قول في الوسطية المغلوطة يذهب الفيلسوف العربي الإسلامي محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه «جذور المأزق الأصولي» إلى أن من يعرفون بدعاة «الإسلام الوسطي»، أو مدرسة الوسطية، يعيدون إنتاج مأزق الحركات الجهادية، إذ يشتركون معها في المرجعية والنصوص التأسيسية الأولى. ويوجد الفارق بينهم في انتقائية التيار الوسطي للنصوص والأدلة لتناسب الظروف والسياقات؛ في وقت نجد فيه التيار الجهادي يلتحم بالنصوص الدينية التراثية من غير اعتبار لسياق أو لظرف. والتياران يتفقان في تهميش الحرية الإنسانية في أدبياتهما لصالح ثقافة الطاعة والعبودية وخدمة الدين، الحرية بما هي مفهوم قرآني مفتاح لممارسة وجودية وفكرية في الحياة تقوم على الاختيار الحر؛ رغم أن التيار الوسطي يظل حريصا على وضع مسافات عملية وواقعية بينه وبين التيارات الجهادية، ويقدم نفسه ك«أطروحة دينية تنويرية» ضد العنف والكراهية والتطرف. إلا أن الأستاذ حاج حمد يكشف أن التيارين يقفان على خلفية معرفية وفكرية واحدة، مع تميز التيار الجهادي بتشبث منسجم ومتين وكامل بالنصوص، خاصة الحديثية، عكس الأسلوب الالتفافي الذي يعتمده التيار الوسطي؛ فالتيار الوسطي، مثلا، يحرم القتل ويحذر من خطورة استباحة الدم، في سياق حملات التنديد بأعمال عنف تنسب عادة إلى حركات دينية، وخاصة الجهادية منها. وغالبا ما يكون التنديد ذا طبيعة سياسية مرتبطة بواقعة أو حدث ما! ولا يمس جوهر التفكير الديني لتيار الوسطية؛ إذ ما يزال هذا التيار يفكر وفق الشحنات الدلالية التراثية المرتفعة لبعض المفاهيم الملتبسة في هذا الفكر، اليوم، مثل: الكفر والباطل والولاء والبراء... وهذا التناقض في فكر التيار الوسطي، وهو بالمناسبة التيار الواسع في صفوف الإسلاميين، ليس المسؤول عنه أفراد هذا التيار، لأن أكثرهم مناضلون شرفاء وأهل خلق شخصي نزيه؛ كما أن الحركات الإسلامية المعاصرة، التي تقود التحولات الديمقراطية في بلدانها، أصبحت اليوم أكثر نضجا وأكثر اقتناعا بالخيار الديمقراطي، بل وتبحث جاهدة عمن يخلصها من الفكر الديني المغلق الذي يحرجها في مساراتها السياسية والاجتماعية ويضعف تنافسيتها ويمس مصداقيتها ويحرمها من استلهام الأفكار الدينية التحررية كما طرحها القرآن الكريم وجسدتها التجربة النبوية الرائدة. المشكلة، إذن، في جذور الفكر الديني الموروث الذي يحملونه في أذهانهم، مما يحتاج إلى تفكيكٍ بعيدا عن عمليات الترقيع والتلفيق التي يقع فيها هذا التيار، مما يؤسس لشخصية منفصمة ومضطربة عند عموم المتعاملين بفكر كهذا! إن التفريق بين التيار الوسطي والتيار الجهادي، على أساس البيانات السياسية والعلاقة بالسلطة، لن يؤسس لحركة إسلامية راشدة وواقعية وفعالة، كما لا يمكن من فهم علمي وموضوعي لهذه الحركات. وقد سعى حاج حمد في مشروعه الفكري إلى تفكيك بنية الفكر الديني الذي تقف عليه هذه الحركات جميعها في ضوء القرآن الكريم، من خلال مقاربة معرفية تستوعب الأنساق الحضارية وتتجاوزها نحو كونية إنسانية، مقاربة تمس أسس المؤسسات الإسلامية وأشكالها التنظيمية وبناها الفكرية وشرعيتها الاجتماعية. وتعني المقاربة المعرفية وفق كونية القرآن الكريم مراجعة الموروث الثقافي الديني بعيدا عن كل أساليب التلفيق والتبرير التي نهجتها بعض الدول الإسلامية ذات الحمولة الدينية، محاولة، بشكل عبثي، مواجهة التطرف بفكر متطرف مثله يقف معه على