اِستعرضتُ نقديًّا، في الجزء الأول من هذا المقال، الفقرات الأربع من الفُصيل الأوّل ضمن الفصل الأوّل («عقل... ثقافة») من كتاب «تكوين العقل العربي». وأستكملُ هنا تناوُلي للفقرات السبع المُتبقية من هذا الفُصيل حيث عمل "الجابري" على تبرير 0ختياره لتسمية «العقل العربيّ» بدلا من «الفكر العربيّ». § 5- يقول "الجابري": «لنغض الطرف الآن عن قضية العلاقة بين اللغة والفكر وعن خصوصية هذه العلاقة في الثقافة العربية- الشيء الذي سيكون موضوع فصل خاص- ولننظر [إ]لى الفكر ومنتجاته سواء [تم التعبير؟] عنها بهذه اللغة [أوْ] تلك، ولنتساءل: هل يمكن [إ]دراج كتابات و[أ]طروحات كل من مكسيم رودنسون وجاك بيرك وهملتون جيب وغيرهم من المفكرين غير العرب الذين تناولوا القضايا العربية المعاصرة، أو قضايا الفكر العربي القديم بالدراسة والتحليل و[إ]بداء الرأي... هل يمكن [إ]دراج النتاج الفكري لهؤلاء المستشرقين ضمن ما نسميه ب"الفكر العربي"؟ وبالمقابل هل يجوز، [أوْ] يمكن، [إ]دراج آراء وأفكار بعض الكتاب العرب الذين يتناولون باللغة الفرنسية [أوْ] ال[إ]نجليزية قضايا [أ]وروبية... هل يمكن [إ]دراج نتاجهم الفكري ضمن ما يسمى ب"الفكر ال[أ]وروبي"؟». § 5. 1- وُضعتْ، في هذه الفقرة الخامسة، "الهمزةُ" بين معقوفين في أكثر من لفظ حيث صُحِّحتْ. ووُضع، في الجملة الأُولى منها، تركيبُ «تمّ التعبير» بين معقوفين وداخلهما «علامة السُّؤال» لأنّ الأمر يَتعلّق بتركيبٍ فاسدٍ يُخالِف الصواب في بناء "الفعل" لغير المعلوم، إذْ صار يُؤخذ "الاسم" منه ويُجعل مسبوقا بفعل "تَمّ" الذي معناه "0كتمل" وليس "حَدَث"، وذلك بدلا من تحويل صيغة "الفعل" نفسها لأداء معنى أنّ "الفعل" قد حَدَث من دون "فاعل" معلوم («عُبِّر عنها»)، وهو تركيب فاسد رغم شُيوعه بين مُستعملِي "العربيّة" المُحدَثين ؛ § 5. 2- في إطار الإتيان بمزيد من التبرير لاختياره تسمية «العقل العربيّ»، يُحاول "الجابري" أن يُبيِّن أنّ للفكر العربيّ خصوصيَّتَه على شاكلة غيره من أنواع الفكر. ويُشير إلى أنّ هناك خصوصيّةً أُخرى تَهُمّ علاقة "الفكر" ب"0للغة" في «الثقافة العربيّة» سيُخصِّص لها فصلا كاملا (هو الفصل الأوّل من القسم الثاني أوْ الفصل الرابع من الكتاب: «الأعرابيّ صانع "العالَم" العربيّ»). ونَلمس، هُنا، أنّه يُوحي بأنّ هذه الخصوصيّة الأخيرة تَعني، حصرا، «الثقافة العربية» أو أنّ العلاقة بين "الفكر" و"اللغة" ذات طابع خاص في هذه الثقافة! § 5. 3- يَطرح صاحبُنا سُؤالَيْن: هل يُمكن إدراج كتابات وأطروحات المفكرين غير العرب (مثل مكسيم رودنسون وجاك بيرك وهملتون جيب، إلخ.)، الذين تناولوا بالدراسة والبحث القضايا العربيّة القديمة أو المُعاصرة، ضمن ما يُسمّى «الفكر العربي»؟ وبالمُقابل، هل يُمكن إدراج آراء وأفكار بعض الكُتّاب العرب، الذين يتناولون باللغة الفرنسيّة أوْ الإنجليزيّة قضايا أُروبيّة، ضمن ما يُسمّى «الفكر الأُروبيّ»؟ ويُمكن ردُّ هذين السُّؤالين إلى سُؤال واحد مُركَّب وعامّ: هل النِّتاج الفكريّ لمُفكِّرٍ ما يَتحدّد تَبعًا للموضوع المُتناوَل بالدِّراسة والكتابة (قضايا مُعيَّنة) أمْ أنّه تابعٌ لأُسلوب التّفكير والتّعبير في 0رتباطه بثقافةٍ مُحدِّدةٍ للانتماء إلى شعبٍ أو مجال حضاريٍّ ما؟ وبعبارة أُخرى، ما المعيار الذي يُمكِن على أساسه تحديدُ خُصوصيّةِ فكرٍ ما؟ هل هو معيارٌ مُرتبطٌ بالموضوع المُفكَّر فيه أمْ بالنّمط الثقافيّ المُحدِّد عموما للكيفيّة التي يَتناوَل بها "الفكر" موضوعَه؟ لكنّنا نُلاحظ أنّ طرحَ السُّؤال على هذا النحو يُعَدّ خادِعا لأنّه يَحصُر الأمر في تحديد الأساس المُقوِّم ل«خصوصيّة الفكر» كما لو أنّ "الفكر" كُلَّه لا يكون إلا "خاصًّا" أوْ "خُصوصيًّا". وبالتالي، يَنبغي أن يُطرَح السؤال الآخر: هل «خُصوصيّة الفِكْر» تقتضي، بالضرورة وفقط، «خُصوصيّة 0لعقل» أمْ أنّها لا تَمنع مُطلقا من إثبات نوع من «0لعُموميّة/0لكَونيّة» المُميِّزة ل"0لفِكْر" و، من ثَمّ، ل"0لعقل" بما هو مجموعة من القواعد والإجراءات المُشترَكة بشريًّا؟ § 6- «[إنّ] هناك في العصر الحاضر قاعدة "عرفية" تَتَحَدَّدُ بموجبها "الجنسية الثقافية" لكل مفكر، هذه القاعدة تقتضي [أنّ] المثقف لا ينسب إلى ثقافة معينة إلا إذا كان يفكر داخلها. والتفكير داخل ثقافة معينة لا يعني التفكير في قضاياها، بل التفكير بواسطتها. فقد [يتم التفكير؟] في قضايا ثقافة معينة بواسطة ثقافة [أ]خرى، ومع ذلك يبقى المفكر [منتميًا] إلى هذه دون تلك. فالفارابي مثلا[،] الذي فكر في قضايا الثقافة اليونانية، هو مفكر عربي لأنه فكر فيها بواسطة الثقافة العربية ومن خلالها، ومثل ذلك المستشرقون فهم سيظلون "مستشرقين" يطلبون الشرق لأنهم يقعون خارجه، أي يفكرون في بعض قضاياه من موقع يقع خارج [إ]حدى ثقافاته، وبالتالي فلا يمكن [أنْ] ينتموا [إ]لى الثقافة العربية لأنهم يفكرون في قضاياها من خارجها، [بل و؟] من خارج محيطها الخاص. وكذلك الشأن بالنسبة للمثقفين العرب الذين يتناولون قضايا [إ]نجليزية [أوْ] فرنسية، [إ]نهم سيظلون عربا ما داموا يفكرون فيها من داخل الثقافة العربية وبواسطتها. [إ]نهم في هذه الحالة يعبرون عن وجهة نظر "عربية" في قضايا غير عربية.». § 6. 1- وُضعتْ، في بداية الجملة الثالثة من هذه الفقرة السادسة، عبارةُ «يَتِمّ التفكير» بين معقوفين داخلهما «علامة السُّؤال» للإشارة إلى أنّ الأمر يَتعلّق - كما أُكِّد آنِفًا في § 5. 1- بتركيب فاسدٍ ل«0لفعل المَبنيّ للمجهول» وأنّ الصواب هو بكل بساطة "يُفكَّر" (بجعل صيغة "الفعل" تُبنى ل"فاعل" غير معلوم). وأُضيفت، في الجملة الرابعة، فاصلةٌ بعد لفظ "مثلا" لأنّ عبارة «الذي فكّر في قضايا الثقافة اليونانيّة» إضافيّةٌ وبَيانيّةٌ حقُّها أن تُوضَع بين فاصلتين أو عارضتين. ووُضع، في آخر هذه الجُملة، تركيب «بَلْ وَ» بين معقوفين داخلهما «علامة السُّؤال» لأنّ الأمر يَتعلّق أيضا بتركيب فاسد رغم شُيوعه ؛ ذلك بأنّ «حرف ٱلعطف لا يَدخُل مُباشَرةً على حرف عطف آخر.» (عباس حسن، النحو الوافي، ج 3، ص. 555)، و"بَلْ" أداةُ عطفٍ للفصل والإضراب فإذا أُضيفت إليها أداة العطف الوصليّ "وَ" عُطِّلتْ وظيفتُها تلك! § 6. 2- يُلاحَظ أنّ ما يُسمِّيه "الجابري"، هُنا، «الجنسيّة الثقافيّة» يَحسُن أن يُصطلَح عليه ب«الهُويّة الثقافيّة» أو، بشكل أفْضَل، «الانتماء الثقافيّ» لأنّ لفظَ "الجنسيّة" مُلتبسٌ إلى حدٍّ بعيدٍ، فهو يدل - في الاستعمال الشّائع- على «الانتماء القوميّ/الوطنيّ» (في مقابل: "l'appartenance nationale") أو «الهُويّة القوميّة/الوطنيّة» (في مقابل: "l'identité nationale") وأيضا على «الحياة الجنسيّة» (في مقابل: "la sexualité") ؛ بل إنّ كون لفظ "الجنس" صار أقرب في دلالته إلى معنى «ما يَخُص الطبيعة النوعيّة للذُّكور أو الإناث» (و، بالتالي، «الغريزة التّناسُليّة») ليُوجب تفادي 0ستعمال لفظ "جنسيّة" بالمعنى الدّال على «الانتماء القوميّ/الوطنيّ» (يُشار، بهذا الصدد، إلى أنّ هذا الالتباس قد ضَيَّع لفظ "جنسيّة" إلى الحدّ الذي جعل بعض المُترجمين يُولِّدون لفظ "جنسانيّة" لأداء معنى اللفظ الأجنبيّ "sexuality/sexualité" فيَزيدون بذلك الالتباس الحاصل درجةً لغفلتهم عن معنى "المُبالَغة" الذي تُؤدِّيه لاحقةُ "انيّ/انيّة" ولخُضوعهم لاستعمال شائع غير ضروريّ!) ؛ § 6. 3- يَرى "الجابري" أنّ المُتعارَف، في العصر الحاضر، هو أنّ «الانتماء الثقافي» للمُفكِّر يَتحدّد بنسبته (أو إقرار 0نتسابه) إلى "0لثقافة" المُعيَّنة التي يُفكِّر داخلها. لكنّنا نُلاحظ أنّ الأمرَ لا يَرقى إلى حدّ جعل هذا "0لمُتعارَف" بمثابة «القاعدة العُرْفيّة» كما ذهب صاحبُنا. ونجد أنّ الصعوبة البادية في تحديد "الجابري" لمعنى «التفكير داخل الثقافة الخاصة» يدلّ على ذلك. فهو يرى أنّ «التفكير داخل ثقافة مُعيّنة لا يعني التفكير في قضاياها، بل التفكير بواسطتها». ومن البيِّن أنّ "التفكير" قد يكون في قضايا تَهُمّ هذه "الثقافة" أو تلك، غير أنّه ليس واضحا كيف يجب أن يكون «التفكير داخل ثقافة معينة» تفكيرًا بواسطتها وليس بواسطةِ غيرها، كأنّه من الممنوع (أو المُمتنِع) على المرء أن يُفكِّر خارج ثقافته الخاصة لئلا يَفقد 0نتماءه إليها، بل كأنّ "التفكير" لا يكون ذا معنى إلا إذا كان بواسطتها وداخلها! وليس يَخفى أنّ "الجابري" هُنا لا يفعل أكثر من مُجاراة "العُرْف" كظنٍّ معروف ومُتعارَف (doxa)، وهو الأمر الذي من شأنِ قَبُوله أن يجعل "0لفِكْر" ليس فقط غارقا في "الخُصوصيّة"، بل أيضا تابِعا ومُرتهنا لشُروطها المُحدَّدة 0جتماعيّا وثقافيّا وتاريخيّا! § 6. 