ذات قدرة عالية على التكيف والاندماج إلحاقا أو تنسيقا أو تحالفا. هذا المجهود تطلب من أمريكا وضع خطة للتدخل في طبيعة هذه الأنظمة؛ خصوصا في طبيعتها من حيث الأيديولوجيا والثقافة والخصوصية؛ كالبرامج التعليمية أو مناهج التربية والتكوين أو أدوات الإعلام ومواده. وقد استثمرت أمريكا قدراتها الاقتصادية والإعلامية والعسكرية لتفكيك الخصوصيات الذاتية الأيديولوجية التي تناقض الأطروحة البرغماتية الأمريكية أوالتي تتوق إلى الاستقلال عنها.
في هذا السياق كانت "ظاهرة بن لادن" أداة مناسبة لتعميق هذا التوجه الهيمني الأمريكي في العالم العربي والإسلامي خصوصا المنطقة التي تحدد بالوطن العربي والعالم الاسلامي؛ أي المنطقة التي تمتد من الصين عبر آسيا الوسطى والقوقاز وبحر قزوين إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والقرن الإفريقي، واحتواء دول الشرق الأقصى خصوصا "النمور" الإسلامية.
إن محاربة "الإرهاب"، بنظر حاج حمد، هو مشروع أيديولوجي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ويحمل رسالة "الرجل الأبيض" "الحضارية" إلى العالم، رغبة أو رهبة ! هذا المشروع الأيديولوجي سيواجه مقاومة شرسة في العالم العربي والإسلامي زاد من فعاليتها افتقاد النموذج الهيمني الأمريكي لفعالية النموذج الاستعماري الأوروبي، سابقا، الذي كان يمتلك، على توحشه،خلفية حضارية وتاريخية عريقة ممتلئة باللاهوت والفلسفة والعلم والبحث والأدب، مما يفتقده النموذج الأمريكي، والذي لايمتلك إلا القوة والسلاح والإعلام؛ وهي ثقافة "المطلق الفردي" التي تستند إليها الطبقة الأمريكية الاحتكارية المتعالية.
ويرى حاج حمد أن هذه الأيديولوجيا الأمريكية ستنتهي بمواجهة حتمية مع الفضاء العربي والإسلامي، سواء مع الشعوب أم مع الأنظمة التي ستجد نفسها أمام الخيار الصعب: إما أمريكا أو الرحيل، أو التساوق والتناغم مع أيديولوجيا شعوبها وقناعاتهم وقيمهم،وهو المخاض الذي تعيشه اليوم كثير من البلدان العربية أمام مد ثوري جارف لم يعد يقنع بالقليل،وبدأ بكنس الأنظمة العميلة للمنظومة الأمريكية،خصوصا في تونس ومصر واليمن،أو تلك المتاجرة والمخادعة تحت يافطات المقاومة والممانعة كما في ليبيا وسوريا،والبقية ستأتي بلاشك.
هذه الأيديولوجيا الأمريكية ذات النفس التوسعي هي التي تدفع أكثر، بنظر حاج حمد، في اتجاه تكريس الانتماء الأيديولوجي الذاتي المغلق، الأمر الذي يتطلب البحث عن خيار حضاري إنساني بكل قيمه؛ ليس خيارا وسطيا أو انتقائيا، وإنما هو "منهج معرفي"؛ فالمشكلة في أساسيات المشاريع الأيديولوجية التي حكمت تطور الامبرياليات والنظم العالمية وبناءاتها الفلسفية والاقتصادية والثقافية؛ فالتحدي إذن يمكن في صياغة المشروع الحضاري الإنساني العالمي البديل ؛ بديل عن النموذج الامبريالي الأمريكي الجديد والداعم للمشروع الصهيوني بوجهيه التوراتي التلمودي الاسرائيلي اليهودي أوالصهيوني العلماني المعاصر، كما يشكل بديلا عن سياسة الأنظمة الارتجالية وكذا الأطروحة الأصولية التي تقوم على استعادة الماضي الإسلامي وإعادة إنتاج حقبه الأولى،أو الأصولية العلمانية الممعنة في مخاصمةثقافة الأمة ورصيدها الحضاري والاجتماعي. فالأمة العربية و الإسلامية اليوم، بنظر حاج حمد، توجد بين تناقضين؛ تناقض مع الهيمنة الأمريكية من جهة، وتناقض مع التدمير الذي تمارس الحركات الأصولية ،دينية أو علمانية،داخلها .
3- الجذر الأصولي لفقهاء الدولة
يمكن رصد التحديات التي يتصدى لها حاج حمد في مشروعه الفكري في ثلاثة، هي:
1- تحدي الفكر الوضعي بعلمانيته والذي يعمد لعزل الدين عن الحياة وعن النظم السياسية.
