لعلي لا أتجاوز اذا قلت، إن كتاب "أيام الرباط الأولى" أدهشني للمرة الثالثة. اندهشت في المرة الاولى عندما كتبته (عام 1997) تحت ضغط ظروف كانت بالغة القسوة على نفسي، كما كانت بالغة الشدة على أسرتي الصغيرة، ونشر في "العلم" ضمن زاوية يومية كنت أكتبها أيامئذٍ، ولاقى قبولاً لم أكن أتوقعه. اندهشت للمرة الثانية، حين طبع في كتاب ونفذ خلال فترة قياسية، ولم تبق منه حالياً، سوى نسخة واحدة أضعها بحرص شديد في مكتبتي. اندهشت للمرة الثالثة، عندما نشر في "هسبريس"، ولاحظت كيف احتفى به القراء، حتى أولئك الذين كتبوا انتقادات، وهذا حقهم، إذ المهم أنهم قرؤوا ما نشر بانتباه. قبل ان أعقب على ما كتب، أجد لزاماً علي القول إن "هسبريس" هي صاحبة المبادرة في نشر هذا "الكتاب"، وبالطريقة التي نشر بها، وكان من اتصل ومن تابع هو الأخ نورالدين لشهب. كما أجد ضرورياً أن أبين الظروف الذي كتب فيها، لأن السياق الزمني يفسر الكثير من الأشياء. عندما كتبت هذا "الكتاب" كنت آنذاك عاطلاً، بدون عمل ولا موارد، على الرغم من أنني راكمت وقتها تجربة مهنية لا بأس بها، وكنت في قمة سنوات العطاء. وتلك مفارقة..!! ذلك الوضع كان يمكن تحمله، لكن الذي كان صعباً وقاسياً، هو تخلي القريبين والأصدقاء، إذ وجدت نفسي أصارع وحيداً تصاريف الزمن. ثم كاد الزمن أن يقهرني، خاصة عندما بات وشيكاً أن تنسحب الضغوط على أطفالي، تارة حين يكون توفير وجبة إنجازاً، ويوماً عندما يتلقون إنذاراً بطردهم من المدرسة. في تلك الظروف عدت الى الذاكرة وكتبت "أيام الرباط الأولى". كتبت ما كتبت من الذاكرة في البداية، وكانت تلك محاولة للهروب من ظروف قاسية، أو لعلها كانت طريقة لاستعادة توازن داخلي تعرض لرجة شديدة. صادقاً أقولها. لكن عندما ارتأيت إصدار ما كتب في "كتاب"عدت لأتحقق من الوقائع وأدقق في التفاصيل. مع الكتابة الأولى، التي نشرت في عمود يومي، كانت خواطري نهباً لمشاعر شتى. لكن حين ارتأيت إعادة صياغة ما كتب ليصدر في "كتاب"، اختلف الأمر، لم تعد "الذاكرة" فقط قادرة على تحمل عبء ومسؤولية "كتاب". لعل مشكلتي مع بعض الناس أو مشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد إطلاقاً على الذاكرة، عندما يصدر أي عمل في "كتاب". الذاكرة تصلح عندما يروي الشخص للناس حكايات وقصص أو يدلي بإفادة شفوية، لكن حين نكون أمام "كتاب" هنا يختلف الأمر تماماً. وفي ظني أن الاعتماد على الذاكرة في أي عمل ثقة زائدة، لا معنى لها. في الكتابة الأولي أي قبل صدور كتاب"أيام الرباط الأولى"، تواردت على خاطري صور ولا أقول ذكريات، فكتبتها. لم أقصد أن أجعل ما كتبت نوعاً من "كتابة المذكرات" مع أني عشت دخائل الوقائع ، ثم أنني حاولت قدر المستطاع أن أروي الوقائع كما حدثت، لا كما أتمنى الآن. لذا كتبت ما كتبت بنوع من الاطمئنان، لأن ذلك كان فعلاً ما حدث. حرصت أن أروي الوقائع كما عشتها في رحلة زمن تتوالى وتتعاقب أحداثه. وفي ظني أن كل تجربة إنسانية هي قصة كاملة تستطيع أن