أخنوش: الحكومة تواصل تنزيل ورش تعميم الحماية الاجتماعية وتنفيذ سياسات اجتماعية منصفة ومستدامة    قضاء الرباط يقرر عدم تسليم الدكتور الإمام لمصر        انتخاب الاستقلالي الفخاري رئيساً لغرفة الصناعة التقليدية بجهة فاس - مكناس    ليالي المبيت بمؤسسات الإيواء السياحي المصنفة تسجل ارتفاعا بنسبة 4 في المائة    بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله    صاحب الجلالة يؤكد على ضرورة التوصل إلى الوقف الفوري والدائم لإطلاق النار بقطاع غزة    كدمات في رأس ووجه بيب غوارديولا بعد نهاية المباراة أمام فينورد بالأبطال    توقعات أحوال الطقس لليوم الأربعاء    استئنافية طنجة توزع 25 سنة سجنا نافذا على قاتلة "أنور" وخالها    كيوسك الأربعاء | إجراءات زجرية ضد مروجي الأخبار الزائفة بمواقع التواصل الاجتماعي    استثمارات ضخمة.. شركة الطرق السيارة بالمغرب تبدأ أشغال توسيع عقدتي عين حرودة وسيدي معروف    تركيا تعلق الدراسة في عدد من الولايات بسبب العواصف الثلجية        الرئيس الأسبق للرجاء أوزال بسجن "عكاشة" بسبب شيك بالملايير    نادي الدفاع الحسني الجديدة لكرة الطائرة بالجديدة منتشه بانجازاته المتميزة خلال السنوات الاخيرة    المؤبد والسجن النافذ لمرتكبي جريمة قتل شاب في حي المطار بالجديدة    حيازة حيوانات مهددة بالانقراض والاتجار فيها يجر شخصين للاعتقال بالناظور    وفد عسكري مغربي يزور حاملة الطائرات الأمريكية 'هاري ترومان' في عرض ساحل الحسيمة    الملك محمد السادس يدعو إلى حلول عملية لوقف النار ودعم الفلسطينيين إنسانياً وسياسياً    الرئيس الأمريكي يعلن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان    نقص حاد في دواء السل بمدينة طنجة يثير قلق المرضى والأطر الصحية    اتحاد طنجة لكرة القدم الشاطئية يتأهل إلى مرحلة البلاي أوف من البطولة الوطنية    فتح تحقيق في محاولة تصفية مدير مستشفى سانية الرمل تطوان    سبتة ترفض مقترحا لحزب "فوكس" يستهدف المهاجرين والقاصرين    عصبة الأبطال.. الجيش الملكي يهزم الرجاء بعقر داره في افتتاح مباريات دور المجموعات    لجنة الحماية الاجتماعية تجتمع بالرباط    المغرب يستعد لإطلاق عملة رقمية وطنية لتعزيز الابتكار المالي وضمان الاستقرار الاقتصادي            "نعطيو الكلمة للطفل" شعار احتفالية بوزان باليوم العالمي للطفل    سعد لمجرد يصدر أغنيته الهندية الجديدة «هوما دول»        معاملات "الفوسفاط" 69 مليار درهم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    في حلقة اليوم من برنامج "مدارات" : عبد المجيد بن جلون : رائد الأدب القصصي والسيرة الروائية في الثقافة المغربية الحديثة    الجديدة مهرجان دكالة في دورته 16 يحتفي بالثقافة الفرنسية    التوفيق: قلت لوزير الداخلية الفرنسي إننا "علمانيون" والمغرب دائما مع الاعتدال والحرية    مسرح البدوي يواصل جولته بمسرحية "في انتظار القطار"    شيرين اللجمي تطلق أولى أغانيها باللهجة المغربية    اللحوم المستوردة تُحدث تراجعا طفيفا على الأسعار    الأمم المتحدة.. انتخاب هلال رئيسا للمؤتمر السادس لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط        برقية شكر من الملك محمد السادس إلى رئيس بنما على إثر قرار بلاده بخصوص القضية الوطنية الأولى للمملكة    مواجهة مغربية بين الرجاء والجيش الملكي في دور مجموعات دوري أبطال أفريقيا    حوار مع جني : لقاء !    غوارديولا قبل مواجهة فينورد: "أنا لا أستسلم ولدي شعور أننا سنحقق نتيجة إيجابية"    الدولار يرتفع بعد تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية على المكسيك وكندا والصين    المناظرة الوطنية الثانية للفنون التشكيلية والبصرية تبلور أهدافها    تزايد معدلات اكتئاب ما بعد الولادة بالولايات المتحدة خلال العقد الماضي    الرباط.. انطلاق الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء        لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيام المعتقل
نشر في هسبريس يوم 11 - 08 - 2012

وصلنا فرادى إلى السفارة السودانية في ذلك الصباح من صيف رمضاني. كان قرارنا الاعتصام داخل مبنى السفارة اعتصاماً سلمياً حتى تتم الاستجابة لمطالبنا: إما منحة صيفية أو بطاقة سفر إلى السودان.
