كان أول ما واجهنا مع بدء أول عطلة صيفية لنا في المغرب هي مشكلة السكن، إذ أن الأحياء الجامعية تغلق أبوابها في الصيف. اتصلنا بالسيد فؤاد الحسيسن مدير" الحي الجامعي مولاي إسماعيل وعرضنا عليه الأمر فوافق على تخصيص جناح في الحي يظل مفتوحاً للطلاب السودانيين. كان يسكن في الحي أربعة طلاب مصريين، وعندما علموا أن بعض غرف الحي ستظل مفتوحة، طلبوا من اتحادنا التوسط لهم للسكن خلال العطلة الصيفية وهو ما تم بالفعل، بعدها قدم لنا الطلاب المصريون اقتراحاً لطيفاً سأعود إليه لاحقاً. كانت المشكلة الثانية التي تواجهنا هي عدم وجود منحة خلال عطلة الصيف. والواقع أنها لم تكن مشكلة، بل كانت معضلة عويصة. ويبدو لي أن الأمر يحتاج إلى قليل من الشرح لفهم أبعاد هذه المشكلة. جرت العادة في تلك السنوات، أن توفد وزارة التعليم العالي السودانية عدداً من الطلاب إلى الخارج للدراسة نظراً لمحدودية الطاقة الاستيعابية لجامعة الخرطوم، وكانت هي الجامعة الحكومية الوحيدة في البلاد. كان معظم هؤلاء الطلاب يوفدون إلى دول المنظومة الاشتراكية سابقاً ومصر والعراق. في هذه الدول يتلقى الطلاب المبعوثون منحة كاملة تغطي السنة بأكملها، لا السنة الدراسية فقط كما هو الحال في المغرب. وعندما أدركنا هذه الحقيقة أجرينا اتصالات مع السفارة السودانية في الرباط، وقدم اتحاد الطلاب للسلطات السودانية عبر السفارة اقتراحين يقضي الأول بصرف منحة صيفية تغطي فترة العطلة، والاقتراح الثاني تأمين بطاقات سفر من الدارالبيضاء إلى الخرطوم، تتيح للطلاب تمضية العطلة مع ذويهم. لكن السلطات السودانية لم تلبّ أياً من المطلبين وبالمقابل تبرعت وزارة الشباب والرياضة السودانية بمبلغ للطلاب السودانيين في المغرب، واشترطت صرفه في مناشط شبابية أي ألا علاقة له بإعاشة الطلاب الذين سيمضون عطلة الصيف في المغرب . لكن اتحادنا رفض هذا الاقتراح، وظل يطالب بتلبية أحد المطلبين. وعندما قررت اللجنة التنفيذية للاتحاد بقائي مع زميل آخر إلى جانب الطلاب ،الذين سيبقون في الحي الجامعي خلال العطلة الصيفية، كلفنا أعضاء اللجنة بمواصلة الاتصال مع السفارة لإيجاد حل، وفي الوقت نفسه الإنفاق من الأموال القليلة التي بقيت في صندوق الاتحاد على الحالات المستعصية. هذا التوضيح سيكون مهماً جداً لفهم الأحداث التي ستقع في وقت لاحق، والتي تطورت إلى الحد الذي كان سيؤدي الى ترحيلنا من المغرب إلى السودان، وتقديمنا للمحاكمة بتهمة التآمر على النظام السوداني. *** أعود الآن إلى ظروف إقامتنا في الصيف، وأبدأ بالاقتراح الذي قدمه لنا زملاؤنا المصريون. كان أولئك الزملاء وهم : أحمد الشافعي وأحمد شميس وعلي عثمان ويوسف حسن ، ذوي ميولات يسارية واضحة، وهو أمر على أية حال لم يكن يعنينا في شيء. ما كان يهمنا أنهم استنجدوا بنا لحل مشكلة إقامتهم في الحي، واستجبنا لطلبهم بعد ذلك قدموا لنا اقتراحاً بالاندماج في اتحادنا على أن يتحول اسمه إلى "اتحاد طلاب وادي النيل". كان من رأيهم أن عدد الطلاب المصريين في المغرب لن يزيد لأن السلطات المصرية ليست متحمسة لمتابعة طلابهم الدراسة في المغرب لأسباب لا أحد يعرفها، وبالتالي فإنهم لا يتوقعون أن يصل عددهم الى الحد