الأرضية الفكرية نفسها، مما سبب كوارث فكرية وثقافية وسياسية واجتماعية إضافية لهذه الدول؛ فمن جند الشباب العربي، مثلا، للجهاد في أفغانستان ضد السوفيات لا يمكنه أن يبرر لهم حرمة الجهاد ضد أمريكا؛ وهذا الدور المضطرب والكئيب هو ما يقوم به فقهاء الأنظمة وإيديولوجيو التيار الوسطي، دون وعي بأن حركات الجهاد التي انبثقت هنا وهناك لم تكن تخرج عن الاستراتيجيا الأمريكية (والتكتيك) الأمني لأجهزة الاستخبارات في إطار المصالح العليا لأمريكا وحلفائها، فوقعت الأنظمة والحركات الإسلامية في «فخ كبير» مازال يتسع إلى اليوم، عابرا الإيديولوجيات والثقافات والحضارات والأديان والخطط الوطنية للاقتصاد والتنمية، وبمنطق برغماتي نفعي مطلق يشكل إيديولوجيا متوحشة للطبقة المتعالية في أمريكا والمسيطرة على الدولة والاقتصاد والإعلام. الفخ الأفغاني كانت المشكلة الأفغانية واحدة من المشكلات الثلاث المتزامنة بالنسبة إلى منطقة الخليج أواخر الثمانينيات، إضافة إلى الثورة الإيرانية (1979) والحرب العراقية الإيرانية (1980). ولدراسة المشكلة الأفغانية التي عرفت بالجهاد الأفغاني، استثمر حاج حمد خبرته بالقرن الإفريقي والبحر الأحمر وتعقيداته الإقليمية والدولية، كما استثمر علاقاته باستخبارات كوريا الشمالية عبر بيروت وعبر أصدقائه فيها لتجميع المعلومات الدقيقة. وكان هذا المجهود الذي بذله حاج حمد حول «الجهاد الأفغاني» قد نشر في جريدة «الفجر» في أبوظبي والتي كان يديرها عبيد المزروعي؛ فمنذ سنة 1980، أي مع بداية الجهاد الأفغاني، سعى حاج حمد إلى فضح الفخ الأمريكي، وكتب مقالة بعنوان «بريجنسكي يسبح في مصر ويصلي في أفغانستان» (أبريل 1980)؛ وأثبت في المقالة أن أمريكا تسعى إلى جر الصين إلى الاصطدام بالاتحاد السوفياتي وإيجاد محور صيني-باكستاني لمواجهة محور الاتحاد السوفياتي-الهند. وقد تصدى رموز الحركات الإسلامية إلى هذه المقالة وحرضوا ضدها في المساجد وفي منابر أخرى. وعمق حاج حمد من دراسته ل»الجهاد الأفغاني» بكشف خطة أمريكا ورغبتها في ابتزاز العرب الخليجيين والتضحية «بالدم المسلم» في تلك الحرب الاستراتيجية وفق خطة الهيمنة الأمريكية. ولم تكن أبدا حربا عقدية جهادية ضد حكومة نجيب الله الشيوعية في أفغانستان. وظهرت مقالة أخرى لحاج حمد بعنوان: «حتى لا نبكي غدا على أفغانستان» (ماي 1980). ويذكر حاج حمد أنه كان يدقق في المعلومات والمعطيات لكشف أبعاد الاستراتيجيا الأمريكية ليس بحكم كونه «موظفا» في وزارة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة يومذاك كما اتهمه كثيرون، ولكن بدافع من همه الإسلامي والعربي. وكان حاج حمد متيقنا، وهو يقدم صورة مخالفة عن الجهاد الأفغاني، من أنه يرتكب خطأ جسيما؛ ذلك أنه يوقظ نائمين لم يستعدوا بعد للإيقاظ! وبحكم الحس الإسلامي الدافع لحاج حمد والذي لا يؤمن باليأس، كتب مقالة بعنوان «الحادبون على المسلمين في أفغانستان» (ماي 1980)، داعيا الحركات الإسلامية ودول الخليج إلى ضرورة الخروج من المأزق الأفغاني الأمريكي من خلال التفاوض مع السوفيات، والانتباه إلى أن الحلف الذي كونته أمريكا لمواجهة الغزو السوفياتي لأفغانستان إنما يخدم أهدافها بالدرجة الأولى على حساب المسلمين ودول الخليج والعرب بعامة وحتى الأوربيين. هذه الخطة الأمريكية لاحتواء العالم والغائبة عن تفكير الحركات الإسلامية، وكذا أنظمة الخليج، تكررت مرة أخرى