2- تحدي الفكر الديني التراثي الإسلامي الماضوي الذي يستلب الحاضر باسم الموروث بتاريخانية مفارقة، وينبذ كل فكر تجديدي معاصر.
3- تحدي التطرف الذي يستمد فكره من التأويل المنحرف للتعاليم الإسلامية وتوظيفه حركيا ضد المسلمين أنفسهم.
وقد قدم حاج حمد في كتابه "العالمية الإسلامية الثانية، جدلية الغيب والإنسان والطبيعة" منهجا معرفيا تحليليا نقديا لمواجهة تلك التحديات؛ إذ وقف في دراسته لمصادر الفكر الديني الإسلامي على أن "الحرس القديم" من جيش فقهاء الدولة التقليديين يضعون الأرضية الملائمة لنمو تأويلات المتطرفين؛ إذ يرفضون "التجديد النوعي"، والذي يستند إلى مناهج معرفية تحليلية ونقدية معاصرة تعيد الاستنباط والنظر في النص الديني، إلى درجة أن أغلب حركات التطرف ولدت وسط المساجد الرسمية وتحت سمع أولئك الفقهاء وبصرهم، بل وتحت أعين المخبرين النائمين ،ووسط تنظيمات التيار الوسطي. هذا الأمر اقتضى من حاج حمد الدخول في مواجهة فكرية ونقدية مع الفريقين؛ وهو ماتضمنه كتابه "منهجية القران المعرفية" . وتعرض مجهود حاج حمد لنقد فقهاء الدولة وكذا الحركات الدينية المتطرفة؛ رغم أن أولئك الفقهاء الرسميين يعانون من مرارات تلك التيارات المتطرفة؛ وأكبر مثال على ذلك حركة "جهيمان بن سيف العتيبي" ،التي احتلت الحرم المكي سنة1979م وأعلنت مشروعها السلفي، والتي تعتبر نفسها (من خلال كراساتها السبع) امتدادا للمذهب الحنبلي وابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب، أي العقيدة الرسمية للمملكة العربية السعودية، لكن بتأويل ومنظور آخر. كما أدى النظام المصري ثمن علاقات فقهائه مع التيار الجهادي في مصر فاغتالوه ! ففقهاء الأنظمة يجمعون بين تبعيتهم للأنظمة واستمدادهم لفكر ديني غير متجدد تجمعهم فيه قواسم مشتركة وأساسية مع الحركات الجهادية. وفقهاء الدولة، بنظر حاج حمد، أخطر من الجهاديين لما يتمتعون به من ثقة عند الأجهزة الرقابية، بل يخوضون معارك "قذرة" و "رسمية" ضد الكتابات النقدية والتجديدية الساعية إلى تفكيك البنية التحتية الفكرية للفكر الديني المتطرف، كما يوشون بالحركات الإسلامية السياسية ،مشكلين بذلك خط الدفاع الأول عن التطرف والمتطرفين،أكيد من دون تعميم. فالدولة لاترى في فقهائها إلا "مرجعية رسمية للدين"، تستلزم الدعم والمساندة والحماية والاحتضان ! بل إن هذا الالتباس في الانتماء وفي المرجعية، وفي غياب الحس النقدي والوعي الاستراتيجي حيال مايجري من وقائع، هو الذي حول حركة دعوية سياسية وسلمية هي جماعة "الإخوان المسلمون في سوريا" إلى حركة قتالية جهادية ضد النظام، بوصفه بعثيا وطائفيا وعلويا ونصريا؛ خصوصا في المدن السنية "حماة وحمص وحلب"؛ وقد بلغت المواجهة ذروتها في مدينة حماة، فبراير 1982م،في ظروف غير متوازنة. وبغض النظر عن ملابسات أحداث حماة، وتفجر العنف بين النظام والحركة الإسلامية، وكذا مسؤولية النظام ونزوعه الطائفي والاستبدادي، فإن فقهاءه لم يستطيعوا إيقاف ذلك التوتر، كما عجزوا عن تحجيم التطرف والعنف،بل انحازوا للنظام اليوم في حربه الشرسة ضد المتظاهرين من المدنيين العزل،(محمد سعيد رمضان البوطي نموذجا)،لكن في شروط وظروف مغايرة ليست لصالح النظام السوري الدموي قطعا،والذي يحفر قبره بيديه.