4- يرى "الجابري" أنّ «التفكير داخل الثقافة الخاصة» يجعل من يُفكِّر في قضاياها بواسطة ثقافة أخرى يبقى - رغم ذلك- مُنتميًا إلى ثقافته وليس إلى الثقافة التي يُفكِّر بواسطتها. ويَضرب مثلا ب"الفارابي" الذي فكَّر، حسب ظنِّه، في قضايا «الثقافة اليُونانيّة» بواسطة «الثقافة العربيّة» ومن خلالها، مِمّا يجعله مُفكِّرا "عربيّا" وليس "يُونانيّا". فهل حقًّا "الفارابي" يُعَدّ "عربيّا" فقط لأنّه فكّر بواسطة «الثقافة العربيّة» وداخلها أمْ أنّ تحديدَ 0نتمائه "العربيّ" يَتجاوز، في الواقع، التفكير بواسطة «الثقافة العربيّة» لأنّه كما فكّر بها قد فكّر بغيرها وفَكّر، من ثَمّ، ضدّ ثقافته العربيّة نفسها كما هو معروف عنه في مُحاوَلته إخضاع «النحو العربيّ» لبعض مَقُولات «النحو اليُونانيّ» («زيدٌ يُوجَد إنسانًا»)؟! والتّساؤُل نفسه يُطرَح بخصوص مثال "المُستشرقين": هل سيظلون "مستشرقين" فقط لأنّهم يقعون «خارج الشرق» من حيث إنّهم يُفكرون في بعض قضاياه من موقعٍ يَتجاوز إحدى ثقافاته أمْ أنّ كونَهم «يَطلُبون الشرق» كما تَفرِض عليهم ثقافتُهم بقوالبها وصِيغها الجامدة يُؤكِّد فقط خُضوعَهم لنوع من «0لمركزيّة القوميّة/الثقافيّة» وعجزَهم، بالتالي، عن 0لانفكاك عن قُيودها بالشكل الذي يُخرجهم من «الانتماء الثقافيّ» الضيِّق إلى 0نتماء ثقافيّ مُتعدِّد حيث يجدون أنفسهم ينتمون إلى "الشرق" الذي طالما 0عتُبر، حتّى من قِبَل كبار مُؤرِّخيهم، مَهدَ الحضارات المُؤسِّسة تاريخيّا (بلاد الرافدين، مصر، آسيا الصغرى، إلخ.)؟! ومن ثَمّ، فهل يَتعلّق الأمر، في الواقع، بعدم إمكان 0نتمائهم إلى «الثقافة العربيّة» لكونهم يُفكِّرون في قضاياها من خارجها وليس ضمن مُحيطها الخاص أمْ بسُوء فهمٍ ونقص وعيٍ مُترتِّبين كليهما على حُدود عملهم الفكري بخصوص "الآخر"؟ وهل المثقفون "العرب" الذين يَتناولون قضايا إنجليزيّة أوْ فرنسيّة يُعدُّون عربًا وسيَظلون كذلك فقط لأنّهم يُفكِّرون في تلك القضايا من داخل «الثقافة العربيّة» وبواسطتها؟ وهل وِجهةُ نظرهم تُعَدّ وجهةَ نظر "عربيّة" في قضايا «غير عربيّة»؟ كل هذه الأسئلة، وغيرها مِمّا سيَأتي بعدُ، تقود إلى تبيُّن أنّ صاحبَنا لم يَستشكل بما يَكفي مفهوم "0لِانتماء" أو "0لهُويّة" حيث إنّه لم يَكدْ يُحدِّد المفهومين الضِّمْنيَّيْن ("الدّاخل" و"الخارج") على النحو الذي يُمكِّنه من إدراك مُستويات "التّداخُل" و"التّخارُج" في واقع "الثقافة" وفي غيرها من مُحدِّدات "0لانتماء" التي تبقى، في الواقع، مُتعدِّدةً ومُلتبسةً ومُتغيِّرةً! § 7- «ولكن ماذا يعني[،] بالضبط، التفكير بواسطة ثقافة ما؟ [إ]نه سواء اعتبرنا "الثقافة" تضم مختلف [أ]نواع ال[إ]نتاج المادي والروحي ومختلف [أ]نماط السلوك الاجتماعي وال[أ]خلاقي[؟] [أوْ] حصرنا معناها في ال[إ]نتاج النظري وحده، فهناك[،] في جميع الأحوال، معطيات تشكل[،] [أوْ] تعبر عن[،] "الخصوصية الثقافية" لهذا الشعب [أوْ] ذاك، لهذه الأمة [أوْ] تلك، وهي خصوصية راجعة[،] كما أشرنا إلى ذلك قبل، إلى المحيط الجغرافي والاجتماعي والثقافي الذي يتحدد به شعب ما [أوْ] مجموعة من الشعوب. وهذه الخصوصية تزداد [أ]هميتها فيما نحن بصدده [إ]ذا نظرنا إليها بوصفها [نتاجًا تاريخيًّا] يحمل عبر الزمن تصورات وآراء ومعتقدات، و[أيضًا] طرائق في التفكير وأساليب في الاستدلال قد لا تخلو هي الأخرى من الخصوصية[،] بل [إ]ننا لا نبالغ إذا قلنا [إنّ] الجزء الأكبر من خصوصية ثقافة ما - إذا جاز تجزئة الخصوصية إلى [أ]جزاء- [إ]نما يرجع إلى التاريخ الخاص بهذه الثقافة.». § 7. 1- وُضعتْ، في هذه الفقرة السابعة، "الهمزة" بين معقوفين في أكثر من لفظ لكونها صُحِّحت همزةَ قطع تحت الألف أو فوقها. كما صُحِّحت "الفاصلة" في أكثر من موضع حيث وردت بغير معنى (في الجملة الأولى بعد لفظ "الأخلاقي" مثلا) أو كان يجب وُرودها (في الجملة الأولى مباشرة بعد لفظي "فهناك" و"تُشكِّل"، وأيضا قبل "بل" في الجملة الأخيرة) ؛ § 7. 