(الجزء الثاني) في الجزء الأول من هذا الملف، تطرقنا إلى جرد تاريخي بسيط حول بدايات بنكيران في العمل السياسي مع المؤسسة الملكية، وانتقلنا بعد ذلك لتبيان مظاهر هذا التقرب إبان الحراك الاجتماعي الذي رفض بنكيران المشاركة فيه، لننهي المحور الأول بتحديد بعض الأسباب التي تجعل من رئيس الحكومة دائم المدح للمؤسسة الملكية. قناعات شخصية أم توجهات عامة الخلاف العميق الذي وقع بين مجموعة من أعضاء الأمانة العامة لحزب المصباح وبنكيران إبان الحراك الاجتماعي، وخروج الرميد والشوباني وحامي الدين مع مظاهرات 20 فبراير رغم رفض أمينهم العام، كشف عن بعض التباين في مواقف بنكيران ومواقف باقي أعضاء حزبه، وهو ما قد يؤدي إلى استنتاج توجهات مغايرة لحزب المصباح ككل. غير أن انتخاب بنكيران في مؤتمر الحزب الأخير بنسبة وصلت ل 85 في المائة كأمين عام للمرة الثانية على التوالي أبعد مثل هذه الاستنتاجات، فحزب العدالة والتنمية مصر على إعادة الثقة في بنكيران وعلى دعمه وتبنى قراراته، وما يدعم ذلك هو خفوت الأصوات المعارضة لبنكيران من داخل الحزب حتى وهي تخرج من الأمانة العامة كما وقع لعبد العزيز أفتاتي. ويؤكد بلال التليدي، عضو المجلس الوطني للحزب، بأن "العدالة والتنمية حسم في موضوع الشراكة وتعزيز الثقة مع المؤسسة الملكية وفي الانتقال من النضال الديمقراطي إلى البناء الديمقراطي، وهياكل ومؤسسات الحزب التنفيذية أو الرقابية تقوم بالسهر على تنزيل هذه الأطروحة، والمؤتمر السابع الذي منح ثقته للأستاذ عبد الإله بنكيران بأغلبية كبيرة هي رسالة دالة على أن الحزب بجميع مكوناته مقتنع بالشراكة في مسار تعزيز الثقة مع المؤسسة الملكية، وأن ذلك هو السبيل لتحقيق البناء الديمقراطي ومحاربة الفساد والتحكم". ويمشي تقريبا في نفس الاتجاه القيادي في الحزب الاشتراكي الموحد أيمن المرزوقي ولو بصورة أخرى، فهو يقول إن تدبير رئيس الحكومة للشأن السياسي في المغرب ليس سوى نتاجا لعقلية حزب العدالة والتنمية، ف"مواقف رئيس الحكومة من المؤسسة الملكية تبقى مجرد تصريف لإرادة الحزب الذي ينتمي إليه، لأن بنكيران قادر على التفرقة بين قناعاته السياسية والشخصية، وتقربه من المؤسسة الملكية لا يتعلق به لوحده كما قد يُستنج ، ولكنه يتعلق بالحزب ككل الذي شارك في الانتخابات من أجل تحقيق هذا الهدف" يتابع المرزوقي الذي شدد على أنه حتى لو كان سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة فسيُقدم على نفس "أفعال" و"سلوكيات" بنكيران". المؤسسة الملكية..معادلة تحقيق التوازن السياسي وتفرض طبيعة الحكم في المغرب التشاركية بين الحكومة والمؤسسة الملكية تحقيق نوع من التوازن السياسي بين المؤسستين، فالدستور الجديد نص على نوع من تقاسم الصلاحيات بين رئيس الحكومة والملك، حيث أكد مثلا على أن الوزراء يتم تعيينهم باقتراح من الأول الذي يملك السلطة التنظيمية، وله كذلك حق التعيين في عدد من الوظائف السامية والإدارات العمومية، إضافة لحل مجلس النواب، مقابل بقاء مجموعة من الصلاحيات في يد الملك كرئاسة المجلس الوزاري والمجلس الأعلى للقضاء، وكذلك المؤسسات الأمنية والعسكرية والدينية. غير أن