كنا في حدود 21 طالباً وتخلف عن المشاركة في الاعتصام أربعة طلاب.
كان مبنى السفارة يقع في "زنقة تيداس" في الربوة المطلة على نهر أبي رقراق.(1)
جلسنا جميعاً في الصالون الرئيسي للسفارة، وأبلغنا مستشار السفارة أننا في حالة اعتصام ولن نغادر المبنى حتى تلبى مطالبنا.
اتصل المستشار بالسفير الرشيد نورالدين الذي هرع على الفور إلى مبنى السفارة.
استدعاني السفير بصفتي رئيساً للاتحاد، وطلب مني إقناع المعتصمين بإخلاء مبنى السفارة على أساس التفاوض لاحقاً. أبلغته أن قرارنا هو الاعتصام حتى تتم الاستجابة لمطالبنا وبالتالي لا أستطيع إقناع زملائي بالعودة أدراجهم ما لم أتلق وعداً صريحاً بذلك.
كان الرشيد نورالدين في الأصل ضابطاً عسكرياً، قوي الشكيمة، من النواة الأولى التي نفذت انقلاب 1969 الذي جاء بالرئيس جعفر نميري للسلطة. شغل نور الدين موقعاً مهماً داخل تلك النواة فقد كان سكرتيراً لتنظيم الضباط الأحرار وكان يفترض أن يكون عضواً في مجلس قيادة الثورة، لكن أسندت إليه بالمقابل مهمة رئاسة جهاز الأمن القومي، وهو جهاز المخابرات الأساسي في عهد نميري، ثم أبعد في وقت لاحق من ذلك المنصب ليتولى قيادة الكلية العسكرية التي تخرج ضباط الجيش.
وعندما بدأت طموحاته تضايق نميري قرر "إبعاده" الى المغرب في منصب سفير.
كان نور الدين يردد في مجالسه الخاصة بأنه لا محالة عائد إلى الخرطوم لأن، موقعه هناك وكانت تلك بمثابة إشارة إلى عزمه القيام بعمل ما ضد النظام. كان يقول لي، رحمه الله، بعد أن توطدت علاقتنا بعد حادث الاعتصام بفترة "أنا مقاتل.. والمقاتلون مكانهم ليس في السفارات".
ولعل من مفارقات الزمان أن القدر لم يمهل الرشيد نور الدين لينتقل من السفارة إلى ساحة قتال، فقد توفي قرب سيدي يحى الغرب (2) في حادثة سير عقب لقاء عاصف مع نميري الذي كان يزور فاس في إطار جولة قام بها فى أواخر السبعينات للتوسط بين السادات والقادة العرب بعد زيارة القدس.
كان الرشيد نور الدين بالنسبة لنا هو المشكلة، لكن سرعان ما سيتحول الى جزء من الحل كما سنرى.
حاول السفير خلق انقسام في صفوفنا، وذلك بإقناع بعض الطلاب بوجود دوافع سياسية وراء الاعتصام، طالباً منهم الانسحاب من السفارة، وهي المعلومة التي زودت بها السفارة سلطات الأمن المغربية ،والتي سيجرى على ضوئها التحقيق معنا في وقت لاحق. لكن تلك المحاولة باءت بالفشل لسبب بسيط وهو أن دوافع الاعتصام كانت فعلاً وقولاً بسبب الظروف المعيشية الصعبة التي كنا نعيشها.
بعد ذلك، استدعى السفير قوات الأمن، وطلب منها إخراجنا من السفارة .