2- يَتساءل "الجابري" عن المعنى المضبوط ل«0لتفكير بواسطة ثقافة ما» ويُجيب بأنّ "الثقافة"، سواء أَعتُبرت مُشتملةً على مختلف أنواع الإنتاج الماديّ والروحيّ ومختلف أنماط السلوك الاجتماعيّ والأخلاقيّ أمْ حُصر معناها في الإنتاج النظريّ وحده، تَضُمّ مُعطياتٍ تُشكِّل «الخصوصيّة الثقافيّة» لشعبٍ أوْ أمةٍ ما أو تُعبِّر عنها. وهذه "الخصوصيّة" تَرجع بالتأكيد، في نظره، إلى خصوصيّة المُحيط الجغرافيّ والاجتماعيّ والثقافيّ الذيّ يَتحدّد به شعبٌ أو مجموعة من الشعوب. وتزداد، حَسَب ظنّه، أهميّةُ تلك "الخصوصيّة" إذا نُظر إليها بصفتها نتاجًا تاريخيًّا يحمل عبر الزمن تصورات وآراء ومعتقدات خاصة، كما يحمل طرائق في التفكير وأساليب في الاستدلال قد لا تخلو هي الأخرى من "الخصوصيّة". ولهذا، فلا مُبالَغة، حسب نظره، في القول بأنّ الجزء الأكبر من خصوصيّةِ ثقافةٍ ما إنّما يرجع إلى التاريخ الخاص بهذه الثقافة ؛ § 7. 3- من البيِّن أنّ "الجابري" يُريد أن يَبني «خُصوصيّة "العقل العربيّ"» على مُسلّمة «الخصوصيّة الثقافيّة». لكنْ، إذَا جاز أن تَختصّ كل ثقافة بنمط أو أكثر من الفكر والسلوك، فهل يَصحّ أن يُجعَل هذا «التميُّز الثقافيّ» سندًا للقول ب«خُصوصيّة "العقل"» حتّى في ما يَتعلّق بالإنتاج النظريّ الذي يُطلَب فيه الاحتكام إلى القوانين العامّة للفكر البشريّ؟ وأيُّ معنى يبقى للعقل إذَا كان يرجع إلى الخصوصيّة الثقافيّة والاجتماعيّة التي هي موضوعٌ لفعل التاريخ؟ أليس معنى هذا ثُبوت التّبايُن في "العقل" بين الشعوب والثقافات على النّحو الذي يُبطل أيَّ مُقارَنة بينها فيُثبت جواز التّغايُر بينها؟ وأيّ فرق يبقى بين من كان يَتحدّث عن «العقليّة الساميّة» و«العقليّة الآريّة» جاعلا "العقل" مُرتَهنًا للضرورة الطبيعيّة وبين من لمْ يَرَ حرجا في الحديث عن «العقل العربيّ» في تميُّزه عن «العقل اليُونانيّ» و«العقل الفارسيّ» جاعلا "العقل" بذلك مُرتَهنًا للضرورة الثقافيّة كما تُحدِّدها شُروط "التاريخ" و"الاجتماع" في خصوصيتها؟! § 8- «وإذن، فالتفكير بواسطة ثقافة ما [،؟] معناه التفكير من خلال [منظومة؟] مرجعية تتشكل [إ]حداثياتها ال[أ]ساسية من محددات هذه الثقافة ومكوناتها، وفي مقدمتها الموروث الثقافي والمحيط الاجتماعي والنظرة إلى المستقبل، [بل و؟] النظرة إلى العالم، إلى الكون، وال[إ]نسان، كما تحددها مكونات الثقافة. وهكذا، ف[إ]ذا كان ال[إ]نسان يحمل معه تاريخه شاء أم كره، كما يقال، فكذلك الفكر يحمل معه، شاء [أمْ] كره، آثار مكوناته وبصمات الواقع الحضاري الذي تشكل فيه ومن خلاله.». § 8. 1- وُضعتْ، في الجملة الأولى من هذه الفقرة الثامنة، "الفاصلة" بين معقوفين وداخلهما «علامة السؤال» لأنّها ليست في مَحلِّها («التفكيرُ بواسطة ثقافةٍ ما معناهُ التفكيرُ...»). ووُضع، في الجملة نفسها، لفظُ "منظومة" بين معقوفين وداخلهما «علامة السؤال» للإشارة إلى أنّ الاستعمال المُستجدّ في تفضيله لهذا اللفظ المُؤنَّث على لفظ "نِظام" أو "نسق" لا يَستند إلى أيِّ أساس لغويّ أو منهجيّ (ما هو الشيء المُؤنّث الذي يجب أن يُسمى "منظومة" كما لو كان "خَرَزةً" تُدرَج في سِلْكٍ أو "قصيدةً" تُؤلَّف أبياتُها؟). كما وُضع لفظُ "بل" المُقترن ب"وَ" بين معقوفين وداخلهما «علامة السؤال» لتأكيدِ ما سبق بيانُه من أنّ أداةَ العطف "بل" لا يَصِحّ نحويّا ولا عقليّا أن تَجتمع مع "وَ" التي هي أداة عطفٍ أُخرى! § 8. 2- يُحدِّد "الجابري" معنى «التّفكير بواسطة الثقافة» في أنّه «تفكيرٌ من خلال نظام مَرجعيّ» وأنّ هذا «النظام المَرجعيّ» يَتكوّن من إحداثيّات أساسيّة هي بمثابة مُحدِّدات ومُكوِّنات للثقافة يَأتي في مقدمتها «الموروث الثقافيّ» و«المحيط الاجتماعيّ» و«النظرة إلى المستقبل» و«النظرة إلى العالَم والإنسان». ونُلاحظ أنّ صاحبَنا يأتي بهذا التّحديد كما لو كان 0ستنتاجا يَلزم منطقيّا عمّا سبقه وأنّه لا يكاد يُميِّز فيه بين «الشّرط المُحدِّد» (الموروث الثقافي، المحيط الاجتماعي، النظرة إلى المستقبل) و«العُنصر المُكوِّن» (النظرة إلى المستقبل، النظرة إلى العالَم والإنسان، [المفاهيم والمُحتويات والعلاقات]) إلى حدِّ أنّه يُكرِّر عبارة «كما تُحدِّدها مُكوِّنات الثقافة» غافلا عن أنّه إنّما يُؤكِّد بها أنّ «شُروط الثقافة» (الاجتماعيّة والجغرافيّة والتاريخيّة) و«مُكوِّنات الثقافة» سواءٌ عنده ضمن إحداثيّات «النظام المَرجعيّ» المذكور! والأدهى من هذا كله أنّ صاحبَنا، كما هو واضح في الجملة الأخيرة («إذا كان الإنسان يَحمل معه تاريخَه شاء أمْ كره، كما يُقال، فكذلك الفكر يَحمل معه، شاء أمْ كره، آثار مُكوّناته وبَصمات الواقع الحضاريّ الذي تَشكّل فيه ومن خلاله.»)