المعقول الذي يمكنهم من تشكيل اتحاد خاص بهم. والواقع أن "اتحاد طلبة وادي النيل" ظل اقتراحاً معلقاً في الهواء، لكن المهم أن الزملاء المصريين عاشوا معنا ذلك الصيف بكل إحباطاته ومراراته ومشاكله. هنا لابد لي من وقفة، لأبين بعض جوانب العلاقة المصرية السودانية، ليس في جانبها السياسي، ولكن في جوانبها الإنسانية والاجتماعية. هذه العلاقة مركبة وأعمق بكثير مما قد يدركه الآخرون، فمصر بالنسبة للسوداني هى جزء من نفسه، ومن مزاجه، ومن حمولته العاطفية والفكرية، وهي ليست بلداً آخر، بل هي امتداد لبلده في صيغة أخرى . وبالنسبة للمصري فإن البلاد العربية شيء، والسودان شيء آخر، وإذا كانت نعرة التعالي أو النزعة الفرعونية تطفو على السطح أحياناً، أقول"أحياناً" وأشدد على ذلك، حين يتعامل المصري مع العرب الآخرين، فإن هذه النزعة تتوارى عند تعامله مع السوداني، لكن مما يزيد الأمر تعقيداً، أن المصري وبسبب هذه الخصوصية يريد السوداني دائماً إلى جانبه، وهو بالفعل إلى جانبه، ولكن برؤيته هو، لا بالرؤية المصرية . المصري يرى في السوداني "الأسمراني الطيب ابن الحلال" والسوداني يرى في المصرى "ابن النيل الشقيق" وما عدا ذلك "كلام ساكت".(1) ولعل من المفارقات اللطيفة أن عطلة الصيف في الحي الجامعي مولاي إسماعيل أتاحت لمجموعتنا التعامل لأول مرة التعايش مع مصريين، وحقيقة جسد ذلك الصيف رغم مشاكله قيماً نبيلة لدى الجانبين . وأتذكر الآن طرفة مصرية من تلك الايام . عندما بدأت ظروف معيشتنا تتأزم، كان أحمد الشافعي أحد ألطف من في مجموعة الأربعة وقد كانت النكتة لا تفارقه يقول: سودانيون ومصريون يلتقون في المغرب على مائدة الجوع، هذه هي وحدة وادي النيل الحقيقية. كان صيفاً كئيباً لمجموعتنا التي بقيت في الحي الجامعي، إذ أن كلمة "عطلة" بالنسبة لنا كانت مجرد لفظة دخلت قاموس حياتنا دون أن يكون لها أي مدلول . في البداية حاولت مجموعة منا تزجية الوقت بالذهاب إلى شاطئ البحر. كان الشاطئ الوحيد الذي في المتناول هو شاطئ الرباط، إذ أن الشواطئ الأخرى تتطلب استعمال وسائل النقل، ونظراً للحالة المادية الصعبة، فإن أي قرش كان يفترض المحافظة عليه. ثم إن الزملاء اكتشفوا أن السباحة في الشاطئ تزيد لون البشرة سمرة، وبما أن بشراتنا أصلاً سمراء، فلم تكن هناك حاجة إلى لون داكن إضافي، لذلك سرعان ما طويت فكرة الاصطياف مع المصطافين، وهكذا أصبحنا نبدد الوقت في التجوال في مدينة الرباط، للتعرف على الأحياء التي لم نرتدها بعد. كنا نخرج في الصباح ونذرع الرباط جيئة وذهاباً، وخلال تلك الجولات سنكتشف المدينة المكتظة: وأعني أحياء يعقوب المنصور والتقدم واليوسفية . *** ذلك الصيف ستعرض التلفزة المغربية مسرحية "مدرسة المشاغبين" ولم يكن في الحي الجامعي جهاز تلفزة، لذلك كنا نذهب لمشاهدة المسرحية في مقهى يقع قبالة الحي. لكن، يبدو أن صاحب المقهى انزعج من الزحام الذي يعرفه مقهاه دون أن نشرب أي مشروب ساخن أو بارد، لأننا وببساطة لم نكن نملك نقوداً نبذرها في هذه الكماليات. وبعد أن ضاق صاحب المقهى بنا ذرعاً، بادر لإعطاء تعليماته للنادل بإغلاق الجهاز فور أن تبدأ المسرحية. هنا ستتفتق قريحة زملائنا المصريين، الذين