بعض الأحداث تشير إلى تشابك سلطة الملك مع رئيس الحكومة في بعض الأمور، مثل مسألة التعيين في المناصب الحساسة خاصة فيما يتعلق بالسفراء، وملف الإعلام العمومي الذي أسال الكثير من المداد، وبعض القرارات التنموية كتلك التي تتعلق بالمبادرات الملكية، مما يجعل خط التماس غير واضح المعالم بشدة بين المؤسستين. وفي هذا الصدد يرى إدريس الكنبوري، المحلل السياسي، أن بعض سلوكيات بنكيران تنم عن ذكاء سياسي خاصة فيما يتعلق بالموقف الأخير المتمثل في الاعتذار للملك، ويستطرد قائلا "بنكيران يفهم أن التدبير الحكومي في البلاد مرتبط بجودة العلاقة بين أي رئيس حكومة وبين شخص الملك ومحيطه، لأنه تولى المسؤولية في مرحلة دقيقة، وفي تجربة أولى غير مسبوقة، لذلك هو يرى أن تعزيز الثقة مع المؤسسة الملكية هي الضمانة لإنجاح التجربة الحكومية الحالية". ويعتبر الكنبوري أن هذا الموقف يعبر عن النضج السياسي وعن الاحترام للمؤسسة الملكية، خاصة أنه كان علنيا وليس سريا كما في السابق، ويستشهد في ذلك بكون مثل هذا الفعل موجود حتى في البلدان الديمقراطية، مثل اسبانيا، بين مسؤولين حكوميين والملك خوان كارلوس، "فلا علاقة لهذا الاعتذار بدور رئيس الحكومة في ممارسة الصلاحيات الحقيقية التي يخولها له الدستور" يقول الكنبوري الذي يضيف بأن على بنكيران أن يتحلى كذلك بالجرأة ويعتذر للمواطنين عن بعض المواقف، كما كان جريئا واعتذر للملك بما جره من انتقادات عليه. فضل حزب المصباح على المؤسسة الملكية؟ ثقة الشعب هي ما راهنت عليه المؤسسة الملكية في المغرب على الدوام، فبطء عجلة التنمية بالمغرب كثيرا ما كان يحمل فيه الشارع المسؤولية لمن يترأس الحكومات وليس للمؤسسة الملكية، لأن هذه الأخيرة تظهر على الدوام بمنظار المؤسسة الناجحة في مشاريعها واقتراحاتها، بينما يلتصق الفشل بالحكومة التي يتم التركيز بقوة على جانبها التنفيذي مما يجعل هفواتها عرضة للعيان. غير أن تصريحات بنكيران الأخيرة في برنامج "بلا حدود" أثارت بعض ردود الأفعال عندما لمح إلى أن الحزب الإسلامي أتى لينقذ المغرب من الخطر في أعقاب انفجار الربيع العربي، وعندما نتحدث عن إنقاذ المغرب، فلا يمكن أبدا التغاضي عن الملكية، مما قد يجعل البعض يستنتج أن انتخاب فئة من المغاربة لحزب المصباح قد جنب المغرب حدوث أمر مماثل لما حدث في تونس ومصر واليمن وليبيا، فعندما يصرح بنكيران في برنامج شهير يتابعه ملايين المغاربة والعرب عن أن حزبه لم يخرج في مظاهرات 20 فبراير لأنه يخاف على الملكية، فاستنتاج كالذي ذكرناه آنفا يبقى احتماله كبيرا خاصة عند من لا يدرك كثيرا خصوصية المغرب السياسية.. لكن نفي هذا الاستنتاج كذلك لا يعني غياب فضل لحزب العدالة والتنمية على الملكية في نظر حسين مجذوبي، فهو يرى أن بنكيران كان له فضل كبير في تجنيب الملكية الضغط الذي كانت تتعرض له من الشارع من حركة 20 فبراير، أي أن الاهتمام الذي أبداه الكثير من المحتجين اتجاه سياسات القصر الملكي تم تحويره بشكل كبير مع صعود حكومة بنكيران التي نالت القسط الأوفر من الانتقاد سواء في الإعلام أو داخل الحركات الاحتجاجية. ويسير التليدي في نفس الاتجاه، ولكن بتفسير