، لا يجد حرجا في 0ستعمال لفظ "فِكْر" الذي سبق أن 0طَّرحه مُفضِّلا عليه لفظ "عَقْل" كأنّه نَسِيَ أنّه في موضع إرادة تبرير (أو تعليل) معنى "الخُصوصيّة" المُتضمَّن في تسمية «العقل العربيّ»! نعم، لا شكّ في أنّ "0لفِكْر" يَحمل معه - بهذا القدر أو ذاك- آثارَ "التاريخ" و"الثقافة" و"المجتمع" حيث تشكّل ؛ لكنْ هل معنى هذا أنّ "0لعَقْل" يجب أن يكون «خاصًّا» و«خُصوصيًّا» تماما كما هي "الثقافة" و"المجتمع" و"التاريخ" بالنسبة إلى الشعوب والأفراد؟! أليس "العقل" هو، بالضبط، ما يعلو على "الخاصّ" في كل الشروط الثقافيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة؟! § 9- «نستطيع الآن [أنْ] نحدد مفهوم "العقل العربي"[،] كما سنتناوله بالتحليل والفحص في هذه الدراسة، تحديدا [أوليًّا]، فنقول: [إ]نه ليس [شيئًا] آخر غير هذا "الفكر" الذي نتحدث عنه: الفكر بوصفه [أ]داة لل[إ]نتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات، الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام وتعكس واقعهم [أوْ] تعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبلية كما تحمل وتعكس وتعبر، في ذات الوقت، [عن؟] عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن.». § 9. 1- أُضيفتْ، في الجملة الأُولى من هذه الفقرة التاسعة، فاصلةٌ مُباشرةً بعد لفظ "العربيّ" لأنّ عبارةَ «كما سنتناوله بالتحليل والفحص في هذه الدراسة» إضافيّةٌ وبيانيّةٌ حقُّها أن تُوضع بين فاصلتين أو عارضتين. ووُضعتْ، في القول الأخير، أداةُ "عن" بين معقوفين وداخلهما «علامة السؤال» لأنّ الأمر يَتعلّق بتنافُر تركيبيّ بين فِعْلَيْن يَتعدّيان مُباشرَةً إلى مفعولهما ("تَحمِلُ[ها]" و"تَعكسُ[ها]") وبين فعل آخر معطوف عليهما يَتعدّى إلى مفعوله بواسطة أداةِ الجرّ "عن" («تُعبِّر [عنها]») بحيث هناك إشكالٌ في حركةِ الآخر في لفظ "عوائق" («تحملُ وتعكسُ عوائقَ تقدُّمِهم» أمْ «تعبر عن عوائقِ تقدُّمِهم»)! § 9. 2- يَخلُص "الجابري"، بناءً على ما رتَّبه في الفقرات السابقة، إلى تحديد ما يقصده بمفهوم «العقل العربيّ» فيصفه حصرا بأنّه "الفِكْر" بما هو «أداةٌ مُنتِجةٌ»، أيْ "العقل" كأدة للإنتاج النظريّ، وهو «عقلٌ/فكرٌ» صنعته «الثقافة العربيّة» كثقافة مُعيّنة لها خصوصيّتها بما هي «الثقافة التي تحمل معها تاريخَ العرب الحضاريّ العامّ وتعكس واقعهم أوْ تُعبِّر عنه وعن طموحاتهم المستقبليّة كما تحمل وتعكس، في ذات الوقت، عوائقَ تقدُّمِهم وأسبابَ تخلُّفهم الراهن، [أوْ تُعبِّر عنها].». ونفهم من هذا أنّ «العقل العربيّ»، بما هو أداةٌ فكريّة مُنتِجةٌ، يَتحدّد في علاقته ب«خُصوصيّة الثقافة العربيّة»، إنّه «عقلٌ خاصٌّ» (أوْ «عقلٌ ذُو خُصوصيّة»)، فهو نتاجُ ثقافةٍ مُعيّنة تحمل تاريخَ شعبٍ مُحدَّد، ثقافةٍ تَعكس حاضرَ هذا الشعب ومُستقبلَه كما تُعبِّر عن عوائق تقدُّمه وأسباب تخلُّفه، أيْ أنّ «العقل العربيّ» صورةٌ لواقع العرب التاريخيّ والحضاريّ بكل ما فيه من إيجابيّات وسَلْبيّات. ويَنبغي، هُنا، ألّا يَخفى أنّ جعلَ "العقل" خاصًّا بالنِّسبة إلى ثقافةٍ وشعبٍ مُعيَّنَين يَقتضي، بالأحرى، جعلَه كذلك بالنسبة إلى أعضاء كل ثقافة ومجتمع باعتبارهم أفرادًا مُختلِفين لاختلاف وتفاوُت كل الشُّرُوط المُحدِّدة لهم. وبالتالي، فإنّ خُصوصيّة «العقل الجَمْعيّ» تُلازِمها خصوصيّة «العقل الفرديّ» بالشكل الذي يجعل «عقل الجابري» نفسه خاصًّا وخُصوصيًّا في علاقته بكل مُحدِّداته وشُروطه الاجتماعيّة والثقافيّة والتاريخيّة والجغرافيّة. فهل معنى هذا أنّ "العقل" في كُليّته وتَعالِيه و0ستقلاله الموضوعي لا وُجود له لأنّ «الفكر-الأداة» ليس سوى نتاجٍ نسبيٍّ ومحدودٍ يَعكس بالضرورة واقعَ ثقافةٍ ومجتمعٍ مُعيَّنين؟! أليس تخصيصُ "العقل" قوميّا وثقافيّا يقود إلى تَنْسيبه موضوعيّا وذاتيّا بشكل يستحيل معه "الكُلّيّ" كما يَتمثّل في "الحقيقة" و"الفضيلة"؟! § 10- «أكيد أن هذا التحديد الأولي لموضوع هذه الدراسة لا يبعد من الميدان جميع التساؤلات السابقة، ومع ذلك فنحن