أمام هذا الوضع المتوتر والدور الخفي لفقهاء الدولة في تكريس الوعي التقليدي بالدين ومقتضياته، قام حاج حمد بمحاولات تأسيس مراكز عدة لفتح النقاش في موضوع النقد المنهجي والمعرفي للخطاب الديني، وكذا نقد الأنظمة وفقهائها والحركات الدينية. وحمل على عاتقه رسالة التجديد النوعي للخطاب الديني بعد تفكيك بنية الخطاب التقليدي السائد ونقد مفاهيمه، بعيدا عن المحاولات الإصلاحية التي تقوم على أسس الفكر الديني السائد تاريخيا وعلى المرتكزات نفسها، وبعيدا عن منطق "المقاربات" مع حيثيات الواقع المعاصر وقوة التحديث، من خلال آليات "التوفيق" و "التلفيق" و "الانتقائية" أو "الوسطية" الخادعة والتي تعني في عمقها، بنظر حاج حمد، إفراغ الإسلام من الخصوصية المنهجية الضابطة لكل نصوصه القرآنية؛ فالوسطية عبارة فضفاضة تتسع حتى للمتناقضات، أو تراوح بين محاولات "التأصيل" لكل ماهو في التراث الديني بمنطق معاصر" .
4- عناصر التجديد النوعي
ينتقد حاج حمد على الكتابات في الفكر الإسلامي المعاصر أنها لم تخرج عن عصور التأسيس الأولي ومرحلة "التدوين" وما بعدها. كما أن هذه الكتابات لم تقف على النسق الخاص لجدلية التطور العربي المتداخل مع الإسلام واختياراته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، من أجل تحديد الاتجاه وكيفية التعاطي مع الذات ومع العالم. والتعامل مع العالم يقتضي استيعاب متغيراته بطابعها النوعي والتي ترتبط بمرحلة ما بعد الصناعة وقيمها المعرفية الجديدة المفارقة لقيم المجتمعات الرعوية والزراعية التقليدية والحرفية اليدوية.
والتجديد النوعي، عند حاج حمد، يتجاوز الذكاء الطبيعي للاستنباط إلى امتلاك آليات جديدة للمعرفة والاستنباط، تفهم التراث ضمن آليات إنتاجه التاريخية وظروفه الموضوعية الخاصة به، ثم قراءة النص القرآني بآليات المعرفة الجديدة وضمن الأوضاع العالمية المعاصرة والمتغيرة نوعيا. هذا الأمر يتطلب تجاوز المقاربات اللفظية المحدودة إلى استثمار الأدوات الألسنية الحديثة، والانتقال من التفسير إلى التحليل، ومن القراءة التجريبية لسور القرآن وآياته إلى اكتشاف وحدته العضوية التي تستخرج منهجه. بذلك وحده نستطيع تحقيق "الاجتهاد النوعي" وتجاوز "الاجتهاد التراكمي"، في واقع عربي وإسلامي مازال يعيش فكريا وسلوكيا وعقليا وممارسة حالات ماقبل الصناعة وقيم التحديث.
ومشروع "التجديد النوعي" ينطلق عند حاج حمد من أن العالم يعيش حقيقة "أزمة فراغ روحي"، مع هيمنة الاتجاهات الوضعية واستبعاد الوعي الديني في التجربة الإنسانية ومقولات الوحي لتحتل حيزا غير فاعل في حياة الإنسان المعاصر، والارتهان إلى فلسفة العلوم الطبيعية وحرية العقل الليبرالي.
ولم تستطع المحاضرات ولا المؤتمرات ولا الندوات التي خصصت للدفاع عن الفكر الديني تحقيق أية نتائج؛ إذ ظلت مسكونة بروح المدافعة التراثية والأيديولوجية غير المعرفية وغير المنهجية، ومسكونة بروح المدافعة العصبية الذاتية عن الدين وبنوع من النخوة الدينية؛ فحصل انفصال واسع بين خطاب الفكر الإسلامي المحمل بالهواجس المذكورة سلفا، والمفتقد للروح العلمية والمعرفية، وبين التوجهات الوضعية الممتلئة بمباحث الصيرورة والجدل والنسبية والاحتمالية في مواجهة الإطار التاريخي للتأويلات الدينية المفارقة بمرتكزاتها التصورية والمفاهيمية لهذه المباحث. وهذا ما سبب حالات من "الإرباك النفسي" و "الانفصام الذهني" لحملة الفكر الإسلامي.
إن تقديم مقولات الوحي والدين بما هو دون مستوى مناهج المعرفة العلمية النقدية التحليلية هو المسؤول عن طرد الفكر الديني من مجالات الفلسفة والفكر ومناهج العلوم الطبيعية والإنسانية. فاستثارة النخوة الدينية والتهجم على الفكر الغربي واستمداد مدافعات الحروب الصليبية والترويج لدعاوى التغريب والغزو الفكري والاستشراق لم يقدم جديدا في مسيرة التجديد النوعي وإعادة الاعتبار للفكر الإسلامي كأطروحة تحليلية نقدية ومنهجية،من خلال استراتيجيا واضحة المعالم.
*باحث أكاديمي مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.