تقدم نفسها في شكل "كتاب". وكل "كتاب" هو قطعاً له علاقة بكاتبه، فهو جزء من حياته فكره وعمله وتجربته، استؤمنت عليها صفحات وسطور وحروف. وعلي القول أيضاً أن هناك تنازعاً غير واضح ما بين "الصحافي" و"الكاتب"، ولا أخفي أنني أعيش هذا التنازع. الصحافي يكتب ليقدم "معلومات"، وفي بعض الأحيان يمكن أن يسعى إلى تحليل هذه "المعلومات"، لذلك ليس هدف الصحافي من الكتابة أن يقر حقاً أو أن يمحو باطلاً فذلك، دور القديسين وليس دور الصحافيين. لكن "الكاتب" يقدم "معرفة" ويخلق "وعياً" لذلك يسعى قدر الإمكان أن يغوص في الوقائع والواقع، يبحث عن ما وراء " الواقعة" وما خلف "الحادثة"، ثم هو يحاول أن يرى اللوحة بكاملها، حتى لو توارت بعض أجزائها. "الصحافي" يمكن أن يأخذ بقعة داكنة على صورة ثم يركز عليها على أساس أنها تعبر عن صورة بكاملها، "الكاتب" يتأمل كل الصورة، ولا يكترث للبقع، داكنة كانت أم مضيئة. *** الآن أعود إلى ما كتبه القراء. كنت أتمنى أن أجد أمامي أسماء صريحة، ليكون هذا "الحديث" له أكثر من فائدة، لكن لاحظت أن معظم الكتابات وقعت بأسماء مستعارة، وأنا افهم وأتفهم، وإن كنت شخصياً لا أتضايق مطلقاً من ما يعتبره بعض الناس خروجاً على اللياقة في القول. وأقول إنني استفدت كثيراً من كل الذي كتب. مرة أخرى، صادقاً اقولها. القاعدة الذهبية في علاقة "الكاتب" و" القارئ" ، هو ان "الكاتب" يكتب وفي ظنه أن القارئ سيجد في كتاباته "متعة" و"فائدة"، و" القارئ" يعتقد أن في تعليقاته تقييماً موضوعياً لما قرأ، سوى كان " تنويهاً" او "توبيخاً" او "توضيحاً". وفي " حديثي" هذا سأتوقف عند الأفكار والآراء التي طرحت، تعقيباً وشرحاً وفي بعض الأحيان تصحيحاً. *طرحت قارئة سؤالاً، حول ما إذا كنت واجهت موقفاً عنصرياً في المغرب، ببساطة لم يحدث. في المجتمعات المتساكنة والتي تتكون من عدة أعراق، مثل المجتمع المغربي، يصبح الحديث عن" العنصرية" مجرد "كلام ساكت". *أحد القراء يقول إن التسجيل في قسم اللغة الانجليزية في عام 1975 لم يكن يشترط لغة تكميلية، لكن أقول جازماً كان على الطالب، في ذلك الوقت، أن يختار بين الالمانية او الروسية، على أن يكون درسها لمدة ثلاث سنوات. لست واثقاً من ذلك بل متيقناً. ويبدو ان مشكلة "العقل العربي" انه مستعد للشك في كل شيء. *بعض القراء يعتقدون أن "أيام الرباط الأولى" هي جزء من كتاب " صحافة تأكل أبناءها"، الواقع ألا علاقة بين الكتابين، لان "صحافة تأكل أبناءها" يتناول بالتفصيل وقائع تجربة مهنية. أما متى يصدر كتاب"صحافة تأكل أبناءها"، بصراحة لا أدري. لدي حالياً ثلاثة كتب جاهزة للطبع، وهي الطبعة الثانية من " أيام الرباط الأولى" و "صحافة تأكل أبناءها" و"200 كلمة خارج الصورة" ، والأمر هنا يتوقف على توفر الموارد المالية لطباعتها. *هناك قراء اعترضوا على الإشارة الى "المتع غير البريئة" عندما كنت أتحدث عن بعض أحياء الرباط. أتقبل بصدر رحب اعتراضهم وأتفهم دوافعهم الأخلاقية والدينية، لكن أود