لا نشك في [أ]ن هذا التحديد - مع كل عيوبه- يخطو بنا خطوة هامة إلى الأمام، خطوة تنقلنا من مجال التحليل [الإديولوجي] إلى مجال البحث [الإپستمولوجي]: البحث الذي يتخذ [موضوعًا] له [أ]دوات ال[إ]نتاج الفكري لا منتجات هذه الأدوات. هذا من جهة، ومن جهة [أ]خرى ف[إ]ن الملاحظات السابقة كافية، في نظرنا، لتجعل القارئ يطمئن [إ]لى [أ]ننا لا نقصد ب"العقل العربي" [شيئًا] "خارقًا للعادة"[،؟] كذلك الشيء الذي نسميه [أحيانًا] ب"العبقرية العربية" أو بأسماء [أ]خرى لا مجال لتعدادها هنا، كما [أ]ننا لا نقصد ب"العقل العربي" [شيئًا] "دون المستوى"، مستوى عقل آخر قد ينتمي إلى "عبقرية" [أ]خرى حقيقية [أوْ] موهومة. وبالمثل[،] ف[إ]ننا عندما وصفنا الانتقال من التحليل [الإديولوجي] [إ]لى البحث [الإپستمولوجي] ب[أ]نه "خطوة إلى الأمام"، فإننا لا نصدر في ذلك عن أي اعتبار غير الاعتبار الذي تصدر عنه هذه الملاحظات. نعني بذلك تقريب القارئ إلى موضوع هذه الدراسة. [إنّ] وجهتنا ليست [إ]صدار [أ]حكام قيمة من هذا النوع. [إنّ] وجهتنا الوحيدة هي التحليل "العلمي" ل"عقل" تشكل من خلال [إ]نتاجه لثقافة معينة، وبواسطة هذه الثقافة نفسها: الثقافة العربية الإسلامية. وإذا كنا قد وضعنا كلمة "العلمي" بين مزدوجتين [هنا هامش ثان]، فذلك [إقرارًا] منا منذ البداية بأن هذا البحث لا يمكن أن يكون [علميًّا] بنفس الدرجة من العلمية التي نجدها في البحوث الرياضية [أوْ] الفيزيائية. [إ]ن الموضوع هنا هو شيء منا، [أوْ] نحن شيء منه[.] فنحن[،] أبينا أم رضينا[،] مندمجون فيه. وكل أملنا هو [أنْ] نتمكن، في هذا البحث، من الصدور عن الالتزام الواعي لا عن الاندماج [المُشَيِّئ؟] للفكر المعطل للعقل.». § 10. 1- وُضعتْ، في هذه الفقرة العاشرة، مجموعةٌ من الألفاظ بين معقوفين لأنّ "الهمزة" صُحّحت فيها. ووُضع لفظا "الإديولوجيّ" و"الإپستمولوجيّ" بين معقوفين لأنّه أُزيل من الأوّل "المدّ" قبل "الدال" وكذلك من الثاني قبل وبعد "الباء" التي أُبْدلتْ هُنا "پ" كما يجب ولأنّ النُّطق بلفظ "إيبيستيمولوجي" فيه، كما لا يَخفى، ثِقلٌ على لسان المُتكلِّم وكراهةٌ من أُذن السامع. ووُضع، في الجملة الأخيرة، لفظُ «0لْمُشَيِّئ» بين معقوفين لأنّ كتابتَه كما وردت في الأصل تجعله يُقرَأ «0لْمَشِيءُ» في حين أنّه على وزن "0لْمُفعِّل" بحيث يجب أن تُكتَب "الهمزةُ" على "الياء" لسبق الكسرة لها خصوصا أنّها أتتْ في نهاية اللّفظ («0لْمُشَيْيِئ»)! § 10. 2- يُقرّ "الجابري" بأنّ التحديد الأوليّ الذي قام به لما سمّاه «العقل العربيّ» - بما هو موضوعُ دراسته- لا يُبْعِد كل التساؤُلات الواردة بهذا الخصوص، بل لا يَتردّد عن الإشارة إلى أنّ له عُيوبًا. ومع هذا، فهو لا يَشُكّ في أنّه تحديدٌ يَتقدّم خطوةً إلى الأمام بما أنّه يَنقُل الباحث - حَسَب ظنِّه- من مجال «التحليل الإديولوجيّ» (الذي يكون موضوعه تناوُل المُنتجَات كمضامين فكريّة وعَمليّة) إلى مجال «التحليل الإپستمولوجيّ» (الذي يكتفي بتناوُل أدوات إنتاج الفِكَر). تُرى، كيف يُمكن لتحديدٍ يرد عليه كل ما سلف من الاعتراضات الإشكاليّة أن تكون له، رغم ذلك، هذه القدرة العجيبة على نقل التحليل من مستوى "الإديولوجيّ" إلى مستوى "الإپستمولوجيّ"؟ وهل تسمية «العقل العربيّ» تُحقِّق فعلا هذه النُّقلة؟ أليست تسميةً إشكاليّة إلى أبعد حدٍّ بما أنّها تَشُدّ "العقل" إلى الخُصوصيّة في الوقت نفسه الذي يُراد بها أن تُركِّز الاهتمام على ذلك «الفِكْر-الأداة» المُتميّز بطابعه "الإپستمولوجيّ" المزعزم عن «الفِكْر-المُحتوى» المَوْصُوم بطابعه "الإديولوجيّ"؟! § 10. 3- يُؤكِّد "الجابري" أنّ مُلاحظاته السابقة كافيةٌ لجعل القارئ يَطمئنّ إلى أنّه لا يقصد ب"العقل العربيّ" شيئًا «خارِقًا للعادة» (قد يُمثّل ما يُسمى أحيانًا ب«العبقريّة العربيّة») أو شيئًا "دون المستوى" بالنسبة إلى عقل آخر قد ينتمي إلى "عبقرية" أُخرى حقيقيّة أوْ موهومة. ونُلاحظ، في هذا التأكيد، أنّ إرادةَ صاحبنا تطبيع ما سمّاه «العقل العربيّ» لم تمنعه من خرق عادةِ عدم تخصيص "العقل" قوميّا أو ثقافيّا! ومن البيِّن أنّ القارئ النّبيه - رغم تسليمه بالتمييز بين «الفكر-الأداة» و«الفكر-المُحتوى»- لا يستطيع أن يطمئنّ إلى براءةِ تسمية «العقل العربيّ» التي تجعل «الخصوصيّة العربيّة» مُحدِّدةً ل"0لعقل" بما هو عموما أداةٌ كُليّةٌ للإنتاج الفكريّ ؛ § 10. 