كان قرارنا ألا نصطدم برجال الشرطة المغربية، إذ ليس لدينا أية مشكلة معهم، فقضيتنا سودانية صرفة، ورغم أن بعض الزملاء اقترحوا ألا نغادر المبنى إلا في حالة استعمال القوة فإن هذا الاقتراح لم يجد قبولاً، كما قررنا عدم القيام بأي تصرف يؤدي إلى تخريب ممتلكات السفارة .
أحاط عدد لا بأس به من سيارات الشرطة بمبنى السفارة، ودخل إلى المبنى بعض ضباط الشرطة ليطلبوا إخلاء المبنى كان جوابنا ،أننا وطبقاً للأعراف الديبلوماسية، فوق أرض سودانية، وكان ردهم أن مبنى السفارة بالفعل يحظى بالحصانة الدبلوماسية، وأنه يعد أرضاً سودانية لكن وجودهم بداخله جاء بناء على طلب من السفير.
طلبنا منهم أن يحددوا لنا الوجهة التي سننقل اليها بعد أن أبلغونا بضرورة إجراء تحقيق معنا عقب خروجنا من المبنى فأكدوا لنا أننا سننقل إلى مكان آمن، وفور انتهاء التحقيق سيطلق سراحنا. وبعد نقاش وجدال لم يستغرق طويلاً، قررنا الامتثال لطلب الشرطة، وصعدنا إلى السيارات التي كانت قد أحاطت بالمبنى .
ولعل من طرائف ذلك النهار الرمضاني أن أحد الزملاء رغب في أن يحمل معه، عندما خرجنا من السفارة، صورة كانت مثبتة على جدران الصالون لفتاة سودانية جميلة، على سبيل الذكرى، لكننا رفضنا تلك الفكرة، خاصة أننا كنا سنخرج من السفارة إلى المعتقل ، فما معنى حمل صورة إلى معتقل.
ومن تلك الطرائف أيضاً، أنه أثناء تحرك السيارات من أمام مبنى السفارة، اتصل الضابط الذي كان في السيارة التي أقلتنا مع جهة ما، ليبلغها ربما بتفاصيل ما حدث، كانت لفظة "سودانيين" بالفرنسية تتكرر كثيراً من جهاز الاتصال(الراديو) وبما أن الحوار كان يدور بالفرنسية فإننا لم نتبين جميع تفاصيله، فما كان من زميلنا محمد عابدوني إلا ان يطلب من الضابط الزيادة في صوت جهاز الاتصال، فاستجاب لطلبه وعندما لم يفهم عابدوني الحوار طلب من الضابط أن يترجم ما يقال، حدجه الضابط باستغراب قائلاً : أنا رجل أمن ولست مترجماً.
بعد مسيرة لم تستغرق وقتاً طويلاً، طُلب منا النزول من السيارات، لنجد أنفسنا أمام مبنى شُددت حوله الحراسة في وسط الرباط قرب مفوضية الشرطة الثانية، وأُمرنا بالدخول لنجد أنفسنا داخل شقة تتكون من غرفتين، وهناك سيبدأ فصل آخر.
كان النهار قد انتصف عندما نقلتنا قوات الأمن من السفارة إلى الشقة التي تقع في وسط الرباط. عند مدخل الشقة وقف عدد من أفراد قوات الأمن مدججين بالسلاح، والواضح أنهم كانوا من قوات مكافحة الشغب.
عقدنا اجتماعاً لتقييم الموقف، وقررنا الدخول في إضراب عن الطعام إذا طالت فترة الاعتقال .
كان نهاراً رمضانياً قائظاً. هدنا الجوع بسبب الظروف الصعبة التي عشناها في الأيام الأخيرة في الحي الجامعي مولاي إسماعيل، وإذا أضفنا إلى ذلك ظروف الصيام، لكم أن تتخيلوا الوضع.
كان يدخل علينا بين الفينة والأخرى بعض رجال الأمن بالزي المدني، في البداية دخلنا معهم في جدال حول وضعنا، لكن سرعان ما رضخنا للأمر الواقع .
افترشنا بعض الأغطية واستسلم معظمنا للنوم.
لم نكن نعرف كيف سيكون إفطارنا. قبل مغيب الشمس بوقت قصير حدثت مفاجأة سارة، فقد أُحضرت كميات من حساء الحريرة (3) وساندوتشات وفواكه، كان واضحاً أن الوجبة أُحضرت من مطعم فاخر، وسنعرف فيما بعد أن السفارة السودانية اشترت تلك الوجبة من مطعم Jour et Nuit" ليل ونهار" في وسط الرباط.