مخالف بعض الشيء، فهو يؤكد على أن المغرب كان على وشك الدخول في أزمة سياسية بعد إجهاض حكومة التناوب وظهور خيار حزب الدولة ثم تحالفه مع قوى حداثية ديمقراطية، وكذلك في أزمة اقتصادية كان من الممكن أن تأخذ بعدا تراجيديا، ليأتي في نظره الحراك الشعبي بالمنطقة ويساعد صناع القرار السياسي على التحرر من المحيط الضاغط ووضع الرهان على الحزب الذي يتوفر على أكبر قاعدة اجتماعية لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي. أما أحمد بن الصديق، أحد ناشطي المجتمع المدني، فيعتقد أن الذي ستربحه الملكية من حزب العدالة والتنمية هو أن تضعه كحائط رد الصدمات " ليساهم حزب المصباح من جهة في إجهاض الحراك الشعبي السلمي ومن جهة أخرى في تمرير قرارات غير شعبية، من قبيل الزيادات في الأسعار وغيرها، ويفتخر بكونها قرارات شجاعة" يقول بن الصديق الذي يتابع بأنِ"ذِكر الحكومة من طرف القصر يأتي مقرونا بالتذكير بالنواقص ومواطن العجز والحث على تحمل المسؤولية بينما المشاريع والمبادرات الناجحة فالملك ينسبها لنفسه، كمثال على ذلك برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية الذي يحمل فيه الملك للحكومة مسؤولية نواقصه، من قبيل استمرار وجود خصاص بالمناطق الأكثر هشاشة المفتقرة إلى التجهيزات الأساسية الضرورية" يتابع بن الصديق. مستقبل بنكيران..مع الملكية الاعتذار الأخير الذي قدمه بنكيران أظهر أن الأمور بينه وبين المؤسسة الملكية ليست دائما على ما يرام، فوجود أشخاص داخل المحيط الملكي كالهمة والماجيدي سيعيق من عملية الوئام الدائمة بين القصر وزعيم حزب المصباح ما دام ماضي بنكيران مع هؤلاء الأشخاص لم يكن أبدا بالتاريخ الجميل حين كال لهم من السب ما لم يكله زعيم سياسي آخر في المغرب لمعارضيه، لذلك فاعتذار بنكيران لمستشاري الملك قد يوضح رغبة الرجل في نسيان هذا التاريخ، وهو الأمر الصعب ما دامت الكثير من خطبه الموثقة صوتا وصورة تؤكد على هذا التنافر الكبير. ومهما يكن من أمر، فلا وجود لحزب سياسي داخل الحكومة المغربية يؤمن بخيار مغاير لعلاقة حزب المصباح مع الملكية، وأغلب الانتقادات التي تصل لبنكيران من داخل قبة البرلمان لم تتحدث عن علاقته مع الملكية بقدر ما تتجه لأمور تدبيرية أخرى، ليتأكد أن حديث بنكيران الدائم عن الملك قد يكون مجرد تفاصيل، ما دام الأهم هو أن علاقة الملكية بتدبير الشأن السياسي قائمة بفعل الدستور، وبفعل الإرث السياسي المنظم لعلاقة الأحزاب مع القصر الملكي. ولعل التحدي الأقرب لبنكيران وبعض من وزراء حزبه يكمن في استمرار مراسيم حفل البيعة والولاء المثيرة للجدل حتى وإن لم تحضر فيها الحكومة، فهي ذات المراسيم التي كان قد رفضها كل مصطفى الرميد وسعد الدين العثماني والحبيب الشوباني ونجيب بوليف، وذلك عبر بيان كانوا قد وقعوه في عز الحراك الاجتماعي السنة الماضية تحت اسم "التغيير الذي نريد" طالبوا من خلاله بإلغاء طقوس البيعة التي رأوها مهينة بالكرامة الإنسانية..فهل تلين مواقف هؤلاء الوزراء مستقبلا وهم الذين صمتوا عن الأمر في الآونة الأخيرة؟ أم يعقدون أكثر من وضع بنكيران مع القصر الملكي المعقد أصلا في هذه الأيام؟