4- يَرى "الجابري" أنّ وصفَه الانتقال من «التحليل الإديولوجيّ» إلى «البحث الإپستمولوجيّ» بأنّه «خطوة إلى الأمام» لا يَصدُر عن أيِّ 0عتبار خارج ما تُحدِّده مُلاحظاتُه الرامية إلى تقريب القارئ إلى موضوع الدراسة. والعلّة، حسب زعمه، أنّ وجهتَه ليست إصدار «أحكام قيمة» مثل تلك التي تتحدّث عما هو "خارق" أو "عبقريّ" أو «دون المستوى»، وهي وجهةٌ غرضها الوحيد التحليل "العلمي" ل«0لعقل 0لعربي» الذي تَشكّل بإنتاجه ل«الثقافة العربيّة الإسلاميّة» ومن خلالها. ونلاحظ، هُنا، أنّ تسمية «العقل العربيّ» تتضمّن أحكامَ قيمة غير بريئة وغَيَّبت أحكامَ قيمة مُقابلة: لا يَصعُب على المُتلقِّي أن يُدرك أنّ هذه التسمية تُحيل إلى أنّ "العقل" ذو خصوصيّة عربيّة، وأنّه "مِيزة" أو "فضيلة"، وأنّه أحق بالدراسة من غيره، إلخ. فما الذي يُبرِّر أحكامَ القيمة هذه إذَا صدَّقنا أصلا أنّ «حُكم الواقع» يجب أن يتميز عن «حُكم القيمة»؟ وبالمِثْل، إذَا كان "العقل" الذي يَتحدّث عنه صاحبُنا قد أنتج ثقافةً تُوصف بأنّها «عربيّة إسلاميّة»، فما الذي يُبرِّر تغييب صفة "إسلاميّ" والاكتفاء بصفة "عربيّ"؟ هل هو عقل يَتحدّد بالنسبة إلى «ما هو عربيّ» أكثر من تحدده بالنسبة إلى «ما هو إسلامي»؟ ولماذا لا تَسبق صفة "إسلاميّ" صفة "عربيّ" أو تُغني عنها («العقل الإسلاميّ العربيّ»، أو «العقل الإسلامي» كما عند "أركون") مع العلم بأنّه تاريخيّا وواقعيّا لا شيء في «الثقافة العربيّة» يَقبل، على الأقل منذ القرن السابع الميلاديّ، أن يُفصَل عمّا هو "إسلاميّ"؟ بل أليس في هذا «العقل العربيّ» مُكوِّنات مسيحيّة ويهوديّة إلى جانب مُكوِّنات فارسيّة ويُونانيّة؟ فما علّة تغييب كل هذا في وصف "العقل" داخل «الثقافة العربيّة»؟ هل هذه الصفات تَحمِل أحكامَ قيمة أكثر مِمّا تحمله صفة "عربيّ"؟ وهل يُعبِّر هذا الاختيار عن الخضوع لمُقتضى التمييز بين "الإديولوجيّ" و"الإپستمولوجي" كما يَدّعي صاحبُنا أمْ أنّه تحكُّمٌ إديولوجيٌّ مُتنكِّر إپستمولوجيًّا؟! § 10. 5- لمْ يَتوانَ "الجابري" عن وضع كلمة "العلميّ" بين مُزدوجتين ويُفسِّر المُراد من هذا الأمر في الهامش الثاني بقوله: «لعله من المفيد[،] ونحن بصدد عرض بعض التحديدات الأولية[،] أن نشرح الاعتبارات التي تدفعنا في هذه الدراسة إلى وضع بعض الكلمات والعبارات بين مزدوجتين هكذا: «...». تستعمل المزدوجتان في الاصطلاح الشائع في عصرنا للإشارة إلى [أ]ن الكلمات [أ]و الجمل الموضوعة بينهما منقولة بنصها، [نقلًا حرفيًا]، عن كاتب آخر. وتستعمل المزدوجتان كذلك للتعبير عن بعض التحفظ في مدلول الكلمة الموضوعة بينهما [أ]و للتنبيه [إ]لى [أ]ن ال[أ]مر يتعلق باستعمال فيه شيء من التجاوز. وقد تستعمل ال[إ]شارة للتنبيه [إ]لى [أ]ن ال[أ]مر يتعلق بمعنى خاص تحمله الكلمة في سياق معين. وواضح [أ]ن افتقاد الحروف [المطبعية] العربية إلى التنوع، كما في اللغات الأجنبية[،] هو الذي يضطرنا إلى التوسع في استعمال هذه العلامة بالشكل الذي ذكرنا.» (انتهى). ونُلاحظ أنّ بيان "الجابري" لمعنى 0ستعمال المزدوجتين مُتفِّقٌ مع المُتعارَف، لكنّ قولَه بأنّ الحروف العربيّة المطبوعة تفتقد التنوُّعَ بخلاف الحروف اللاتينيّة لا يَصحّ هكذا مُطلقا، لأنّ الطباعة العربيّة تُوفِّر أمرين أساسيّين: تشديد بعض الألفاظ بكتابتها بخط بارز أو وضعها بين هلالين مزدوجين. وبالتالي، فالشيء الوحيد الذي لا يتوفر في الطباعة العربيّة إنّما هو «الحروف التاجيّة» (les majuscules) التي تجعل الحروف اللاتينيّة تَنقُل بعض الكلمات من معناها العامّ إلى معنى خاص (مثلا: الفرق بين "état" بمعنى "حال" وبين "Etat" بمعنى "دولة" أو بين "raison" بمعنى "علّة" أو "نِسبة" و"Raison" بمعنى "عَقْل"). لكنّ هذا الإخراج الطباعيّ ليس سوى حيلةٍ تُمكِّن اللغات الأُروبيّة من تفادي الالتباس الدّلاليّ المُتعلِّق بكتابتها الإملائيّة الخاصة، وهو أمر غير حاصل في الإملاء العربيّ. ولعلّ المثالين السالفين يُوضِّحان الفَرْق بين "العربيّة" واللغات الأُروبيّة. ونفهم، فيما وراء هذا، أنّ صاحبَنا يَتحفّظ في 0ستعمال لفظ "العلميّ" صفةً