بعد أن تناولنا وجبة الإفطار، عقدنا اجتماعاً لنتداول من جديد في الوضع، فقرر الزملاء أن أستمر ناطقاً باسمهم.
بعد ذلك جاء ضابط أمن وأبلغنا أن تحقيقاً سيبدأ معنا. اقترحت عليه المجموعة أن يقتصر التحقيق معي باعتباري ناطقاً باسمهم. وافق على الاقتراح، وطلب مني الانتقال إلى مكتب في المفوضية الثانية للشرطة، وهناك سيبدأ التحقيق الذي شمل فيما بعد بعض أفراد المجموعة.
كان تحقيقاً طويلاً مملاً، من ذلك النوع الذي يبدأ باسم الأب والأم ويستعرض جميع تفاصيل السيرة الذاتية وكل ما يتعلق بالإقامة في المغرب والدراسة وما إلى ذلك.
ثم انتقل التحقيق إلى الأسباب التي أدت إلى اعتصامنا بالسفارة . شرحت الأمر بما اعتقدت أنه يفي بالغرض، لكن المحقق كان يحاول التوصل إلى مسألتين لم يكن لهما أي أساس من الصحة، الأولى حول وجود أية علاقة بين جهة مغربية وقرارنا بالاعتصام في مبنى السفارة، والثانية ما إذا كانت توجد دوافع سياسية وراء القرار.
أتذكر الآن أنه حاول إيجاد تأويل لبعض أجوبتي، فقد سألني ما إذا كنت معارضاً للنظام (المقصود نظام نميري) فأجبت بالحقيقة، وهي أنني بالفعل معارض للنظام، فأضاف سؤالاً آخر حول انتمائي الحزبي أو التنظيم الذي أعمل من خلاله لمعارضة النظام، وكان جوابي أنني لم أنتم لأي حزب طيلة حياتي، وهذه حقيقة لم تتغير إلى يومنا هذا، أما معارضة نظام نميري فهي لأسباب واقتناعات شخصية، مؤداها أنه لا يوجد ،من وجهة نظري، أفضل من صناديق الاقتراع والتعددية السياسية وسيلة للوصول إلى الحكم . ومازلت أعتقد، وحتى يومنا هذا أيضاً أن الديمقراطية بكل العيوب التي يمكن أن يفرزها تطبيقها في مجتمعاتنا النامية هي أفضل من جميع الصيغ الأخرى. لكن المحقق لم يقتنع بحكاية الاقتناعات الشخصية، وألح كثيراً على احتمال وجود تنظيم ما، أعمل من خلاله.
***
انتهى التحقيق وعدت إلى زملائي، وجدتهم في حالة ترقب وتلهف لمعرفة ما جرى. رويت وقائع التحقيق بالتفصيل وقلت لهم إنني أستطيع استنتاج أمرين: الأول أن إقامتنا هنا قد تطول، وهذه استنتجتها من إجابة المحقق عندما سألته ما إذا كان بالإمكان أن يحضر لنا زملاؤنا الذين لم يشاركوا في الاعتصام بعض الكتب، وكان جوابه أنه من حيث المبدأ لا يوجد مانع. أما الامر الثاني وهو أن السفارة ربما تكون قد طلبت ترحيلنا إلى السودان، وهذه استنتجتها أيضاً من كلام المحقق عندما قال لي رداً على إجاباتي حول موضوع الانتماء السياسي:إنهم هناك سيعرفون أكثر منا هذه الأمور (وكان يقصد بهناك... السودان).
***
بحثنا طوال تلك الليلة في الاحتمالات، والواقع أن احتمال ترحيلنا إلى السودان قض مضاجعنا، إذ كنا جميعاً نتحدر من أسر فقيرة تعّول علينا لمساعدتها بعد الحصول على شهادة جامعية، لكن، كان قرارنا بالمقابل ألا نتراجع عن مطالبنا.