التأكيد بأنني كتبت عن وقائع ، ولم أكن أكتب عملاً روائياً. كتابة الوقائع تفرض على الكاتب أن ينقل المشاهد والصور بنزاهة، سواء نالت رضى الناس أو سخطهم. لعل المفارقة أن هناك من كتب يطلب المزيد من تفاصيل تلك " المتع غير البريئة"، وهنا تكمن إشكالية "الكتابة" و "الكاتب"، شخصياً لا أريد من الناس أن تفهمني كما أتمنى، بل يكفي أن يفهموا ما يريدون فهمه، مع توفر حسن النية. أقول، عندما يكتب كاتب عن وقائع، فإن إغراء الصراحة لا يقاوم، وبالتالي فإن الأخطاء أجمل من أن تقاوم. وفي كل الأحوال نحن نعود إلى "تاريخنا" لكي نعرف عنه، وليس لكي نتمسك به. وكل منا يملك اختيار مواقفه، ولكن من منا يملك اختيار مقاديره. * أحد القراء وجه لي لوماً لأني لم أكتب عن "سنوات الرصاص" وذهب بالاجتهاد إلى وجهة أخرى وقال إنني تجنبت ذلك مجاملة للنظام المغربي. يبدو مجدداً أن الأمر اختلط على البعض، إذ أنني كتبت عن "وقائع ايام طالب سوداني في الرباط" ولم يكن قصدي قطعاً، أن أكتب تحليلاً سياسياًً حول أوضاع سياسية في مغرب ذلك الزمان. * تشككت قارئة في استضافتي من طرف زميلتي "نجية" رحمها الله، في دارته بالدار البيضاء، على أساس أن "التقاليد والعادات الاجتماعية" لا تسمح بذلك، وهنا أود التأكيد وصاحبة الدعوة في رحاب الله وأسرتها موجودة، أن تلك الاستضافة تدل على نبل ومروءة وكرم وشهامة أسرة محترمة، لأنني كنت قولاً وفعلاً زميلاً لصاحبة الدعوة، وكانت علاقة تحت الشمس لا تشوبها أية شائبة. *هناك قاري التبس عليه الأمر، وهو يعتقد أن أول صحيفة عملت فيها كانت هي "الصحراء المغربية"، ثم تارة أخرى يقول إنها " المسيرة الخضراء". المؤكد إن صحيفة " الصحراء المغربية" صدرت عن مجموعة "ماروك سوار" في 11 يناير 1989، وبالتالي يصبح الأمر خارج أي جدال. أما"المسيرة الخضراء" فقد كانت صحيفة أسبوعية يتولى رئاسة تحريرها الاستاذ محمد الطنجاوي، وصدرت قبل صحيفة "الميثاق الوطني" عن مجموعة "ماروك سوار" ولم تصمد كثيراً، ولم أعمل بها على الإطلاق، إذ كانت بدايتي في " الميثاق الوطني" في أواخر مايو 1977، أي عملياً في يونيو، وبقيت هناك ما بين ثلاثة الى أربعة أشهر، عندما لم تعد الصحيفة تدفع أجرا، ثم انتقلت الى "العلم" في مطلع عام 1978، وكان معظم ما كتبت خلال تلك الفترة القصيرة في "الميثاق الوطني" هو عبارة عن مواضيع مترجمة، ليس إلا. ضمن التعقيب نفسه ،إشارة الى سقوط نظام الرئيس الصومالي سياد بري في عام 1975، والواقع أن نظام سياد بري تداعى وانهار عام 1991، وأجريت شخصياً معه حواراً في مقديشو عام 1989 . *وجد قراء في بعض العبارات تناقضاً، أو أخطاء في ذكر الأسماء والأمكنة ، وأود أن أشكرهم جزيلاً على ملاحظاتهم، وهي قطعاً ستكون حاضرة في الطبعة الثانية للكتاب. أختم لأقول، أن تحب انساناً أو يعجبك يكفيك النظر إليه، أما أن "تفهمه" فإن ذلك يفترض أن تضع نفسك في مكانه وفي ظروفه وأن تعيش مشاعره ومشاكله. ودائماً، أوثر أن أترك الأحكام للناس والتاريخ !!..