كانوا يقيمون معنا في الحي، عن فكرة طريفة، فقد اقترحوا على صاحب المقهى أن نشاهد فصول المسرحية وقوفاً، حتى لا نشغل مقاعد المقهى ودون أن نستهلك شيئاً، مقابل أن ندفع له مبلغاً قليلاً من الدراهم. وافق صاحب المقهى، وهكذا أصبحت أمسياتنا تلفزيونية، ونهارنا تجوالاً في أحياء الرباط . فاتني أن أقول لكم بأننا قسمنا أنفسنا إلى مجموعات: تتكلف مجموعة بشراء الخضر واللحم أو الدجاج أو السمك من سوق ديور الجامع أو العكاري، في حين تتكلف مجموعة أخرى بإعداد وجبة ساخنة واحدة ووحيدة في اليوم، أما باقي الوجبات فعلى باب الله. كانت محتويات هذه الوجبة تتناقص بتناقص النقود القليلة التي بحوزتنا، حتى جاء وقت استبدلنا فيه اللحم بمرق "الكنور" و"ماجي" وأصبح السمك هو السردين ولاشيء عداه، أما الدجاج فكنا نشتري منه قطعة واحدة تطبخ مع البطاطس. *** استمر الحال على هذا المنوال حتى دهمنا شهر رمضان المبارك ذلك الصيف، هنا ستزداد الحالة بؤساً. كنا نتصل بالسفارة يومياً من أجل إقراضنا مبلغاً نداري به الجوع إلى حين إيجاد حل جذري لمشكلة منحة الصيف . ورغم أن السفير السوداني آنذاك المرحوم الرشيد نور الدين، وهو شخصية مثيرة للجدل سأعود إلى الحديث عنه، كان متفهماً لظروفنا، لكن معلومات تلقاها من الخرطوم حول وجود "مخطط تآمرى" ضالع فيه اتحاد الطلاب السودانيين في المغرب، حالت دون استجابته لمطلبنا. فكرنا في حلول أخرى، ومن ذلك الاقتراض من صديقنا "عابد" صاحب الحانوت الذي يوجد قبالة الحي الجامعي، بيد أن "عابد " أبلغنا، ورغم ثقته أنه سيسترد فلوسه، استعداده أن يقرضنا ما نحتاجه من مواد تموينية مثل الزيت والبصل والتوابل والخبز، لكنه رفض إقراضنا نقوداً لشراء لحوم أو خضروات . كنت قد أنفقت كل ما في صندوق الاتحاد لشراء حاجياتنا من الأكل ولم يكن مبلغاً كبيراً، ثم قررت بيع دراجتي النارية وحذا حذوي زميل آخر، وبما أننا كنا عانينا كثيراً من الجوع فقد صرفنا المبلغ بشيء من التبذير لذلك نفذت النقود التي توفرت لدينا خلال فترة وجيزة . ومما زاد الطين بلة أن مجموعة منا ،وكان من بينهم الداعي لكم بالخير، أصيبوا بهرش جلدي يطلق عليه "أمل حياتي" لا أعرف من أين جاء ذلك الإسم لأنني لم أجد أية علاقة بأمراض الجلد وآمالنا في الحياة. كان لابد من شراء الدواء لذلك المرض الذي أكمل ما كان ينقصنا من مصائب . تبعاً لهذه الوضعية المزرية أطلقنا على الحي الجامعي اسم "تل الزعتر" وهو لمن لا يعرفه، مخيم فلسطيني كان يوجد في بيروتالشرقية إبان الحرب الأهلية اللبنانية، وقد حاصرته قوات الكتائب لفترة طويلة لتجويع سكانه تمهيداً لإجلائهم ... وهو ما حدث بالفعل . *** إزاء ذلك كان لابد أن نتخذ خطوة حاسمة لنخرج من هذا النفق ، فعقدنا اجتماعاً في "تل الزعتر" تدارسنا فيه الوضع وخلال الاجتماع قلت لزملائي إنه لم يعد لنا ما نخسره، لذلك لابد من خطوة حاسمة. وقدمت لهم اقتراحاً بدا لهم مثيراً وجريئاً: الاعتصام في مبنى السفارة. بعد نقاش طويل وافق الجميع على ذلك القرار، وحددنا اليوم التالي لتنفيذه قبل أن يتسرب الخبر ويصل إلى السفارة. _______ (1) كلام ساكت تعبير يعني في العامية السودانية كلام بلامعنى [email protected]