في اليوم التالي، سيطلق صديقنا عابدوني نكتة أخرى فيبدو أن الملل كان قد أصابه جراء الوجود في المكان نفسه ساعات طوالا فقال: يا إلهي، كيف يستطيع المحكوم عليهم بالسجن خمس سنوات مثلاً البقاء في المكان نفسه طوال هذه المدة؟
كنا نترقب ماذا سيحدث لنا مع وجبة الإفطار. لكن ومن حسن الحظ، وقبل موعد آذان المغرب بقليل، أحضر لنا رجال الأمن وجبة إفطار مماثلة لتلك التي أحضرت في اليوم السابق وأدركنا آنذاك أن السفارة ستزودنا بالأكل طوال فترة بقائنا في المعتقل، هنا سيقول لي الصديق محمد عمر، وهو يتحدر من منطقة تقع في ضواحي الخرطوم وكان شديد الاعتزاز بخلفيته الريفية: إذا كانت الوجبات ستكون على هذا الشكل فقل للجماعة المغاربة (يقصد الشرطة) نحن سنبقى هنا حتى بداية السنة الدراسية الجديدة.
سار الأمر على هذا المنوال، واستدعيت أكثر من مرة للتحقيق كانت المواضيع لا تتغير لكن صيغة الأسئلة تتغير في كل مرة.
اعتدنا على ظروف الاعتقال ولم يعد صديقنا عابدوني يتساءل كيف يمضي الناس وقتهم في السجون.
في اليوم الرابع سيسمح لزميلنا حاتم عابدين، ولم يكن قد شارك معنا في الاعتصام، بزيارتنا، وحمل معه مجموعة من الكتب وورق لعب، إضافة إلى خبر صاعق : فقد أبلغنا أن السفارة طلبت من الخرطوم إرسال طائرة عسكرية للمغرب لتعيدنا جميعاً إلى السودان .
***
عشنا لحظات صعبة عندما بُلغّنا أن السفارة السودانية في الرباط تنتظر وصول طائرة عسكرية لترحيلنا إلى السودان.
في اليوم الخامس من اعتقالنا لاحظنا أن الحراسة عند مدخل الشقة التي احتجزنا فيها خففت إلى حد كبير، إذ لم يبق سوى شرطيين عاديين، واختفى رجال شرطة مكافحة الشغب المدججون بالسلاح. أقول الآن بكل أمانة وموضوعية إن معاملتهم لنا ورغم كل شيء كانت عادية.
كان التحقيق معي نيابة عن زملائي قد توقف، وأصبحنا ننتظر قرار ترحيلنا ونحن نشعر بالأسى والحسرة، إذ أننا لم نرتكب جريمة، فقد طالبنا بأبسط حقوقنا كآدميين وهي حقنا في الأكل .
زارنا من جديد زميلنا حاتم عابدين، وأبلغنا أنه سمع في السفارة أن الطائرة ستكون من نوع "أنتونوف" وهي طائرة عسكرية روسية.
لم تكن هذه التفاصيل تهمنا كثيراً، فسواء كانت الطائرة "أنتنوف" أو من صنع "عباس بن فرناس" فالمهم بالنسبة لنا هو النتيجة، والنتيجة واضحة وهي أننا سنعود للسودان، والمؤكد أننا سنُحاكم وسنُحرم من متابعة دراستنا الجامعية .
هنا بدأت أحس بشيء من الذنب، فقد كنت وراء قرار الاعتصام، وزججت بزملائي في هذه المتاهة. كان أكثر ما يؤلمني أن ثقتهم فيّ لم تتزعزع ، كنت عندما أقول " لن نتراجع عن مطالبنا" أجدهم قد أصبحوا أكثر تشدداً مني.
وفي اعتقادي أن أكبر أمانة يمكن للشخص أن يحملها فوق عاتقه هي ثقة الناس.
في اليوم السابع أحسسنا بحركة غير عادية أمام مدخل الشقة. بعد فترة جاء رجلا أمن بزي مدني وشرعا في تسجيل أسمائنا من جديد، رغم أنه سبق أن سُجلت أكثر من مرة.
عشنا لحظات ترقب طويلة وصعبة، الدقيقة الواحدة كأنها ساعات، النهار الرمضاني بدا لنا دهراً، ونحن ننتظر ما سيحدث.
عند العصر حضر مجدداً بعض رجال الأمن بزي مدني وطلبوا منا جمع أغراضنا والاستعداد للمغادرة.
أمام مدخل العمارة وقفت سيارتا شرطة. انحشرنا فيهما.
تحركت السيارتان، وبعد فترة تبين لنا أننا نسير في اتجاه الحي الجامعي مولاي إسماعيل.
وصلت السيارتان للحي الجامعي، طلب منا رجال الأمن النزول وقالوا لنا جملة واحدة : لقد تقرر الإفراج عنكم.