لبحثه، وهو ما يُؤكِّده قولُه بأنّ «هذا البحث لا يُمكن أن يكون علميًّا بنفس الدرجة من العلميّة التي نجدها في البحوث الرياضيّة أوْ الفيزيائيّة». والسبب، في نظره، هو «[أنّ] الموضوع هنا هو شيء منا، أوْ نحن شيء منه. فنحن، أبينا أمْ رَضِينا، مندمجون فيه.». لكنّ السبب، في الواقع، يَتعلّق بأنّ «البحث الفلسفيّ» (والأدبي عموما) ليس هو نفسه «البحث العلميّ» بالمعنى الضيّق المُعتمَد مثلا في "الرياضيّات" و"الفيزياء" ؛ وليس بما أشار إليه صاحبُنا من أنّ "الموضوع" المُتناوَل جزءٌ من "الذات" (أو كل منهما جزء من الآخر)، وإلا فإنّ البحث في «عُلوم الإنسان» (علم الاجتماع، علم اللغة، علم النفس، إلخ.) يَبقى "علميّا" رغم أنّه ليس تماما على شاكلة البحث في «علوم الطبيعة»، كما أنّه ليس مجرد «تأمُّل فلسفيّ» (للإشكال أبعاد أخرى ليس هذا مَقامها). ومُهمٌّ جدّا أن يَأْمُل "الجابري" أنْ يَتمكّن، في بحثه، من الصُّدور عن الالتزام الواعي وليس عن الاندماج المُشَيِّئ للفكر والمُعطِّل للعقل. لكنّ الأهمّ منه هو تأكيد أنّ بحثه يُعَدّ بالأساس "فلسفيّا"، وليس "علميّا" حتّى مع تكرار وصفه إيّاه بأنه "إپستمولوجيّ"، لأنّ هذا الوصف لا يُحقِّق المَزيد من "العلميّة" وإنّما يُكْسِب فقط - حينما يَتعلّق الأمر بمُمارسة إپستمولوجيّة حقيقيّة- المَزيد من الوعي ب«حُدود المعرفة». ومن ثَمّ، فمشروعيّة بحث "الجابري" تتحدّد بمدى خُضوعه لمُقتضيات التفكير الفلسفيّ بالخصوص في مجال «فلسفة المعرفة والعلم» ؛ § 10. 6- تَأتي هذه الفقرة الطويلة، في الحقيقة، لتُعبِّر عن مدى جدارة كل التساؤُلات التي أسلفناها في مُلاحظاتنا. فالجابري نفسُه أدرك في الآخر أنّه لم يَنته إلى شيء ذي بال: تحديداته الأوليّة لِما سمّاه «العقل العربيّ»، كموضوع لبحثه، لا تعدو أن تكون "تقريبات" تبقى بعيدةً عن حسم كل الإشكالات المطروحة بهذا الصدد، فلا شيء فيها يرقى إلى درجة "العلميّة" في صرامتها ودقّتها. § 11- «أما مسألة ما [إ]ذا كان "العقل" الذي سندرسه هو "العقل العربي" كما كان بالأمس - أي أمس- أو "العقل العربي" كما هو "اليوم"[،] فهي مسألة نفضل السكوت عنها [مؤقتًا][[.]] [إنّ] الفصول القادمة ستقدم ما يكفي من العناصر الضرورية للجواب، مع الوعي بما قد يترتب عن ذلك من نتائج[[.]] أما الآن[،] فلنخط خطوة أخرى نحو تحديد أدق لموضوعنا.». § 11 .1- وُضعتْ، في هذه الفقرة الحادية عشرة، بعض علامات الوقف في أكثر من موضع. فجاءت "الفاصلة" بعد لفظ "اليوم" لأنّ الجملة بُدِئت بأداة "أمّا" للتفصيل، والأمر نفسه يَنطبق على وضع فاصلة بعد لفظ "الآن". و0ستُبدلتْ "النقطة" بالنقطتين المُتتابعتين (اللّتين لا معنى لهما عالميّا) بعد لفظ "مُؤقتا" لأنّ الكلام تامّ عنده، وهو الأمر نفسه الذي يُبرِّر وضع نقطة بعد لفظ "نتائج" حيث كانت في الأصل تانِكَ النقطتان المُتتابعتان! § 11 .2- يُشير "الجابري"، في هذه الفقرة الأخيرة، إلى مُشكلة طبيعة ما يُسمِّيه ب«العقل العربي»: هل هو عقل الأمس (عقل الماضي) أمْ أنّه عقل اليوم (عقل الحاضر)؟ أو، بعبارة أخرى، هل «العقل العربي» المدروس «عقل قديم» لتعلُّقه (أوْ 0ستمرار تعلُّقه) بالماضي أمْ هو «عقل حديث» لانقطاعه عن الماضي و0رتباطه بالحاضر/الحداثة؟ ونُلاحظ أنّ كونَ الأمر يُطرَح بهذه الصورة يُعَدّ مُزعجا لصاحبنا وهو في بداية تحديده لموضوعه (أو مشروعه). ولأنّ القناعة المُضمَرة في نفسه تقوم على أنّ «العقل العربي» إنّما هو «عقل الماضي» الذي لا يزال مُستمرا حتّى الآن، فإنّه تفادى تعيين مقصوده ب«العقل العربيّ» من الناحية الزمنية ؛ § 11 .3- هناك إشارة، في نهاية هذه الفقرة، إلى أنّ الخطوة التالية ستُحقِّق المَزيد من الدِّقّة في تحديد الموضوع. فهل هذا ما سيَحدُث بالفعل أمْ أنّ الخطوة المَعنيّة في الفُصيل القادم ستكون مزيدا من "التّلبيس" إلى حدّ الوقوع في "التّدْليس"؟ ملاحظة ختامية: عند هذه النقطة يَنتهي تناوُلنا النقديّ لفقراتِ الفُصيل الأوّل من الفصل الأوّل («عقل... ثقافة»). وقبل مُواصَلة تناوُل ما يَتلُوه من فُصيلات، يَجدُر التوقُّف عند أهمّ ما أدلى به نُقّاد مُصطلح «العقل العربي» ومُقارَنته بما وَرد في مُلاحظاتنا السالفة، وهو ما سيكون موضوع المقال القادم بإذن اللّه تعالى.