بعد أحداث وتفجيرات الحادي عشر من شتنبر2001؛ فقد تم التهييء لها عبر استدراج العراق لغزو الكويت ثم استعمال أسامة بن لادن وطالبان كستار دخاني لنيران تشتعل. هذه المعطيات جعلت الإنسان العربي بين كماشتين: إما الانسياق للمشروع الأمريكي للهيمنة على العالم، من جهة، أو الارتماء في أحضان الأصولية المتطرفة التي نشأت في أحضان أمريكا ووظفتها ضمن مشروعها، من جهة أخرى، مع انسلاخ قوى أصولية مضادة من داخل هذه التركيبة في إطار «رد عكسي مضاد» لا يفرق بين أمريكي بريء أو مذنب! بناء على إيديولوجيا ارتدادية عصبوية وماضوية. إيديولوجيا محاربة «الإرهاب» كان «الإرهابي» عند بداية انحسار المد الاستعماري واستقلال دول العالم العربي والإسلامي هو الحركات الوطنية والثورية الاشتراكية واليسارية وقوى المنظمات النقابية والأجيال الشابة التواقة إلى التغيير. وقد شكل هؤلاء، في نظر حاج حمد، نقيضا مزدوجا للأنظمة المحلية، من جهة، وللنفوذ الاستعماري «غير المباشر» على هذه الأنظمة، من جهة أخرى. وقبل بروز الآلية الأمريكية وتحمل مسؤولية مواجهة الإرهاب، بهذا المنظور، سعت القوى الاستعمارية الغربية إلى احتواء الحركات الوطنية المضادة لنفوذها في إطار «الرابطة الفرانكفونية» بقيادة فرنسا ديغول أو في إطار «رابطة الكومنولث» بقيادة حزب العمال البريطاني، في إطار المصالح العليا لفرنسا وبريطانيا، مع بداية تصاعد الدور الأمريكي والسوفياتي حينها وتقلص الدور الأوربي، وانتهاء بتقلص الدور السوفياتي نفسه بفعل إصلاحات البروسترويكا، لتنفرد أمريكا بالزعامة مشكلة «القطب الأوحد». هذا القطب سعى، منذ بداية تشكله وإلى الآن، إلى إلحاق العالم كله بنظامها واستيعابه في إطار منظوماتها وضبطه من أجل مصالحها. وقد جاء نظام «القطب الأمريكي الأوحد» في ظروف تميزت بامتداد خيرات الثورات العلمية (الفيزيائية والبيولوجية والكيميائية) إلى الهند وإيران وباكستان وكوريا الشمالية. كما تفجرت ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات حتى في البلدان الأكثر فقرا في العالم، مع تنوع مصادر التمويل العالمي رغم قبضة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي؛ بل حتى الأممالمتحدة فقدت احترامها وبدأت أمريكا تتصرف خارج مقتضياتها. وكانت من مهام الإيدولوجيا الأمريكيةالجديدة للهيمنة ضبط اقتصادات العالم من حيث العولمة والعلم والاقتصاد؛ الشيء الذي يتطلب تأهيل أنظمة سياسية ذات قدرة عالية على التكيف والاندماج، إلحاقا أو تنسيقا أو تحالفا. هذا المجهود تطلب من أمريكا وضع خطة للتدخل في طبيعة هذه الأنظمة؛ خصوصا في طبيعتها من حيث الإيديولوجيا والثقافة والخصوصية؛ كالبرامج التعليمية أو مناهج التربية والتكوين أو أدوات الإعلام ومواده. وقد استثمرت أمريكا قدراتها الاقتصادية والإعلامية والعسكرية لتفكيك الخصوصيات الذاتية الإيديولوجية التي تناقض الأطروحة البرغماتية الأمريكية أو التي تتوق إلى الاستقلال عنها. في هذا السياق، كانت «ظاهرة بن لادن» أداة مناسبة لتعميق هذا التوجه الهيمني الأمريكي في العالم العربي والإسلامي، خصوصا المنطقة التي تحدد بالوطن العربي والعالم الإسلامي؛ أي المنطقة التي تمتد من الصين عبر آسيا الوسطى والقوقاز وبحر قزوين إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والقرن الإفريقي، واحتواء دول الشرق الأقصى، خصوصا «النمور» الإسلامية. باحث أكاديمي