هنأنا بعضنا بعضاً.
أحسست بسعادة غامرة لأن حكاية ترحيلنا للسودان لم تتم وبالتالي انزاح ذلك الكابوس.
تكلف زملاؤنا الذين لم يشاركوا في الاعتصام بإعداد وجبة الإفطار.استسلمت شخصياً وبعد حمام ساخن إلى نوم عميق.
***
أسئلة كثيرة كانت تدور في أذهاننا: هل تراجعت السفارة عن قرار ترحيلنا ؟ وإذا كانت قد تراجعت فما هي أسباب ذلك؟ هل لأن طائرة" أنتونوف" لم تصل من الخرطوم ؟ ثم هل فعلاً طلبت السفارة طائرة عسكرية؟ أم أن الأمر لايعدو أن يكون تهديداً؟
كل هذه الأسئلة ظلت معلقة دون جواب .
***
لم تجر أية اتصالات بيننا وبين السفارة، وكانت تفصلنا ثلاثة أيام عن عيد الفطر المبارك .
قبل يوم العيد تلقيت رسالة شفوية من السفير الرشيد نور الدين، مفادها أنه سيجتمع بنا في أول يوم من أيام العيد لإجراء حوار يتمنى أن يكون مثمراً وبناءً. أبلغت زملائي بذلك فاقترحوا من جديد أن أكون المتحدث الوحيد في الاجتماع المرتقب.
***
صباح العيد ذهبنا إلى السفارة ، كان هناك السفير وكافة أعضاء السفارة. تحدث السفير طويلاً عن "مؤامرة" ضد نظام نميري وقال إنه ، وطبقاً للمعلومات التي تلقاها من الخرطوم، كان يعتقد أن اعتصامنا بالسفارة جزء من المؤامرة .
هنا سأشرح قليلاً: في عام 1976 قامت قوات تابعة للجبهة الوطنية التي كانت تضم آنذاك أحزاب المعارضة السودانية (الاتحاد الديمقراطي وحزب الأمة والإخوان المسلمين) بهجوم مسلح على الخرطوم للاستيلاء على السلطة وإسقاط النظام.
جاء المهاجمون من ليبيا حيث كانوا يتدربون، ورغم أنهم استولوا على مرافق مهمة وسيطروا على بعض الحاميات العسكرية، فإن المحاولة لم تنجح، وأُطلق عليها من طرف وسائل الإعلام الرسمية السودانية وصف "الغزو الليبي"، وكان قد تردد أن الخطة تقضي وبالتزامن مع الهجوم المسلح القيام بمظاهرات وإضرابات، وبما أن اعتصامنا بالسفارة جاء متزامناً مع تلك المحاولة (قبلها أو بعدها لم أعد أذكر) فقد خلُصت أجهزة نميري إلى أن الاعتصام يدخل في إطار المخطط المشار اليه خصوصاً أن سودانيين كانوا يأتون من ليبيا في زيارات سياحية للمغرب واتصل بعضهم بعدد من الطلاب.
***
بعد أن تحدث السفير، طلبت الكلمة وأبديت استغراباً شديداً للربط الذي تم بين اعتصامنا وما حدث في الخرطوم، وفندت ما قيل جملة وتفصيلاً.
قلت: نحن نعارض النظام ولدينا الشجاعة أن نقول ذلك الآن وغداً، لكن معارضتنا لم تتعد التعبير عن رأينا. تحدثت طويلاً عن معاناتنا وأتذكر أنني قلت مخاطباً السفير :اليوم هو أول أيام العيد، وها قد انتصف النهار، لكننا لم نذق طعم الأكل بعد .
ويبدو أن كلامي كان مؤثراً ومقنعاً، كما أن السفير تأكد أن مسألة مشاركتنا في المخطط إياه هي محض هراء.
بعد ذلك، سيأمر السفير، رحمه الله، أن تصرف لنا إعانة مالية إلى حين يتم إيجاد حل لمشكلة المنحة الصيفية.
لقد نجحنا.
________
(1) نهر أبي رقراق يفصل بين مدينتي الرباط وسلا.
(2) تقع منطقة سيدي يحى الغرب في الطريق بين مدينتي فاس والقنيطرة.
(3) الحريرة حساء مغربي يتكون من الطحين والحمص والبقدونس والتوابل وقطع صغيرة من اللحم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.